قصـــتان
لاعب الريشة
لا يطيق لاعب الريشة أن يجد نفسه وحيداً، لذلك فهو يتنقل بين الحدائق باحثاً عمّن يشاركه اللعب، قدماه تقودانه إلى حيث يقبع الرجال صحيحو البنية الذين أنهوا منذ فترة معركتهم الأخيرة، وتقاعدوا لكنهم ما زالوا بانتظار أن تندلع حرب جديدة حتى يخرجوا بنادقهم الصدئة ويعودوا إلى المكان الوحيد الذي يستطيعون أن يرفعوا فيه أًصواتهم عالياً، ويجمعوا الجنود حولهم، كان وقوفه بينهم غريباً، لكنهم كانوا يستمتعون بهذا الرجل الغريب الذي يحمل مضربه ويرسل الريشة بعيداً ثم يركض ليلتقطها، شاركه أحدهم اللعب، وتحلق الباقون حولهما يتابعون تغلب لاعب الريشة بسهولة على الجنرال، وجعله يتصبّب عرقاً، فسخر منه الآخرون، لكن ذلك لم يغير في واقع الحال شيئاً ظل الجنرال قادراً على إصدار الأوامر بينما كان على لاعب الريشة أن يركض ليحضر الريشة من المستنقع القريب، ومن أعلى شجرة السنديان، لقد تسلق الشجرة مثل قرد والتقط الريشة بأسنانه ثم عاد راكضاً والجنرال واقف في مكانه عاقداً ذراعيه القويين، كان الخجل بادياً على وجهه بسبب خسارته النقاط، لكنه ظل جنرالاً.
حين اندلعت الحرب الأخيرة كان الجنرال واقفاً في المقدمة، وكان الجنود يقفون خلفه ينتظرون إشارة منه لينطلقوا، لكن إشارته تأخّرت، لأن لاعب الريشة كان يتقافز على التل المقابل، يلاعب أحد جنود العدو، كان الجنرال يتابع المباراة بينهما، وهو متأكد أن لاعب الريشة سيفوز على ذلك الجندي، كان جنود الأعداء يتابعون المباراة ويهتفون مشجّعين صديقهم الجندي هزيل الجسم الذي كان يلهث بسبب الضربات التي كان يوجهها لاعب الريشة، إنه يحرز نقاطاً متتالية، هكذا فكر الجنرال، وهو يبتسم، استدار إلى جنده وأخبرهم أن لاعب الريشة صديقه، وأنهما كانا يلعبان الريشة معاً في فترة السلم، لكنه لم يخبرهم أنه كان يخسر دائماً.
سقطت الريشة على الأرض، واندفعت أولى القذائف من جانب العدو، أِشار الجنرال لجنوده فهجموا، وابتدأت المعركة، استمرّت يوماً يومين، شهراً شهرين، سنة سنتين، كان لاعب الريشة قد أصبح عجوزاً حين وضعت الحرب أوزارها لم يكن ثمة حدائق ليلعب فيها، وكانت خوذة الجنرال وحدها معلقة على شجرة السنديان، حمل لاعب الريشة مضربه وسار يبحث عن حديقة، وعن عسكريين متقاعدين، وهناك على التل، كان ذلك الجندي ينتظر، وكان مضربه مكسوراً، وكان يلهث، لأن المعركة ستبدأ بعد قليل…
وهو يترنم
الهزيمة تثقل ظهري، لا أريد أن أحمل هزائم أكثر، دعوني وحيداً وارحلوا، ارحلوا جميعاً، دعوني ألملم ما تبقى لي من العمر في كيس عتيق وأمضي إلى النهر، هناك سأجد ضالتي، هناك حيث لن يراني أحد، سأخرج خيبتي وألقيها في الماء، لن يراني أحد، لن يراني أحد.
أعلم أني عشت طويلاً، لكنّي لم أكن أريد ذلك، لم أكن أريد أن أعيش هذه السنوات كلها، كنت أريد أن أزوّج أبنائي ثم أغادر الحياة بهدوء كما عشتها بهدوء، لم أكن أريد رؤية أحفادي، لم أكن أريد ذلك، ما الذي سأخسره بعد الآن؟
يا الله، أنا لم أغادر هذا البيت، عشت فيه ثمانين عاماً، يا الله كان بيت أبي، وقد مات فيه، هناك قرب شجرة التين تلك، كان هذا قبل سنوات طويلة، وهناك في الزاوية ماتت أمي، كانت تصلّي صلاة الفجر، ركعت ولم تنهض، وهنا، هنا في هذا المكان كنت أقف حين سمعت خبر ولادة أول أبنائي، ابني الأكبر الذي صار جَدّاً، يا الله، يا الله، لم أكن أريد هذا كله، كنت أريد أن أراهم رجالاً فقط، لم أكن أريد رؤية أولادهم، هنا في هذا المكان يا الله سمعت خبر استشهاد ابن ابني الأكبر، وهناك قرب الباب الخشبي سمعت باستشهاد ابن ابنتي، وبعدها بيومين فقط يا الله، أبلغوني بوفاة ابنتي حزناً على وحيدها الذي مات في المعتقل، وهناك هناك قرب شجرة الجوز ماتت زوجتي، سقط عليها صاروخ وقتلها، لقد زرعت شجرة الجوز بيديها منذ ثلاثين عاماً حين رزقنا الله بثالث أولادنا، يا الله، لقد استشهد هو أيضاً وهو يحاول سحب أمه من تحت الأنقاض، يا الله، يا الله، لم أكن أريد أن أعيش هذا الوقت كله، كنت أريد أن أراهم رجالاً، رجالاً، لقد كانوا يلعبون حولي في صغرهم، هنا في الحوش كانت أرضه ترابية وقتها، وكنت أصرخ موبّخاً كلما أثاروا الغبار بحركات أقدامهم، هنا في هذا الحوش، هنا في هذا المكان الذي انهمرت عليه القذائف فسقطوا جميعاً بينما كانوا يستعدون لتشييع أخيهم الأصغر الذي استشهد وهو يدافع عن بيته، يا الله، يا الله، لم أكن أريد أن أعيش هذه السنوات كلها، يا الله…. يا الله.