الأنا والآخر وتفجر الهويات

لقد تعددت الدراسات والأبحاث حول تصورات الحوار الثقافي والحضاري وكانت كلها تصبو إلى محاولة تجاوز العلاقات العنيفة التي يتسم بها المجتمع الدولي حاليا. وليس ثمة من شك في أهمية تلك الأبحاث التي بالرغم عن طابعها الأيديولوجي أحيانا إلا أنها قد تقدم للإنسانية أوجها متعددة للتعايش ولتجاوز بعض أسباب العنف والتخاصم. فليس همّنا في هذا المقال أن نقدم وجهة نظرنا في هذا المجال ولا أن ننقد بعض الأطروحات السائدة ومستتبعاتها. فهمّنا أن نلقي أضواء على نمط تعامل الثقافات مع بعضها تحاورا وتحالفا للتخفيف من وطأة العنف ومحاربة التطرف والقضاء على أسباب التقوقع والدغمائية.
سنحاول في هذا البحث إذن استدعاء مفهوم التثاقف وإخضاعه للتحليل والتنقيب. ولكننا من الآن نستطيع ملاحظة صيغة اشتقاقه التي تفيد الاشتراك المتبادل في مجالات الثقافة والتثقيف والذي يفترض أن يتم قبول التنوع الثقافي من حيث هو واقعة بديهية للحداثة عموما وللمعاصرة خصوصا. كما يتم قبول التواصل بين الثقافات من حيث هو غاية التعايش بطريقة متبادلة وبتأثير متبادل دون أن تكون هناك هيمنة أحادية لطرف على طرف آخر. هذه الصيغة المتبادلة والتي عبّرنا عنها بهذا الاشتقاق ذات دلالة تأسيسية لأنها ستعلو بالنقاش حول هذه الإشكالية إلى المستوى التنظيري العام ولا تبق سجينة الفكر الأيديولوجي والسياسي.
كيف يتمفصل هذا التواصل؟ وما هي قيمته الأنثروبولوجية، وهل له من أثر على الاجتماع البشري؟ وهل هنالك أساس لهذا التصور؟ وهل يشكل التنوع الثقافي تهديدا ثابتا للعيش معا؟
ولمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، سوف نعمد في البداية إلى شرح الظاهرة ذاتها، وذلك بتحديد مكوناتها، وبتحليل اشتغالها ضمن الواقع المعيش، بعد ذلك سوف نبحث عن إضفاء رؤية أخلاقية والتزاما سياسيا عليها، وذلك حتى نثبّتها على قواعد معيارية محاولين قدر الإمكان إخضاع هذه المقاربة للنقد حتى نعرف فيما إذا كان التنوع الثقافي يتوافق أم لا مع الكونية المؤسسة لتواصلية الإنسان.
التنوع الثقافي
يرتبط المنظور العام للتنوع الثقافي العالمي، قبل كل شيء بتصارع العلاقات على الصعيد القومي والعالمي. لقد كان القرن الماضي هو القرن الأشدّ دموية الذي عاشته البشرية. فغالبا ما لحقت الحروب التي صارت كليّة وعالمية، مجازر جماعية ومعسكرات اعتقال وحشد وإبادة عرقية وعنصرية من كلّ نوع، وحظر وانسداد للأفق واستعمار جديد وغزو وبربرية. وبداية هذا القرن ليست أفضل، إذ أن عدد الضحايا والدمار يفوقان الخيال. تعيش الإنسانية الآن، في نفس الوقت، حياة قصوى من الضغط تخيّم عليها الحروب، والصراعات العرقية، والإرهاب، وعدم الاستقرار والعنف وذلك من أجل تثبيت نظام اقتصادي وسياسي جديد، ودبلوماسية القوة التي استبدل فيها التهديد بالقوة بالاستخدام اليومي لها والهيمنة أحادية الجانب لقوة وحيدة تريد القبول بها بما هي كذلك في كل مكان من العالم.
ليس غريبا إذن، أن نرى بروز «تواصلية جديدة” مؤسسة على مصطلحات حربية مثل الإرهاب، و”محور الشر”، والتهديد النووي وغيرها بل يجب القول إن الحرب ذاتها قد أصبحت تواصلا مثل ما أكده الفيلسوف الألماني هيغل [1] من خلال التشديد على ضرورتها في إعادة إكساب الشعب معناه.
تبلورت هذه الرؤية الكارثية للعالم، في الوقت الذي صارت فيه سهولة تنقل البشر والأشياء والأفكار أكثر فأكثر تناميا وفي الوقت الذي كثرت فيه الاعتقادات المتنوعة والمذاهب المتناقضة وذلك حتى تجعل من عالمنا مجالا للتنوع الثقافي. فهذه التعددية هي نتيجة لإعادة إقرار التنوع الثقافي وإبراز الهويات المكبوتة في عالم ينكشف أكثر فأكثر ليبين تعدديته البناءة. فالمجتمع ذو الثقافة الواحدة، أي الموسوم بتمثل قويّ للوحدة (وحدة قومية، وحدة لغوية، وحدة عرقية، وحدة دينية إلخ) قد يحل محله شيئا فشيئا مجتمع متعدد الثقافة ينفجر فيه نموذج الدولة-القومية ليضفي معاني متعددة الاتجاهات للهوية.
على أننا لا بد أن نلاحظ هنا أن تفجّر الهويات الثقافية، وبروز القوميات ذات العرق الواحد قد نتج عنهما، على نطاق شاسع، عدم استقرار التوازن المؤقت لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولأجل ذلك حاول المفكرون والأيديولوجيون أن يعزّزوا حلاّ قد ترعرع في تجربة كندا المعروفة، وهو الحل الذي يربط بين الاندماجية[2] والاختلافية [3]. وقد أخذ النقاش في النهاية بعدا سياسيا قامعا لتعبير الاختلاف ضمن دائرة الحياة الخاصة وذلك في مستوى شاسع، داخل البلدان الديمقراطية، بحيث قد يجبر أصحاب القرار الناس بواسطة كل الوسائل التكنولوجية المتاحة على الانضواء في حقل أيديولوجي معيّن وعلى الموافقة سواء كانت ضعيفة أو ذات شأن على مشروع وحيد وشكل من الوحدة الثقافية والأيديولوجية: وحدة تشتمل بالتأكيد على كثير من الوجوه الضامنة للخيار الديمقراطي، ولكنّها تحاول التأكيد على التماسك الاجتماعي من خلال هذا الاختزال للاختلافات.
إن التنوع الثقافي لا يشمل المجتمعات المتعددة والتحولات الأنثروبولوجية للمجتمعات المعاصرة للدول الغنية فقط، تلك المجتمعات التي قد صبغها أكثر فأكثر حضور ثقافات متعددة وتجمعات كثيرة وبالتالي تنوع كبير لأنماط الحياة. فهو يشمل الآن أكثر فأكثر مجتمعات موسومة بالواحدية الثقافية [4] نظرا لسرعة تنقل البشر والسلع والمعلومات والأفكار والمذاهب والأيديولوجيات. حتى أن المكونات الفكرية الشمولية قد تصبح في غير محلها، في هذه المجتمعات، لا سيما عندما تحاول هذه المكونات إنشاء تماسك متين للعلاقات البشرية [5].
يتأتّى هذا النمط من التنوع الثقافي إذن، عن عولمة الأفكار ومستتبعاتها مثل عودة الهويات، وعودة الدولة الوطن بصيغ أخرى كانسحاب المملكة المتحدة مؤخرا من الوحدة الأوروبية وتأكيد المرجع الذاتي للتجمعات العرقية الدينية. لكننا، في هذا المستوى يجب أن نستشف تناقضا في منطق العولمة: ففي الوقت الذي تفتح فيه الحدود داخل أوروبا للأوروبيين، فإن معاهدات شنغان (Schengen) تغلقها حول أوروبا. فنحن نسير باتجاه هوة أو شرخ في الإنسانية ذاتها، أي باتجاه إنسانية أولى متحررة من الضغوط ومن الحدود تتنقل بحرية وتبني عالمها من حيث هو العالم بحد ذاته من جهة، ومن جهة ثانية إنسانية أخرى تتقبل كل هذه الضغوط وتصبح غريبة عن العالم تتنقل بتأشيرة وتفكر برُخص وتعبر برقابة وتعيش بانتماء وعبودية. نحن إزاء بروز شكل جديد للإنسان نطلق عليه اسم «الغريب الأجنبي” [6]، من خلال عولمة تنقل السكان، تلك التي أخذت اتساعا شديدا [7] في السنوات الأخيرة. ففي هذه العولمة يحاولون التحكم قانونيا في الغريب الأجنبي من خارج الغرب. إذ تفرض عليه تأشيرة تنقل حتى يمكن فرزه وتمييز الغريب «الصالح” عن «المتخفي” و”المتحيّل”، و”الإرهابي”، و”الملوّث”، و”اللاجئ”[8]، و”طالب اللجوء السياسي” ولكن موجات الهجرة السرية والعلنية قد زادت في تأزم المظهر العام للإنسانية.
لفظ كولونيالية، بربري نوعا ما، لكن يجب تناوله بصرامة أكبر ليس فقط باعتباره موضوع دراسات في الجامعات الأميركية، بل باعتبار أنه يمكن أن يفسّر خصوصا علاقة أفق جديدة للإمبريالية بالبلدان المضطهدة
وإذا ما أردنا التعمق أكثر في معنى التنوع لاحظنا أنه لم يتم استعماله للتعبير عن التنوع المادي الملحوظ داخل المجتمعات فقط بل يفيد أيضا، مذهبا فكريا هو الآن بصدد التوسع أكثر. وكنا منذ أواخر السبعينات في القرن الماضي قد حاولنا في كتابنا åقراءات في فلسفة التنوعò توضيح منطلقاته وأبعاده العلمية والفلسفية والأيديولوجية وتطبيقاته المختلفة واخترنا نماذج لذلك في فلسفة ابن خلدون وبعض الأفكار الفلسفية المتواجدة آنذاك. ومهما يكن من أمر فإن هذا التصور الفكري للتنوع جدير بأن يكون موضوع نقاش وتنظير حتى نتمكن من تحديد أرضيته وأبعاده المختلفة.
فالرهان هو معرفة ما إذا كانت الإنسانية قادرة على الحفاظ على عاداتها المختلفة وثقافاتها المتعددة في نفس الوقت الذي تتطلع فيه إلى «العيش معا” في حدود الكرامة؟
في حقيقة الأمر هنالك خطر يتهدد مصطلح التنوع الثقافي الذي إذا ما تاق إلى أن يكون مفهوما مجردا وشاملا، سوف يتحوّل حتما إلى موقفا أيديولوجيا سالبا وخطيرا: مثل التبرير من قبل الاختلافيين [9] للأفعال اللاإنسانية التي يمكن أن تحدث هنا أو هناك تحت تعلة الاختلافات الدينية أو الثقافية وتنوعها.
من أجل ذلك، أؤكد هنا أن التنوع الثقافي هو ظاهرة اجتماعية وحضارية تصف لنا بوضوح تحوّلات مجتمع العولمة، لكن من دون أن تكون تصوّرا فكريا منسجما، لأنّه يقصي كل ضرب من ضروب الوحدة، وكل شكل من أشكال التجريد وبالتالي يقصي التصوّر في ذاته. فهو من قبيل ما هو عياني وصفي (constat) وليس من قبيل المفهوم.
يمكن للفظ التثاقف أن يعيد الاعتبار لفعل التفكير والتعقل، هذا الذي يجعل العالم ممكنا وقابلا للتساكن. يكون التثاقف ممكنا، عندما يحاول أن يجد رابطة فهم وتواصل بين الهويات المختلفة، و”العوالم الممكنة والواقعية” حتى يضع في المكان المناسب شيئا ما مشتركا بين الناس.
التثاقف
فمنذ الوهلة الأولى، نفهم إلى أيّ حدّ، يجب على التثاقف المؤسس على قيم الانفتاح والخلق واستشراف المستقبل والاختلاف أن يتجذّر ضمن طريقتنا في مقاربة الحداثة. مما يجعل علاقة الذات بالآخر غير منفصلة وتشير إلى تنظيم واقعي مؤسس لسيرورات التماهي التي تخصّص لمفهومي الهوية والاختلاف، ولوظيفتهما الخاصة في المجتمع بشكل عام.
فالتثاقف هو الفلسفة التي تمكّن، في نفس الوقت، من احترام الاختلافات البنيوية للثقافات، ومن التأكيد على الصبغة الكونية لكل ثقافة مهما كان حجمها لتصبح خيرا من الخيرات المشتركة للإنسانية برمتها.
يضع هذا التعريف للتثاقف، نهاية لطموح العقلانية الغربية في أن تمتلك وحدها هذا البعد الإنسانوي في ثقافتها وهو يقدّم أكثر من ذلك للكونية طابعا جدليا للتفاهم المشترك.
إن إرادة فرض رؤية واحدة ونهائية لحقوق ونمط الحياة على جميع الثقافات، لا يمكن أن يفضي إلاّ إلى العنف الدائم. وبالفعل، فإنه يهيمن في الوقت الحاضر ضربان من العلاقات بالآخر داخل المجتمعات الغربية هما العنصرية والكولونيالية، اللذان هما الآن أفقا الرأسمالية الرئيسيان:
• العنصرية:
الواقع أن الانتهاكات الواسعة ضدّ الأجانب وضد المسلمين في بلدان عديدة من أوروبا ومن العالم في السنوات الأخيرة بكل أشكاله يشهد على خطورة هذا الإقصاء. إذ ليس هنالك فقط تعزيز «للتظاهرات العنيفة والجماعية للعنصرية” [10]، بل أكثر من ذلك، هنالك شكل من القبول العام لهذه الأفعال تترجم في الوقت الحاضر بأخذ مواقف علنية تنشر عبر وسائل الإعلام لكثير من المفكرين والكتّاب الذين يتهمون الأجانب وثقافتهم وأنماط حياتهم ودياناتهم [11].
• الكولونيالية:
إن لفظ كولونيالية، هو لفظ بربري نوعا ما، لكن يجب تناوله بصرامة أكبر ليس فقط باعتباره موضوع دراسات في الجامعات الأميركية، بل باعتبار أنه يمكن أن يفسّر خصوصا علاقة (أفق) جديدة للإمبريالية بالبلدان المضطهدة. إذ ليس هنالك مجال للشك في أنّ الاستعمار هو اللفظ-المفتاح الذي يمكّن من بعض الفهم لتواصل الناس فيما بينهم. فقد تم تدشين الحداثة بشكل واسع منذ استعمار أميركا. وهنالك بعض الأطروحات تمضي إلى حدّ تأكيد أن الحداثة والكولونيالية تشيران إلى نفس الشيء [12].
في الواقع، إن بينة العقلانية الغربية هي التي أدمجت الكولونيالية كعلاقة ممكنة بالآخر. وقد تمت الممارسة الحية لهاته العلاقة في العراق إثر احتلاله أخيرا. وهنالك صورة أخرى للكولونيالية تتم من خلال بناء المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين المحتلة. والنتائج الأولية، كانت المجازر المستمرة والتأسيس لبنى عنصرية، سياسية واقتصادية للسلطة الغربية على العالم غير الغربي.
تختزل العولمة الرأسمالية المتعددة إلى أبعد حدّ العلاقة بين الثقافة ضمن هيمنة دامية في بعض الأحيان، من خلال هاتين الحركتين، على نحو إقصاء الآخر عندما يكون داخل العالم الغربي (العنصرية) والتحكم في وجوده وفي مصيره عندما يكون في وطنه (الكولونيالية).
ولسنا في حالة أفضل فيما يخصّ استبعاد الآخر. فقد أفرزت العلاقات الدامية من خلال هذين الشكلين للاستبعاد ردّة فعل قوية عندنا اتخذت هي بدورها على الصعيد الثقافي العام حركتين اقصائيتين: التقوقع والتطرف من ناحية والإرهاب من ناحية أخرى.
التقوقع والتطرف
في كتابنا حول «استراتيجية الهوية” بينت لماذا هنالك في الوقت الحاضر وفي كل مكان، مطالبة بالهوية الخاصة على الصعيدين الشخصي والثقافي وذلك بالتأكيد على الذات للشخص أو للثقافة وعلى إحساساتها وأنماط حياتها ومعتقداتها. فإن إحدى وظائف التثاقف يكمن تحديدا في الصراع ضد التماهي السياسي وضد تنميط أنماط الحياة، والتقوقع هو الهروب من معطيات الواقع والتمترس بآليات الماضي إلى حد التصلب في الفكر والتطرف في المواقف. وما التطرف الديني إلا مظهر من مظاهر التقوقع للهوية ومن غلوّ في النرجسية الثقافية. ونتيجته المباشرة لن تكون إلا إقصائية من خلال بناء معقولية استبعادية للآخر تعتمد الشبهة والتهمة والتحريم وقد تؤدي إلى الإرهاب.
الإرهاب
لا يخفى على أحد أن كلمة إرهاب غامضة المقاصد غير دقيقة المعنى. فقد استعملت هذه الكلمة في الغرب منذ قرنين تقريبا وتفيد منذ ذلك الحين كل استعمال للعنف لتغيير النظام السياسي في بلد معين. والإرهاب في كنهه هو أٌقصى تمظهرات العنف وأشده لأنه لا يعترف للحياة حقا عند الآخر، فاستهدف بذلك الناس جميعا السياسي والعسكري والمدني والنساء والأطفال وغيرهم على حد سواء دون تروّ أو إعمال للعقل. ولا بد أن نلاحظ هنا أن الحملة التي تقوى اليوم في الغرب ضد الإسلام وتعتبر أن الإرهاب أصبح وكأنه الميزة الخاصة بالمسلمين هي حملة تدخل ضمن ثقافة الإقصاء التي نجدها في المعقولية الغربية التي نسيت أن الإرهاب في الفهم الخاص بها قد نشأ وترعرع في أحضانها.
فلنتمعن قليلا هذه القولة لمفكر ألماني هو كال هاينز (1848) والذي ألّف كتابا عن «القتل” هو عبارة عن نصائح متعددة في استعمال تقنيات التقتيل والمذابح والإبادة ضد من يسميهم بالبرابرة أي ضد الشعوب التي لم تدخل الحضارة الغربية فنجده يقول «إذا ما أجبرت على تدمير نصف قارة وعلى نشر حمّام دماء لضرب البرابرة، فلا يجب أن يوبخك ضميرك. إن الذي لا يضحي بحياته فرحا من أجل إبادة مليون من المتوحشين لا يعتبر مواطنا جمهوريا” (نجد هذه القولة في كتاب (Jean Claude Brusson, le siècle rebelle, Dictionnaire de la contestation au Xxe siècle, Larousse, Pris 1999.).
ومهما يكن من قول فإن الإرهاب هو العدوّ الأول للإنسانية مهما كان مأتاه ومهما كانت أهدافه. والتثاقف وحده يستطيع تجاوز معطيات العنف وأسبابه لأنه يعتمد الحوار ضد الصدام.
لا يخفى على أحد أن كلمة إرهاب غامضة المقاصد غير دقيقة المعنى. فقد استعملت هذه الكلمة في الغرب منذ قرنين تقريبا وتفيد منذ ذلك الحين كل استعمال للعنف لتغيير النظام السياسي في بلد معين
على أننا لو تعمقنا نظريا في أطروحة صدام الحضارات، لوجدنا أنها قد أخطأت في تناول ظاهرة التثاقف. فخطأها الأساسي يتمثل في كونها لم تنتبه إلى أن الحضارات تتكون وتتغير وتتبدل من خلال جدلية الأخذ والعطاء وجدلية التداخل والتصارع، فمن لا يعرف أن ما يسمّى اليوم بالحضارة الغربية هو نتيجة مباشرة لتطور العلوم والتكنولوجيا، وأن هذا التطور جاء بالاعتماد على إنجازات الإغريق والعرب والمسلمين أحيانا وبالاصطدام مع نظرياتهم أحيانا أخرى بحيث أن محوريتهم تكوينية للحداثة. فهي على كل حال متشابكة ومعقدة وتنتج حتما تثاقفا في المجتمعات، يكون هذا التثاقف بواسطة العنف (كالحرب الاستعمارية مثلا أو كاحتلال نابليون لمصر) أحيانا وبواسطة انتقال التكنولوجيا والعلوم أحيانا أخرى.
هنالك إذن «التقاء” [13] للثقافات، لقاء يمكن أن يتحدد ضمن نظام الضيافة والانفتاح ولكن أيضا، ضمن نظام العداوة والرغبة في «الاستهلاك” وفي التدمير. فمن البديهي أن عدم المعرفة يمكن أن يكون سببا في الشرّ وفي الصراعات. إن معرفة الثقافات الأخرى يمكن أن يحوّل ضمن مجال واسع، كل لقاء عنيف أصليا إلى ضيافة مفكّر فيها (refléchie). إن التفاهم الذي يمكن أن يعبّر عنه بأنماط مفهومية متعددة، مثل الفعل التواصلي، والتعقلية أو التآزر يساهم في الحدّ من أسباب العنف ضمن روابط إنسانية وتثاقفية.
فالتقاء الثقافات ضمن نظام المعقولية [14]، يتمّ بفعل الأنس والمحبّة [15]. لذلك يأخذ التحالف الثقافي شكل التآنس الذي يضيف للاجتماع العقلي والتعقلي للإنسان، لذة الالتقاء، والقسمة السخية للخيرات وللأفكار، والصداقة والمحبة، والضيافة والانفتاح على الآخر. هذا الطابع المستساغ للعيش-سويا وهذه المحبة يجدان ترجمتهما الصحيحة في فلسفة التوحيدي[16] مثلا عندما يسميهما مؤانسة.
تطرح الرؤية الجديدة للتحالف الثقافي التآنس قاعدة لكل فعل إنساني، إنه فضاء جديد يفتحه التفكير الأكثر معاصرة حتى يعيد للكونية طابعها الإنساني ويتخلص على هذا النحو من الممارسة المغرضة والعنيفة.
إشارات:
[1] إذ يعتبر هيغل أن أيّ شعب يملك خصوصية، تنظيما خاصا، طريقة في الوجود وفردانية. ومن هنا تعارضه مع شعوب أخرى حتى يؤكد ذاته ويتمّ الاعتراف به، وحتى يتعرّف عليه الآخرون. ولكي يثبت خصوصيته، يتحتم على الشعب أن يخوض صراعا حتى الموت مع الآخرين. تتأكد الحرب إذن كإمكانية للتواصل بين الشعوب إذ أن أيّ شعب ما لا يدرك أن حريته هي حرية من أجل الموت، وأنه لا يجب عليه التفريط فيها إلا داخل الحرب. فهو يكتب مثلا «لكي لا يظل الناس حبيسي هذه العزلة، وحتى لا تدعهم يستخلصون الكلّ ويتلاشى الفكر بينهم، تعمد الحكومة من حين إلى آخر إلى زعزعة حميميّتهم بواسطة الحرب إذ يجب على الحكومة إفساد نظامهم الذي صار اعتياديا، وأن تنتهك حقهم في الاستقلال، نفس الأمر بالنسبة إلى الأفراد الذين باستغراقهم في هذا النظام، ينفكّون في الكل، ويتطلعون إلى الكائن لأجل ذاته الذي لا يمكن انتهاكه، وإلى أمن الشخص، تسعى الحكومة، من خلال هذا العمل المفروض، إلى زرع الإحساس بالموت في الأسياد فبفضل هذا التلاشي للشكل، للجوهر يمنع الفكر الانتهاء إلى الكائن هنا الطبيعي في منأى عن الكائن الأخلاقي، إذ هو يحفظ ذات الوعي ويرتقي بها إلى الحرية وإلى القوة” (Hegel, Phénoménologie, Trad. D’Hyppolite, Tome II, P. 23)
[2] assimilationnisme
[3] différentialisme
[4] monoculturelles
[5] Fred Constant, Le multucuturalisme, Flammarion, Paris 2000.
[6] l’étranger
[7] يقدر اليوم عدد السكان المهاجرين بـ130 مليونا أنظر:Samir Naïr et Javier de Lucas, Le Déplacement du monde, Paris 1996.
[8] تعدّ تحليلات حنّا أردنت حول ظاهرة اللاجئين هامة لأنها تبين الجانب الإيجابي في هذه الظاهرة «إذ أن اللاجئين المطاردين من شعب إلى آخر يمثلون صمّام الأمان لشعوبهم” أنظر مقال: Giorgio Agamben, « Au-delà des droits de l’homme » in sujet et citoyenneté, Intersignes, N°9/9, Paris 1994, P. 127.
[9] Les différentialistes
[10] Etienne Balibar, La crainte des masses, Galilée, Paris 1997, P. 325.
[11] وهذا ما كتبه إتيان باليبار في Les craintes des masses «إن ما هو جديد حقا، هو تكثيف التظاهرات العنيفة والجماعية للعنصرية، إنه المرور إلى الفعل المصرّح به جماعيا وجماهيريا بمنع الاغتيال، وتقدّم على هذا النحو، حتى ضمن أشكال تبدو بالنسبة إليكم فجة وبدائية، الوعي الصارخ بحق تاريخي. إن التصريح بهذه العتبة أو بسلسلة من العتبات المتعاقبة في هذا الاتجاه، قد حصلت في بلد أوروبي تلو الآخر، حيث تتم الإشارة دائما إلى نوع السكان الأجانب في أوروبا وحتى السكان الأصليين الذين يتقاسمون معهم نفس الخصائص الاجتماعية خاصة منزلة الأشخاص المتنقلين والدين لا وطن لهم (كل شيء يحدث كما لو أن المناوبة (Le relais) قد تحولت من بلد أوروبي إلى آخر، منذ عشرات السنين. ولا يمكن لأيّ بلد أوروبي أن يطمح إلى التعافي: من الغرب إلى الشرق، من إنكلترا وفرنسا إلى إيطاليا، ومن ألمانيا إلى المجر وإلى بولونيا (ولن أتجاسر للحديث هنا عن حالة يوغسلافيا) وفي كل مرة يصاحب هذا التكثيف روابط تتفاوت ضيقا وتأكيدا، من تقدم مجموعات قومية متطرفة منظمة ومن نشوء معاداة للسامية-معاداة رمزية في جوهرها: الأمر الذي لا ينقص من خطورتها، بما أن ذلك يبرهن أن هذا تحديدا هو النموذج الذي لا تعتمد عليه التصورات التي تبرّر معاداة الأجانب، والتي يلاحقها حلم «حل نهائي لمسألة الهجرة” وفي كل مرة يكشف سبر الآراء لكل الذين يحركهم الوهم المعكوس (المقلوب)، أن المحاور التي تشرّع للعنصرية كضرب من ردّ الفعل الدفاعي عن الهوية القومية وعن الأمن الاجتماعي «مهدّدان”، تعتمد بشكل واسع من قبل فئات عديدة في مختلف طبقات المجتمع، حتى وإن كانت هذه الأشكال القصوى ليست (أوهي لازالت بعد) مقبولة عموما، وبالخصوص فكرة أن عددا كبيرا من المهاجرين والأجانب سوف يهدد مستوى العيش، الشغل، السلم العام وفكرة أن بعض الاختلافات الثقافية في بعض الأحيان هشة في الواقع تشكل عوائق لا يكمن تجاوزها في ما يتعلق بالساكن (cohabitation)، بل إنها تهدد «بمحو طبيعة هوياتنا التقليدية”.
[12] هذا ما كتبه، مثلا، والتر د. مينولو (Walter D. Mignolo) في كتابه Local Hisories/Global Designs, Colorniality,subiltern knowledges, and border thinking, princeton University Press, Princeton New Jersy «هذا المنطق التاريخي كان واضحا بالنسبة إليّ (كما يدّعي كذلك بالنسبة إلى أولئك المشتغلين ضمن نظرية نظام العالم أو ضمن تاريخ أسبانيا وأميركا اللاتينية) إلى حدّ أنني لم أعرف اهتماما إلى أن أغلب الحضور هم من شمال أفريقيا وأن تاريخ المغرب العربي له دلالته وهو على درجة كبيرة من الاختلاف مع تاريخ أسبانيا وأميركيا (اللاتينية). وعندما انتهيت من الكلام سألتني رشيدة التريكي، أستاذة تاريخ الفن بجامعة تونس، تحديدا حول هذه المزاوجة بين الحداثة والكولونيالية، لم أفهم السؤال جيدا –وبأكثر وضوح- لم أجب عليه على الرغم من أنني قضيت عدة دقائق أحوم حوله، فإنني لم أفهمه تماما وعندما انتهى الاجتماع، اقتربت من رشيدة وطلبت منها أن تعيد صياغة السؤال وفي الأخير فهمت: لقد كان سوء الفهم كامنا في الافتراضات المسبقة الخاصة بكل منا. كانت رشيدة تفكر في تاريخ الكولونيالية من خلال وجهة نظر فريسية (وما بعد التنوير الأوروبي الحديث) بينما كنت أرى åنفسò السيناريو من خلال وجهة نظر أسبانيا وأميركيا (اللاتينية) بعبارة أخرى من خلال وجهة نظر التاريخ الوطني المهمّش منذ ما بعد التنوير الأوروبي (أسبانيا) والفترة الكولونيالية (الهنود الغربيين، المتأخرين في أميركا (اللاتينية) التي تم حذفها أيضا من بنية تفكير الكولونيالية والعالم الحديث (ما بعد التنوير) وحسب وجهة نظري، فأنه من «الطبيعي” أن تكون الحداثة والكولونيالية وجهان لعملة واحدة. أما بالنسبة إلى رشيدة، فإن الكولونيالية لا تأتي فقط «بعد” الحداثة، وأنه ليس من الهيّن فهم وجهة نظر الأميركيتان، أن الكولونيالية هي مكوّن للحداثة. إن الاختلافات الكولونيالية هي التي تفعل هنا، كاشفة في نفس الوقت الفرق بين الكولونيالية الفرنسية في كندا وكاريبي قبل الثورة الفرنسية وفترة نابليون، ومنذ الكولونيالية الفريسية لاحقا، وبعبارة أخرى فإن الفرق الكولونيالي يشتغل ضمن اتجاهين: إعادة تنسيق الحدود الداخلية الرابطة بين الصراعات الإمبراطورية وإعادة تنسيق الحدود الخارجية بإضفاء معاني جديدة عن الاختلاف الكولونيالي”.
[13] يلاحظ دريدا فيViolence et métaphysique , in l’écriture et la différence, Seuil 1967, P. أنه بالنسبة إلـ(Levinas) تحتمل العلاقة الأصلية مع الآخر من خلال «الالتقاء”: «يشير لوفياناس حينئذ للمجابهة وللقاء الوجه”.
[14] يستدعي التثاقف العقل كانفتاح والسياسة كممر مباشرة وغير متوسط للإنساني وذي الوصل للعقل وللإحساس، سمّيته في أعمالي على إثر الفارابي «معقولية”.
[15] لقد بيّنا في كتابنا Philosopher le vivre ensemble أن المحبّة تعني،اشتقاقا الاستعداد للمحبة، الذي يمكن أن يتحدد وفق الفيلسوف العربي مسكويه في «حب-انفعال (عشق)، حب-صداقة، حب جنوني (وله)، وفي محبة تدريجية (مودّة)”. لكن هذه «المحبة تتم ضرورة عبر الأنس، لأن هنالك كما يقول مسكويه (فيلسوف من القرن الرابع للهجرة)، ضرورة ملحة لتحقيق وضع.
[16] فيلسوف وأديب من القرن الرابع للهجرة (القرن 11 للميلاد).