ما بعد المابعد
نقف في هذا الزمن الخطير في ملمحه العام على عتبة الانتقال إلى مجتمعات المابعد، ما بعد الحداثة، ما بعد الدين، ما بعد العلمانية، ما بعد الفلسفة، ما بعد الإنسان.. وغيرها من المفردات الاصطلاحات التي انخرطت في خطاب يلوك لفظة «ما بعد” دون أن يمتلك الجرأة على أن يسميها باسم واضح ودال، فبقيت اللفظة غائمة ومبهمة، ونسمه بأنّه خطير لكونه يرمي بنا جهة المجهول الذي يتجلى في عجز التفكر الفلسفي المعاصر على تقديم وصف دقيق أو مقاربة وصفية للأشياء في ذاتها وفق الرؤية الظاهراتية.
من صلب هذا الزمن المتأرجح بين حقبة الحداثة بحسبانها مرحلة راهنة تحوز على مرجعياتها المعرفية الكبرى وتحمل هموما أنطولوجية بنكهة ميتافيزيقية شائكة ومرحلة منتظرة في أفق التاريخ البشري القادم، يتنزّل الحديث والجدل والسجال حول ظاهرة الدين أو بتعبير حصري التدين؛ أي البحث في الممارسة الدينية التي تتمظهر في أشكال متعددة منها ما هو ديني أولا كالطقوس مثلا، ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سياسي كالانتماء إلى أحزاب سياسية بعينها بغية الانشغال بالسلطة كمصدر ملهم لكلّ الفضاء السياسي.
إنّ الحديث هنا متعلق رأسا بالممارسة السياسية التي تمتح مرجعيتها من النص الديني، ومن الثابت في هذه النزعة النصية أن تهدف إلى الانفتاح على أفق المعنى مثل: الحرية، الكرامة، الفعل، التاريخ، العدالة.. لكن هذه الممارسة بعد طول زمن، سقطت في حمأة الانحدار جهة اللامعنى مثل: العنف، الإكراه، الضيق من فكرة الاختلاف، التعالي المرضي والأجوف، التوجس من الآخر، وهي في مجملها يمكن أن نجمع شتاتها في لفظ واحد هو «المكبوت”، ونعني بذلك أن المكبوت يكون قد عاد من النافذة، نافذة اللامعنى، بعدما طرد من الباب الكبير للحرية، خاصة بعد عصور من الثورات والمنعطفات والأحداث التي رحبت بهذا المفهوم «الحرية”.
وعلى أساس ذلك، وانطلاقا من فرضية ذاتية نابعة من انشغال بهذه المسألة، يمكن القول إن التدين لم يعد للساحة السياسية خاصة، بحسبانه منقذا للإنسان من أزمته المركبة، وإنّما عاد إليها في صور عديدة أغلبها منفرة سياسيا واجتماعياً، لأن الدّين في جوهره يقوم على «الاعتقاد في وجود الله”، كما يقول فتنغشتاين، وهو اعتقاد بأنّ «الحياة لها معنى”، وأنّ «الإنسان قد جاء في القرآن متقدما على العالم بالشرف” حسب المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي، غير أنّ القفزة في الزمن وبصورة غير متوقعة في الكثير من الأحيان، تأتي في الأماكن والأفكار التي لم تكن تخطر عل ذهن أي مثقف أو متابع للشأن التديني، حيث يقول إدوارد سعيد «إنّ الدين يعود أحياناً ومن الأماكن غير المتوقعة بتاتا”، وما يدلّ على أنّ التدين يصير مكبوتا بفعل عوامل متقاطعة هو انتشار الهمجيات في مفاصل المجتمع فكرا وسلوكا ورؤية، وغلبة المنظور الخلاصي الديني على الطروحات السياسية، وانحدار التفكير العقلاني إلى مستويات دنيا ومخيفة تشي ببروز منطق عنفي في التعاطي مع الأشياء والإنسان، أو كما وصفها جورج لوكاتش «انحدار العقل إلى مستوى السطحية”.
رأس الأمر في شبكة المفاهيم التي نوظّفها في بناء هذا المقال هو مفهوم «المكبوت”، ونحن نعلم أنّ هذا المفهوم تشكّل في محصن سيكولوجي ينتمي إلى مدرسة التحليل النفسي، بحيث يعبر عن جملة المنبوذات التي طردت من ساحة الوعي وعادت القهقرى مكسورة الخاطر إلى ساحة اللاشعور، معتبرة أنّ الأنا الذي استسلم إلى أوامر الأنا الأعلى ونواهيه هو أنا تابع ليس بالمعنى السيكولوجي فقط وإنّما بالمعاني الاجتماعية والأخلاقية وفيما بعد السياسية. وبهذه الصورة يصبح الأنا هشاً أمام الاهتزازات التي تأتيه من أسفل والضربات المطرقية التي تنزل عليه من علٍ، غير أنه لا يعني بالضرورة العودة دوما إلى المتن الفرويدي، يقول إدوارد سعيد منبهاً «إن عودة التدين المكبوت هو إشارة فضفاضة إلى نظرية التحليل النفسي”، وهي كذلك لأن مفهوم المكبوت هاجر إلى ربوع معرفية أخرى مثل اللاشعور المعرفي عند ميشال فوكو واللاشعور السياسي عند روجيس دوبريه، ويمكن أن نتحدث عن لاشعور طبقي عند كارل ماركس أو لاشعور مشبع بالحقد عند نيتشه.
في هذا الأفق التأسيسي تتقدم أطروحة المفكر العربي إدوارد سعيد كمنطلق معرفي لتمديد الرؤية النقدية لكل المساعي التدينية المغموسة في وعاء المكبوت متعدد الأوجه والمتلون من حيث الضروب، وليس بالأمر الخفيّ على أحد وخاصة المتخصصون في فكر الرجل، أنه منخرط في المسعى الأنسني الذي يوجه الرؤية النقدية لكل الأوضاع والأفكار غير الفاكرة، بلغة إدوارد سعيد، وهو إلى «حد بعيد حركة مقاومة للأفكار المسبقة”، ويقصد به التعاطي مباشرة مع النصوص الفكرية بحسبانها نتاجاً تاريخيا يخضع لمنطق الظروف والشروط والملابسات، ولا يعترف على الإطلاق بأيّ نص يضع نفسه خارج التاريخ، فهذه تعبّر عن نزعة نصية تنظر إلى مرجعيتها نظرة تقديسية متعالية.
لوحة: وليد نظامي
إن ما صدق فيه هذا الحكم ينسحب على أغلب الرؤى التي تمجّد نصوصها التأسيسية مثل الماركسية، والبنيوية، أي تلك التي تحولت بتعبير دقيق إلى أيديولوجيا، وتفجير هذه الرؤية يستلزم منا الرجوع إلى فكرة العالم، الذي تبلورت في حقل فلسفي خالص على يد فلهلم دلتاي وتيودور أدورنو وإريش أورباخ، أي أن النص مهما كان نصا متينا وغليظا هو في نهاية التحليل ابن عصره بأفقه الفكري الذي يحتكم إلى براديغم معين، ومنه تكون النزعة النصية مرتعا خصباً لكل التصورات المخيفة التي تنزل علينا وتكرهنا على اتّباعها، فتبدأ في استعمال معجمية التخوين أو التكفير أو الخروج عن الجماعة، أو المروق عن الأسس وخيانتها، لأنها نسيت ناموسا مهما وخطيرا من نواميس الطبيعة وهو ناموس الزمن، فالزمن كفيل بتحريك التاريخ وإثبات أنّ الفكرة متورطة مع المتغير ومقطوعة الصلة يما يسمّى خطاً الثبات السّرمدي، لكن الخطر يكمن في أنّ العنف يعشش في هذه النزعات قبل أن يصبح واقعاً، ويعود أولا في صورة نزعة تسوّغ العنف نصيا ثم تسوّغه عملياً.
في هذا الوضع المتأزم تظهر ضرورة بروز المثقف النقدي الذي حرص إدوارد سعيد على إحيائه من جديد في صورة مثقف يعكّر صفو السلطة ويزعج كل القوى الفكرية التي تقف في وجه الإنسان والتاريخ، ويوجّه سهام نقده ضد أيّ مسعى تقديسي يمهد لممارسة عُنفية فيما بعد، ومن ساير نهجهم في تقزيم الآخر المختلف وتتفيهه، لكي يغدو كائنا دونياً تمهيدا للاستعلاء عليه والتحكم في حياته، لأنها من حيث المنطلق تعتقد في ذاتها أنّها تحوز على الحقيقة المطلقة.
وعلى ذات التوجه التحليلي يمكن أن نستدعي أطروحة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي تحدث عن الحداثة من منطلق ثلاثي الأبعاد أو بتعبيره المخصوص «الأنماط المثالية”، وانسجاما مع رؤيته إلى متلازمة التأويل والفهم التي تقر بأن «علم الاجتماع هو العلم الذي يأخذ على عاتقه فهم النشاط الاجتماعي من خلال التأويل”، ومن خلال التأويل الفيبربي، الذي سعى إلى «عقلنة الحياة الاجتماعية”، يكون قد حقّب المجتمع إلى ثلاث حقب اجتماعية، الحقبة التقليدية، ثم الكاريزماتية، وأخيرا الحقبة العقلانية، حيث كانت السمة الملازمة لكل هذا المسار هي سمة العلمنة، أو بتعبير دقيق نزع السحر عن العالم، فكل تمشّ في مسار العلمنة هو تمش عكسي لمسار التدين، فالحداثة عنده تقاس بمدى انخراط المجتمع في التوجه العلماني بطابع البيروقراطي اللاشخصي، وعليه تصنف أيّ عودة إلى التدين بأنها رجوع إلى المراحل التي تجاوزها التاريخ وتخطاها منطق الزمن المتقدم نحو الأمام، وأنها من مخلفات مجتمعات ما قبل الحداثة، التي لم تتشبع بالخطاب المعاصر.
بالرغم من هذا الحديث عن التدين بحسبانه حصورا ملغّماً في الحياة الاجتماعية والسياسية، يعترف مفكرنا إدوارد سعيد أنه من غير الممكن إبادة الشعور الديني لأنه يبقى على مرّ العصور حاملاً للمعنى الإنساني، مبشراً بالخلاص الإلهي، وفق التصور الإسكاتولوجي العام، لكن من المستطاع كبته في حجب التاريخ، من هنا كانت العودة المرضية هي قدره الحتمي، وكان لزاما علينا أن نبدأ في مقاربة هذا الشكل من التدين الذي يظهر في صور العنف، الإكراه، التعالي المزعج والذي يعشق الطقوس فقط، ويعتبرها المعبّر الحقيقي عن الشخصية، مهملا بقصد جوّاني مضمر، الصور المشرقة للهوية مثل: اللغة، التاريخ، التسامح، الحرية، المساواة، العلم، الفلسفة.. والتي شكّلت عبر التاريخ مصادر عظيمة وينابيع لا تنضب للحضارة العربية الإسلامية، من زاوية النظر النقدي، حيث ننزل إلى ساحة الواقع العلمي بكلّ ما تعنيه الكلمة، ويدل كذلك هذا القرار، من خطورة على مستوى الفعل وعسر على مستوى التحليل والتسويغ، فنبدأ في فهم هذا المكبوت، ليس من جهة مطاردته، حتى لا تتحوّل العلمية برمتها إلى ممارسة مقلوبة، نحارب فيها المكتوب بمكبوت آخر، قد يكون مكبوتاً استبدادياً بنكهة علمانية يعقوبية خالصة.
إن المقاربة المعقلنة تعني النظر إلى العقل وكأنه «النظام العام للفرملة الذي يكبح اللاعقلانية المتسارعة على الدوام في السلوك البشري”، وهي كذلك التوجه صوب هذا الموضوع باعتباره ظاهرة مرضية بطابع مركب، أي أن المفاعيل المُكونة لها هي متعددة ومتقاطعة، وتحمل في جوفها نسغاً متلوناً بألوان المجتمع، فنحن مقبلون على إجراء شمولي يستمد من التحليل النفسي ومن مدارسه المختلفة أدوات تشريحية، ومن علوم الاجتماع كمدرسة فرانكفورت ومدرسة الأنماط لماكس فيبر، ومن مستلزمات ابن خلدون العمرانية، ومن حفريات فوكو المعرفية، ويبقى الاحتياج المعرفي مفتوحا، ومن أجل ألا يتحول الدين إلى قوة استلاب مادي ومعنوي؛ كما تحدّث كارل ماركس، يلزمنا هذا التحليل أن نتبيّن مدى أهمية التخلص من المكبوت مهما كان شكله ولونه السياسي، سواء أكان دينيا أو علمانيا، لأنه إرث يرتب في منزلة العائق المعرفي الكبير أمام حركية التاريخ الديمقراطي المأمول والمنتظر في أفق الزمن القادم، وذلك بالتطهر منها معرفيا بالكشف عن مضمراته الخفية وعن مآلاته الكارثية في الواقع الإنساني، وحثّ كل القوى على تكريس مبدأ المراجعة الدائمة والمستمرة، واتخاذ قرار شجاع بالانفتاح على منجزات الحداثة الغربية، والاعتقاد في مسلك الاختلاف كأفق حقيقي وصادق للانتقال من المجتمع الهش إلى المجتمع الحيوي، والنظر بكل جدية جهة النقد فهو الدرب الآمن للحفاظ على المكاسب السابقة.
يقول بطل التنوير الأميركي توماس جيفرسون «لا يسبب لي أذى إذا قال جاري أن هناك عشرين إلها، أو أنه لا يوجد هنالك إله، فذلك لا يثقب جيبي ولا يكسر لي رجلا”، من الأفضل أن نحوّل هذا القول إلى سؤال كبير يخترق ثقافتنا العربية المهزوزة في عمقها.