المتعة الغائبة
تراجعت قيمة المقالة. زاد عدد الكتاب، ولكن النوعية لم تتقدم الكثير. عندما تتصفح الصحف والمجلات، تجد أن ثمة خللا ملموسا في ما يكتب ويقدم على أنه مقالات.
للمسألة مسببات كثيرة.
لا بد من الاعتراف أن المقالة شيء جديد على مشهد الكتابة بالعربية. هناك خلط مستمر بنوعية ما يكتب وما يمكن تقديمه من أفكار. الارتباك محسوس حتى في المطبوعات أو المواقع الإلكترونية الرصينة.
عمود الرأي مثلا ليس مقالة. هو انطباع أوّلي قصير وغير عميق عن حالة راهنة. يُنتظر من الكاتب ألاّ يذهب بعيدا في عرضه للفكرة. لا أن يتخمها بالمعلومات، ولا أن يبالغ في تعقيد لغتها. عمود الرأي لا يحتمل الإكثار من أيّ شيء. وهذا ينطبق على طبيعة عمود الرأي المعنيّ، سواء كان سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا. الحكاوي والاستعادات والخواطر اللفظية هي أسوأ أنواع أعمدة الرأي. عمود الرأي نوع من الكتابة هو الأرشق في ما يمكن أن يقدمه كاتب صحفي.
الأكاديميون يصرون على أنهم كتاب صحفيون أو مثقفون. لا شك في أن بعضهم من أفضل من كتب باللغة العربية. لكن الأغلبية تضيّع الفكرة من المقالة السياسية أو الثقافية. يتحول الأمر إلى ورقة علمية يمكن أن تنشر في مطبوعة دورية، ولكن بالتأكيد لا محلّ لها في الصحف والمجلات. يستعرض الكثير من الكتاب الأكاديميين معلوماتهم أمام القارئ بطريقة لا تفيده. فقرات أشبه ما تكون جملا من تلك التي ترميها علينا محركات البحث على الإنترنت، لا نعرف بالضبط ما الفائدة منها وعادة ما تشوّش على المغزى من الموضوع.
يرهق القارئ حقيقة بمطالعته لهذا النوع من “المقالات”. ليس لأنها طويلة (وهي عادة تكون طويلة لأنه من غير المعروف عن الأكاديميين قدرتهم على الإيجاز والتحرير وشطب الزائد). بل لأن الكثير من الحشو المعلوماتي ليس معرفيا. ولا يتركك كاتب “المقالة” إلا بعد أن يرشق الموضوع بالكثير من الإشارات والمصادر والإحالات (أنظر ص 5 من كتاب رأس المال لكارل ماركس، أنظر ص 66 من الجزء الأول من تاريخ الطبري – فهمنا، ولكن أريد أن أنظر إلى مقالك). هذا النوع من الكتابة لا يحدث أبدا مع كاتب أكاديمي غربي. والغرب هو مخترع الفكرة الأكاديمية المعاصرة. لا يمكن أن تمسك صحيفة يومية أو مجلة ثقافية أسبوعية أو شهرية غربية وتجد أن الكاتب يقول لك: أنظر إلى كذا.
المقالات السياسية في صفحات الرأي مشكلة أخرى يقدرها محررو صفحات الرأي ربما أكثر من القرّاء. لا شك أن الوقع السياسي يفرض توجها على الكتاب. الحدث السياسي أو الاقتصادي أو المجتمعي هو مؤشر دال لما يمكن أن يتناوله الكاتب. ولكن غالبية مقالات الرأي التي نجدها بين أيدينا عادة ما تكون متشابهة. الخبر يسرد ثم يعلق عليه بخفة، ويرسل من دون تمعن وصناعة رسالة للقارئ عن المعنى من كل هذا. “السلق” بلغة الصحافة هو الشيء المعتاد.
وما يزيد من انتشار السلق هي التعاقدات التي تتبناها الصحف والمجلات مع الكتاب والتي ترتبط عادة بموعد أسبوعي أو شهري ثابت. ثمة واجب وموعد وليس فكرة يجب أن تقدم في وقتها. لا شك أن بعض الصحف والمجلات تستكتب محترفين ألمعيين تكون مقالاتهم من أركان الحضور الصحفي لتلك المطبوعات ومواقعها على الإنترنت. ولكن الغث هو العلامة المميزة للكثير من صفحات الرأي.
فن المقالة الطويلة الشاملة (الإيسيه)، يكاد يكون مفقودا في مجلاتنا. مقالة تفهم منها كل أساسيات الموضوع من دون الحاجة إلى مطالعة كتاب عن الأمر. هو جنس أدبي لم يجد لنفسه موطئ قدم في ثقافتنا.
عدم إتقان تقنية كتابة المقالة قضية لا تقل أهمية. في كثير من الأحيان تبدأ بقراءة موضوع سياسي أو ثقافي. بعد عدد من الفقرات، تفقد البوصلة ولا تعرف هل ما تقرأه رأي أم معلومة أم خبر. مقالات أشبه بالشوربة التي تضيع فيها معالم المكونات. بعض الكتاب لديه ما يقوله، ولكن عدم إتقان تقنية تقديم الفكرة يجعل الكاتب نفسه تائها في النص، فإما يخسر اهتمام القارئ ويضيعه، أو أن يتم القارئ المقالة ولا ينتهي إلى الفكرة التي يسعى الكاتب إلى تقديمها.
تقنية الكتابة لا تقل أهمية عن الأفكار والآراء وهي من مقاتل الكتابة السياسية والثقافية في مطبوعاتنا. من طول الجملة إلى طول الفقرة، إلى علامات التنقيط، إلى الارتباك في الصياغة الخاصة بالجملة، هذه كلها أساسيات لا تجد الكثير من الاهتمام لدى كتاب المقالات.
ثمة متعة غائبة في ثقافتنا. متعة قراءة المقالة والاستمتاع به.