ربيع محترق

السوناتا الأولى
إني لأعجبُ لأزهاري
مصوحةً
وبستاني شمسٌ
وإني لمبصرٌ نفسي
وألواني..
وإني لأعجبُ من مقعدي
ومن جلستي
قميصي خَلِقٌ
وفي طرف الصورةِ
خطوتي اثرُ من اختالَ
حُسْنُهُ مَصْرَعُهُ
ووجهي وجه من رأى
ووجه من مضى.
السوناتا الثانية
راجعٌ من جِنان لم أجدك فيها
ومحتسب نفسي في الشهادةِ
ظلٌ.
راجعٌ
من يوم من أقفلَ البابَ
دوني..
رماني بأزهاره،
وأطفأ الضوء
وأجلسني
في عتبةِ.
شمسٌ
في غلالةِ
شمسٍ
راجعٌ لأفتش عن تلك الرائحة؛ فرَّقها مروري،
ورمتني بصورةٍ
هوت
في
منامي..
كأسي مكسورةٌ
في
نظرتي
وحياتي السوداءُ وردتي.
السوناتا الثالثة
لم أخرج من دمشق
لأنسى الطريق إلى دمشق
لم أرسل حصاني -ومعه غيمةٌ- الأندلسَ
لأقيم، هنا، في قونية،
يتيماً
بلا وجه ولا اسم.
انهض يا جلال الدين،
وامش معي في حدائق الشمس،
وانهض،
وانزل معي إلى الشام
الشمس في الكأس صيحةُ الغريب،
والطريق إلى الشام أعنابٌ
وخلانُ
خلق كثير عند أبواب وأقواس محطمة،
نسل تفيض به الزلازلُ
حفاؤه يدمي الخرائط
ويوحش الزمن.
***
في سورة الأمس
تركتُ الظلال تطوف على الشاربين،
وخرجتُ،
ومعي مئذنة العروس
كانت تبريز قرية حسناء في الشام
لم أخرج من دمشق لأموت غريبًا في الطريق إلى دمشق.

تخطيط: محمد خياطة
برقٌ في النَّوافذ
تعال إلى بسرعة أنت أيها الفتى اللذيذ
بابتسامة على وجهك النضر أبدأ
سافو
I
اليومَ زُرْتُ بيتكِ
البوابةٌ مهدومةٌ، والزهيراتُ الصغيراتُ في الحواف تنحني لهبَّات الهواء
المطر، مائلا، رَشَمَ وجهي،
عتمةُ البيتِ هذه أم عتمةُ السماء؟
ابتسامتي الدامية هديةُ نهاري لغيابكِ المديد.
II
اليومَ زُرْتُ بيتَكِ،
البابُ موصدٌ، خلتُ البابَ موصداً، لم يكنْ ذاكَ بابٌ،
لكنه الأمسُ ضوءاً يسيلُ على كسور الرخام
هنا كان مقعدكِ،
والعشيقات الصغيرات الدفينات في جوار البيت،
لهنَّ مقاعدُ.
حطامُ الضَّحكات يلوِّع قلبَ العابر.
III
اليومَ زُرْتُ بيتَكِ،
الهواءُ انحنى معي،
ورذاذُ الموجِ طاشَ بي
والشعاعُ المتكسِّرُ على حطامِ المَرمر
أصابَ يدِي بسهمِ الغُروب.
الضجيجُ موجاتٌ خائفاتٌ ارتطامُ مراكبَ بصخورٍ تتأوّه،
خفق أقدام وخفق سراويل مبلولة
فتيةٌ وفتياتٌ أرسلهم بوصيدون من مملكته الغريقة موشحين بطحالب ضاحكة.
يا لضيوفك المحمولين مع الموج،
أحياءً ومقتولينَ
والزبد يمدُّ لسانَه الطويل ويلحسُ عنقَ الفتى وينحسرُ عن زرقةٍ صامتة في بدنه الصامت.
سافو، يا مدلَّهة الفتوةِ، ها هم عشاقك الصغارُ من سوريا، يصلون إليك صامتين،
خفافاً،
وجمالهم برقٌ مقيم في النوافذ.
أعدِّي لهمُ المائدةَ
وصارحيهم بأن هذا عشاؤهم الأخير.
في الأبكرِ من كلّ وقت
I
اليومَ نَهَضْتُ أَبْكَرَ
ونزلتُ من بيتٍ
تُرَفْرِفُ في سقفه عصافير خرساء
خَطَوتُ في غبش،
ورأيتُ الوراءَ ظلاً
دامياً
ومديداً
والعابرين يتهاوون ويتخبطون في دمِ الظلال.
ويا لخَيالي،
كيف يسطعُ على حكاياتٍ قديمة،
صورٍ تترجَّعُ
في ظلالٍ
داميةٍ.
II
اليومَ نَهَضْتُ أَبْكَرَ
وخرجتُ من بيتٍ لم يكن بيتي.
رفيف جناح في شجرة
نبهني،
لأنهضَ من نومٍ قديم
وأنزل في أرض كانت غابة في حياة أخرى.
عصفور
بالكاد يملأ قبضة صبي
هبَّ
في وجهي
وتوارى في كتابي.
III
اليومَ نَهَضْتُ أَبْكَرَ
ونزلت ُ
السلَّم كان مائلا
وخفيفاً
نزلتُ
في غبشِ الفجر
وراءَ الصوت،
نزلت
في صمتٍ يترجرج
كان النوم يغمر الأرجاء
وجناح الطائر يتوارى في الصفحات
IV
اليومَ،
في الأبكرِ من كل وقت
بينما النائمون يسافرون في بلاد غير بلادهم،
ويتوارون في عربات سوداء
نَهَضّتُ،
كمنْ هزَّته يدٌ وصَلَتْ من عالمٍ آخر
هرعتُ إلى كتابٍ صغيرٍ مخبأ في خزانة
كتابٌ باهتٌ مثلُ شمسٍ قديمةٍ على حائطٍ قديمٍ
وبأصابعَ خائفةٍ قلًّبتُ الصفحاتِ
صامتةً
وهاربةً
الواحدة
تلو أخرى،
إلى أنْ عثرتُ على ذلك الصوت.
إذْ ذاكَ عصفورٌ أصغرُ من قبضةِ صبيٍّ
صاحَ بي
ورأيتُ جناحَه المكسور
يضيءُ الأبدَ
في صفحةٍ فارغة.
***
إذ ذاك، أيضاً، عصفورٌ أصغرُ من قبضةِ صبيٍّ
هبَّ في وجهي
ورأيتُ جناحَه المكْسُور
يلطمُ الأبدَ بين عينيَّ المحترقتين
ونافذتي المفتوحة.

القتيل
لا بيتَ لي لأقفَ بالبابِ وأدعوكَ إلى البيت
لا نافذةَ لأهتدي
لو رجعتُ من الموت
لا ضوءَ
في
نافذةٍ
ولا قمرَ ليلٍ في شجرة.
الهواءُ الذي ملأ رئتي برائحةِ الحقول
أفعمَ جسدي برائحةِ الموتْ.
الصور تحمل المخارز وتهجم على عينيَّ
لا بيت
ولا ستائر
لا سرير، ولا وسادة نائمٍ في سرير.
II
لا بيتَ لي، ليكونَ لي جارٌ
لا أمَّ ولا أُختَ ولا أَطفالْ
لا أصواتَ
-مهما كانتْ خفيفةً-
في جوار
كل ما أسمعه الآن من بعيد
ضجة جرافات وهي ترفع الحقائق
عن أطفالي المكدسين هم والموت
تحت الانقاض.
شخص في قطار
جلستْ في جواري وتكلمتْ كعصفورٍ في قصةِ أطفالٍ
نهضتُ من سَكْرَةِ موتٍ
بعد سكرةِ موت
وانتبهتُ إلى جوارها
الخالي
من جسدي
كنتُ متروكا تحت الأنقاض..
وظلي هائم في مدينة أخرى.
من أنا اليومَ
من كنتُ أمس؟
طفلةٌ
صوت طفلة؛
في جواري
قطرة ندى على ورقة خضراء
في ربيع محترق
هزّت رقادي.
ولم أكن سوى ظلُّ شخصٍ قتيلٍ في مدينة بعيدة.
ودمي اللامرئيُّ، دمي الفاضحُ، دمي اللامعُ من تحت الأبواب
مقعدٌ شاغرٌ في قطار.
برهةإلى سافو
كلما سألكِ الله حسنة
لملائكته
كتبتِ له أسماء طفلاتكِ الصغيراتِ الطائشاتِ في الحقول
كلما اجتمعَ مَحْفَلٌ
بآلهتهِ القساةِ وفاكهته الرخصةِ
نزلتْ الملهِمات من غرفهنَّ الصغيرة إلى جناتكِ الهاربة.
ماءُ في السنواتِ، ماءٌ يخبط الصخور، تنزلُ الشمسُ وتتوارى وينزلُ الليلُ ويهلكُ في القوارب.
تحت سماء غادرة
قلبُ من لم يدمى بعد،
قلبُ من لم يدمى لأجلك، يا سوريا،
هل بقي قلبٌ لم ينزف اسمك الجميل بين الأسماء
الأمم أخرجت النصال من الخزائن
جنودُ العماءِ يجمعون أجملَ صِبيتكِ وبناتكِ ويحزون رقابهم
في آنيةٍ
ويملأون بها السلال.
الأممُ طعنتْ قلبكِ ووجهكِ ويديكِ الكريمتين.
الأممُ طعنتْ ظهركِ وخاصرتكِ،
نحركِ وكتفكِ
الأممُ، بخناجرَ باسمةٍ،
كتبتْ أسماءَها في جسدكِ المختلج تحت سماء غادرة.
أسواقُ الأممِ تغص بلآلئكِ وأسمائكِ المسروقة، وبالذين نجوا من الطوفان.
قلبُ منْ لمْ يدمى بعد،
قلبُ منْ لمْ يدمى لأجلك، يا سيدة الحسن الأليم، يا سوريا.

القصيدة التي عاشت بلا اسم
عندما كان الإنسان عاريا
كانت الصخور بريئة والوحش كان بريئا
والهواء كان صوت الأزمنة..
لم يكن التاريخ كُتِبَ، ولا الأفكار لوثت البحيرات
كان الشعاع يشق الدرب،
والأقدام شقيقة الأجنحة.
الأطفال كانوا يولدون في السواقي،
والأمهات يؤنسن وحشة القمر
الصاعد إلى الجبل يرسل على كتفيه الغيوم
وفي راحتيه الكبيرتين حفنة ضوء.
عندما كان الإنسان مُجَنّحاً
عندما كانت الأشجار تتكلم.
لندن 2016
ألعاب نارية
(خمس قصائد)
الرسالة
كنا في عربة
ننتظرُ من وراءِ زجاجٍ صامتٍ وصولَ موجةٍ ملونةٍ
لمَّا تنزَّلَ في الشاطىء ثورٌ مجنَّحٌ
قلتِ: هل رأيتَ ما رأيتُ؟ قلتُ: هل رأيتِ ما رأيتْ؟
وفي غمضةِ عينٍ
كان المساءُ يهبطُ على بابلَ الصغيرةِ
والمهرِّجُ
يطرقُ أبوابَ المدينة
برسالة الملك.
في حانة سيدوري
وبعد أن تودعني الغانية بشفتيها القانيتين وخمارها الأسود
والعذراء برمشها المبلل،
سيصل الدود بأسنانه المائعة ويعاون ضرس الموت
هل تكون بي حاجة إلى وسادةٍ أطرى من تراب نيسان،
حيث رفع البناؤون قلعة، وأرسل الفلاحون البذور في أثلام متقلبة..
هل أقوى، ثانية، لأبدأ من قديم؟
ما بي وهذا الحادث؟
عصراً في خضرة فاهية ونور مرهف،
التراب أسود
والقدم الثقيلة في غائصٍ
والأصوات، تلك، أعرفها،
أهي القتاء تتشقق، أم الطفرة في ربيع؟
إنني أنصت،
أسمع يوم غدٍ
في جوار يوم غدٍ آخر
ويوماً غريباً كان يلهو في جوار،
ولم يكن هناك، لم يكن أكثر من صفير،
لصبي يلهو بكرة
نظرته تحت نافذة ورأيت وجهي من وراء دقيق أبيض
ذلك كان وجهي لما كنت ملفوفاً بكتّان
وممدداً في صالة المكتبة.
كنت بلا كتاب إلا تلك العشبة عند فمي
وهواء الحقول يملأ أذني.
إحذر الرأسماليين
قبل أن يكون لي مقعد في طائرة
قال لي صديق طواه فراش في نيقوسيا: احذر الرأسماليين
وها أنا في بهو فاره
أحلم لو أنني مالك هذا النزل
وكقنديل يرسل نوره إلى مركب مهمل
صفَّرت لحناً شيوعياً
في زقاق خاو
فرحاً بالشتاء.
إنما هنا،
ما من شيء آخر
غير المطر والمظلات والأرجل الراكضة
وعلى الضفة الشمالية من التيمز، ما من أحد سمع نشيدي
غير الماء الكالح، والمراكب المهجورة.
قبل أن يكون لي كل هذا الشرف في تأمل نهرٍ،
والسلم الحجري
والتأني في الصعود
والسلام على إخوة جدد تجمّدوا في حانةٍ
وتمدّدوا في شظف الظهيرة.
تفسير موقف
II
رواية أولى
مرة، بين جبال مخطوفة على عربات خشب، على طريق عالية
رأيتُ على الجانبين قدوراً عملاقة وسياحاً عمالقة،
انحنوا،
وغيبواً رؤوسهم في القدور
جاء فتى مغربي ورش على نبيذي سحرَ ساعةٍ
خرجنا وعلى عراقيبنا أجنحة
حلَّقنا في هواء بورتوبيللو
ولوحنا بأيدينا للخفيفات النائمات.
جاء سائق بباص
ومن هناك انتقلنا إلى قرية نائية.

تفسير موقف
II
(رواية أخرى للحادثة)
مرة، بين جبال صغيرة، جبال ضاحكة، جبال طفلة تلهو بشرائط وردية،
نزل فتى مغربي، ورشَّ على نبيذي صمتَ الشرفة،
خرجنا، ومعنا شخص، بيد مكسورة، وقطبتين في جبينه.
إنما،
خرجنا
برائحة اليود
وعلى عراقيبنا أجنحة صغيرة
ترفرف في الفجر.
حلّقنا في هواء بورتوبيللو
ولوحنا بأيدينا للصمت في الشرفات.
القاصرات
برموش طويلة
رأيننا
ورمقننا.
جاء سائق بباص ملون
ترجل
وترجلنا
وصعدنا بالأقداح
ومن هناك انتقلنا بالأقداح ثانية إلى قرية نائمة.
حكاية أنكيدو
وراء عربات النيون وظلالها الهائجة في الطرف الأغر، ظهر ثور السماء
في خواره الأول وصل مائة رجل
وفي خواره الثاني والثالث والسابع وصل مائتان، ثلاثمائة..
فتحت البوابات وتدفق السياح ومعهم صائدات الهوى.
نزل سائق باص وضرب على صدره،
وقال: اتركوه عليَّ،
أنا أنكيدو.
صدره كان فسيحا،
وسيدوري التي كانت هناك بباب الحانة،
عاصبة رأسها بمنديل برتقالي
لوّحت للسائق بيدها المبتهجة.
***
الموظفون من نوافذهم العالية رأوا أظلافه المعشوشبة
وقرنيه الغليظين.
وصل قصاب يرتدي الشورت ويحمل بلطة.
وصل مدير يحمل دلواً.
قال شخص: سأضيفه إلى مجموعتي الأشورية.
قالت سيدة محترمة، كانت في قصيدة سابقة لي تفتش عن حبيب،
سيقضي ليلة في مزرعتي.
لو كنت أعرف، أنا انكيدو، أن مصيري،
دائماً وأبداً،
قيادة الباصات من باب القصر الملكي في المدينة إلى أكس بريدج في الضواحي،
لما رفضت مصرعي الرومانطيقي
في البحرين،
ولجعلت جلجامش هو والحيَّة يبكيانني حتى الصباح.
الشرطي كان هناك، أيضاً، وكان اسمه خمبابا:
ثور السماء
ثور السماء
سأستعين به للقضاء على مراهقي الـIRA .
في الغارديان اليوم، قال روائي ميت:
اليوم لا أحد.
لا شيء ولا أحد،
تعالوا غداً. غداً نتفاهم على كل شيء.
جلجامش
جلجامش
لمَ لمْ تتركني مضجعاً عند النبع.