الفن وتجليات الهوية
«يمشي بظله بين الحقول. ذلك هو عدوه. هل علينا أن نصدق؟» ذلك مأثور فان كوخ.
ترسم قطة لتكون رساما واقعيا. ترسم مواء القطة فتكون رساما تجريديا. المواء لا يُرى غير أنه يُسمع. الحواس هي الأخرى يمكن تزويرها. هل صحيح أن الشيء بالشيء يُذكر؟ لا يمكننا أن نجرد الصمت من أصواته. هناك الكثير من الصمت في الموسيقى. ما لم يمسك الرسام برأس الخيط الذي يصل الصمت بالصوت فإن غبطته بما يفعله لن تتحقق. من غير تلك الغبطة يهبط فعل الرسم إلى مستوى الحرفة. مَن يرسم يفكّر أولا في أن يجد نفسه. ضياع الرسام بين هوياته ضروري للعثور على معنى أن يكون للمرء خطواته على عشب الايقاع. لا معنى للهوية من غير إيقاع شخصي. ما يكتسبه الرسام من الطبيعة تهدره يداه في الرسم. أحيانا يحق له أن يضعف أمام الطبيعة ليكون قويا أمام الرسم. الرسام كائن هشّ يسبح في زئبق مرآة خيالية.
ارتجال الغناء
أعود إلى القطة وموائها. هل القطة تعبّر عن جنسها عن طريق المواء؟ ما لم تكن مرئية فإن المواء هو وسيلتها للتعريف بنفسها. حينها تكون القطة موجودة عن طريق موائها. هذا ما يفعله الرسام التجريدي تماما. الصيني زاووكي (1920ــ2013) من جهة، ومن جهة آخري الهولندي بيت موندريان (1872ــ 1944). عاش الأول حياته كلها منعما بالتجريد الغنائي وهو ما جعله يهيم في مناطق مبهمة خارج كل شكل، غير أنه بقي مخلصا لتربيته الصينية في النظر إلى مفردات الطبيعة. أما الثاني فيعيد النقاد تركيب مساحاته الهندسية إلى طريقة المزارعين الهولنديين في رسم حقولهم على الأرض. صورة لبلد القنوات المائية من السماء تعيدنا إلى لوحات موندريان الذي عاش هو الآخر جزءا من حياته في باريس.
هل كان موندريان وهو يفكك الشجرة ليعيد مفرداتها إلى عناصر تكوينها الشكلي هولنديا؟ ما فعله أنه عرّى الأوراق فلم تبق إلا الخطوط، وهو ما ساعده على رسم لوحة بمواد بصرية ليست مستعارة من الطبيعة تماما. لقد احتال على الشجرة التي رآها في الطبيعة ليخترع شجرته الشخصية.
شبهة الصيني
لم يخن زاووكي صينيته حين كان يتبادل خبرة التبقيع مع صديقه الألماني هانز هارتونغ (1904ــ1989). كان الرسامان يبحثان في المنطقة الجمالية نفسها، لذلك ليس غريبا أن يلتقيا، يتقاطعا، يتشابها، من غير أن يقتفي أحدهما أثر الآخر. أليس هذا ما حدث بين بابلو بيكاسو وجورج براك، يوم كانت التكعيبية تجمع بينهما؟ في العلاقة الفذة التي أقامها زاووكي وهارتونغ لا يمكن التعويل على الأثر الجمالي الصيني بشكل مطلق. فزاووكي الذي انتقل إلى باريس عام 1947 كان رساما صينيا محترفا أما صديقه هارتونغ فإنه لم يكن كذلك. ومع ذلك كانت نتائج أبحاثهما الجمالية متشابهة. هل أبهر هارتونغ الذي لم يكن صينيا صديقه الصيني بـ»صينيته»؟
لا أعتقد أن أدوات القياس تسمح لنا بقول ذلك.
لعنة الاستشراق
ما تعلمه رواد الحداثة الفنية في أوروبا من الفنون الأفريقية والآسيوية هو أكثر بكثير ممّا تعلّموه من فنون الإغريق. علينا هنا أن نتفادى الوقوع في فخ “لعنة الاستشراق». فالرسامون المستشرقون (جان ليون جيروم أبرزهم) كانوا قد رسموا مشاهد مستلهمة من الحكايات وليس من الواقع الذي ادعوا أنهم عاشوا تفاصيله البصرية. لم يغير ما رسموه من هوياتهم. ذلك لأنه لم يمسّهم ولم يُحدث خلخلة في أعماقهم. كانوا الجزء المترف من جسد استعماري كان يتمدد على حساب (الأمم البدائية). كانت هويّة المستعمر أقوى من هوية الفنان الذي كانت عينه لا تزال ترنو إلى أثينا وروما. متى بدأ الغزو المعاكس؟
الرومانسي أوجين ديلاكروا (1798ــ1863) كان هو الآخر غشاشا. فلو كان قد رأى حقا “نساء الجزائر»، وهو عنوان لوحته الشهيرة لامّحت هويته الفرنسية وصار جزائريا في حقبة الاستعمار الفرنسي. وعلى العموم فإن مفهوم هوية الآخر لم يكن يلح على العقل الاستشراقي. كان الآخر “موجودا» من غير هوية.
المتاهة الصينية
يُخيل إليّ أن الاعتراف بهوية الآخر ما كان له أن يكون ممكنا من غير خيانة هوية الـ»أنا». وهو ما فعله على أفضل وجه فنسنت فان غوخ. بدليل أن نقاد باريس كانوا حين يسخرون من رسومه التي لم تعجبهم يطلقون عليه لقب الرسام الصيني. حقيقة أن فنسنت حين تعلم من اليابانيين تقنية الحفر على الخشب لم يعد أوروبيا.
هل كان فنسنت أكثر صينية من زاووكي؟
بسبب اختلاف الزمن فإن من الخطأ اعتماد أدوات قياس واحدة. كان فنسنت هاربا من أوروبا فيما كان زاووكي لاجئا إليها. بالنسبة إلى فنسنت فإن الرسوم اليابانية تختصر الطريق أمامه. أما صينية زاووكي فإنها أشبه بالمتاهة التي لا تُحصى دروبها.
ولكن مثالا من المحترف الفرنسي يمكنه أن يقربنا من الفكرة الغامضة.
اللوحة والحقيقة
بدأ ديلاكروا في رسم لوحته “نساء الجزائر» عام 1830 ولم ينهها إلا عام 1934. كان في تلك الأعوام قد ذهب إلى المغرب بمهمات دبلوماسية. كانت تلك اللوحة مهمة في إطار تجربة الرسام الرومانسية، ولم يكن الموضوع ليعني شيئا. عام 1955 أعاد بابلو بيكاسو رسم تلك اللوحة. لم يكن الرسام الأسباني المقيم في باريس في حاجة إلى الذهاب إلى الجزائر من أجل أن يرسم تلك اللوحة. لا لأن الجزائر التي رسمها ديلاكروا صارت جزءا من الماضي وحسب، بل وأيضا لأن المسألة بالنسبة إلى بيكاسو كانت تتعلق بمشكلات الرسم.
لم يكن بيكاسو في حاجة إلاّ إلى بضعة خطوات ليكون في متحف اللوفر من أجل أن يتأمل رائعة ديلاكروا. كما يبدو فإن طريقة بيكاسو المتمرّدة في النظر إلى تلك اللوحة قد قادته إلى اكتشاف ما لم يكن ديلاكروا قد اكتشفه من عوالم سحرية كان الموضوع الجزائري قد انطوى عليها. وهو ما دفعه إلى أن يعيد رسم تلك اللوحة غير مرة في محاولة منه لاكتشاف هويات نسائها. وهو ما كان قد فعله من قبل وفي وقت مبكر من حياته حين رسم لوحته الشهيرة “فتيات أفنيون» عام 1907 والتي يعتبرها المؤرخون لحظة تحول أساسية في تاريخ الحداثة الفنية.
ولكن هل سنرى نساء جزائريات حقيقيات في لوحات بيكاسو حرمنا حس ديلاكروا الاستشراقي من رؤيتهن؟
مشهد من طنجة في المغرب لهنري ماتيس
مطر في طنجة
سأذهب هنا بخفة إلى فيلا دي فرانس في طنجة، هناك حيث أقام هنري ماتيس عام 1912 ليتعرف على الضوء باعتباره هوية للمكان. لقد حبس الطقس السيء الرسام الفرنسي في غرفته بالفندق فكان يرسم مشاهد طنجة من النافذة.
مَن يمكنه الذهاب إلى الغرفة 37 في فندق فيلا دي فرانس وينظر من نافذتي تلك الغرفة سيكتشف أن الرجل كان قد استمات في الاستغاثة بموهبته لتصل به إلى حدود المشهد الجمالي.
والعكس فعله بيكاسو. لقد استقوى بخياله على مخيلة سلفه ليحرر نساء الجزائر من صورة نمطية فرضها خيال استشراقي. ما رسمه بيكاسو ليس استنساخا لما رآه. كان في حاجة إلى أن يتعرف على الهوية الضائعة. لقد عرف أن يفعل ذلك مع فتيات أفنيون اللواتي رآهن في الواقع. ولكنه يرى فتياته هذه المرة على سطح لوحة.
بالتأكيد فإن ما نراه في شارع هو غير ما نراه في لوحة. غير أن اللعبة التي تمكن بيكاسو من أصولها كانت واحدة. كان في كل مرة يحاول فيها الرسم يتحدى أصول بلاغته الفنية. لم يكن يخترع شيئا بل كان يجدّ. إنه رجل محظوظ.
تمرين على الإلهام
إن فكرة إعادة رسم لوحة بطريقة شخصية كما فعل بيكاسو إنما تنطوي على محاولة اكتشاف تلك اللوحة قبل أن ترسم. قد يكون موضوع اللوحة جزءا من ذلك الجوهر، غير أنه الجزء الأصغر دائما.
لقد بحث بيكاسو في كل شيء مستثنيا هوية النساء اللواتي حرضه أسلوب ديلاكروا في رسمهن على العودة إليهن. ربما لأنه لم ير جزائريّتهن في لوحة سلفه أو أنه لم يربط بين جماليات فعل الرسم وملهماته المباشرات أو أنه اعتبر المسألة كلها نوعا من التمرين على الالهام الفني.
ولكن قبل جزائرية تلكم النسوة هل كان بيكاسو يفكر في أن تحل أسبانيته محل فرنسية رسام اللوحة الاصلي؟
مهب الرياضيات
أيام ديلاكروا كان الحديث عن هوية فرنسية في الفن ممكنا. فديلاكروا هو سليل المدرسة الفرنسية في الرسم. أما حين ظهر بيكاسو، بعد التحول العظيم الذي أحدثه بول سيزان في مفهوم الرسم، من خلال قيامه بإعادة المشهد المرئي إلى عناصر رياضية، هي في حقيقتها الأصل الذي تستند إليه الأشكال فقد قطع الانتماء إلى الرسم باعتباره مطلقا رياضيا الطريق على الهويات النسبية القلقة. سيرث الأسباني بيكاسو سلفه فيلازكيث مرة واحدة حين يعيد رسم إحدى لوحاته. وهي المحاولة التي لم يستعد ابن مالقا من خلالها هويته الأسبانية.
لم يكن اختراع الوطنية منسجما مع الرؤى الكونية التي اكتسبتها الحداثة الفنية من خلال تمرّدها على الأصول الثقافية بأغطيتها السياسية. فإذا كان الحديث عن انطباعية فرنسية أمرا يقبله التاريخ فإنّ أيّ حديث عن تكعيبية فرنسية سيبدو نوعا من الدعابة الساذجة، بالرغم من أن التكعيبية ولدت في باريس.
لقد أُزيح عن هوية العمل الفني غطاؤها الجمعي الضيق لتشارك الفرد مصيره في ما فرضه القرن العشرون على الأوروبيين من أشكال للضياع كانوا قد فرضوها في أوقات سابقة على الشعوب الأخرى بقوة الاستعمار.
لم يكن طوف الميدوزا إلا قناعا للتحرر من الوهم القديم. فالجزائر لن تكون فرنسية كما أن الهند لن تكون إنكليزية. لقد فشل مشروع الهوية التي تستولي على هويات الآخرين، ولم يكن الفن بعيدا عن التحريض على الاعتراف بذلك الفشل. ولكن هل بقي هناك من معنى لهويات الآخرين في الفن؟
الأرض الأخرى
في ثلاثينات القرن العشرين كان مارك توبي القادم من تشيلي قد لعب دورا أساسيا في الحركة السيريالية التي كانت باريس مسرحها. الآن يلعب الصيني أي وي وي الدور نفسه، لكن مساحته العالم كله.
كان توبي مقيدا بسرياليته باعتبارها هويته، غير أن أي وي وي لا أحد يفكر بصينيته من غير أن يكون له أسلوب بعينه. أعماله نفسها لا تدعو مشاهديها إلى القيام بذلك. إنه واحد منا.
ولكن مَن نحن؟
بورتريت شخصي لرامبرانت
رامبرانت وحفيده
ربما من الأصوب أن يكون السؤال “مَن أنا؟» وهو سؤال هوية حائر وحزين وفيه قدر من القلق بما يمنع جناحين من التحليق. قدر يائس لا يلامس الحقيقة إلا بأصابع مذعورة. حين رأيت بورتريه رامبرانت شابا في صورة صغيرة تكاد تكون بالأسود والابيض هالتني تلك القدرة العظيمة على التعريف بالذات. أما حين رأيت لوحات عديدة هي عبارة عن صوره الشخصية في مختلف مراحل عمره فإنني أدركت أن الرسام الباروكي الذي عاش بين عامي 1606 و1669 كان حريصا على التعرف على نفسه أكثر من حرصه على التعريف بها.
وهو ما فعله فنسنت في السنوات الأربع التي عاشها في منزله الاصفر بـ»آرل» جنوب فرنسا. رسم فنسنت يومها 39 صورة شخصية. أشهرها تلك التي تظهره بضمادة بعد أن قطع أذنه. عشر سنوات مارس فيها الرسم كانت كافية لكي تضع فنسنت في مكانة يحسده عليها علماء النفس والاجتماع واللغة قبل الرسامين الذين صاروا يتعثرون بخطاهم وهم يرون ظله ذاهبا إلى حقول زهرة عباد الشمس.
لا يحتاج المرء إلى قراءة توقيعه أسفل اللوحة ليشهق باسمه.
لقد عرف فنسنت (1853ــ1890) كيف يدير شؤون عالمه الشخصي بحيث يكون ذلك العالم كونا تصطف حشود من البشر يوميا في أمستردام من أجل التعرف على أسراره الغامضة. شخصيا وقفت لساعات من أجل قراءة رسائله ورؤية لوحة صديقه بول غوغان التي رسمه فيها.
مَن لم يتعرف على فنسنت بريشته كان عليه أن يتعرف عليه بريشة صديقه غوغان الذي هرب منه إلى تاهيتي التي تقع في أقصى جنوب الأرض. حضور فنسنت لم يعذب أحدا بقدر ما جعلنا نتعرف على كائن يعيش باعتباره وسيطا بين الأرض والسماء.
نفس معذبة
عن طريق الرسم حاول فنسنت التعرف على نفسه المعذّبة. ولكن شيئا من تلك النفس لا يزال يعذبنا. لا ينفع في شيء أن نقول إننا تعرفنا عليه من خلال صورته. علينا أن نصدق أن تلك المرآة التي كان ينظر إليها أثناء الرسم قد خانت الكثير من ملامحه. فنسنت الذي نراه في لوحاته تعجز أيّ مرآة عن إظهاره.
غالبا ما ذكّرني أسلوب فنسنت في الرسم بشعر القطة المستفزة التي سرعان ما تستسلم لموائها الغاضب. كان ذلك الأسلوب قد تخطى موضوعه ليضع نفسه في خدمة روح ساهرة على عزلتها. لا تزال صور فنسنت في لوحاته حريصة على وحشتها، من خلال هواء كثيف يفصل بينها وبين من يراها. يحبه زائروه، يتعاطفون معه، يذهلهم انشغاله المنصف بأشيائه الصغيرة، بغرفته، سريره، حذائه، سلاحفه، المقهى المجاور لبيته، الدكتور غاشيه وابنته، غير أنهم لن يألفوه صديقا. يقيم فنسنت خلف زجاج هويته الطاردة.
الباروكي المعاصر
كان فن فنسنت شخصيا وهو ما دحضه بول سيزان (1839ــ 1906) حين رسم صوره الشخصية باعتبارها موضوعات. وهو ما لم يجرؤ على القيام به أحد قبله. يمكنك أن تنظر إلى تفّاحاته ومستحماته ولاعبي الورق الذين رسمهم غير مرة بالحياد نفسه الذي تنظر فيه إلى صوره الشخصية. في كل الأحوال فإن الرسام يبحث عن الشيء نفسه. لم تعق صورته خياله ليسجل يومياتها. ما كان لديه من الوقت يكفي لتسجيل يومياته رساما فقط. وهو ما صنع منه فاتحا بل ومعلما وأبا للحداثة الفنية في قرن سيلتفت رساموه فلا يرون قمة أعلى من قمم الجبال التي رسمها في واحدة من أكثر مراحله الفنية صلابة.
كان سيزان يعرف أن جمله المعقدة لا تصلح للتعريف به رساما وحيدا. هناك جمع من الرسامين قد امتزج ليحلّ في روحه التي تودّ الإعلان عن انقضاء زمن وبداية زمن جديد للرسم. من وجهة نظري فقد كان سيزان باروكيا معاصرا. لقد استعاد الرجل الصنعة، لا من أجل أن يهدمها، بل ليقشرها كما لو أنها بصلة. جرّب أن يكون شيئا مختلفا في كل طبقة انتقل إليها في طريقه إلى العمق الذي كان يعرف أنه لا يحتوي على بذرة. فالبذرة الحقيقية كانت هي تلك التي يقبض عليها بيده.
كان سيزان أكثر الرسامين اطمئنانا إلى مستقبله، لا لشيء إلا لأنه قد نجح في حلّ مشكلاته مع الماضي. لم يكن في حاجة إلى أن ينسى الماضي لأن ذلك الماضي لم يكن موجودا أصلا. كان يتصرف بحق الوارث الطبيعي.
وكما أرى فإن سيزان سلم القرن العشرين وصية فنه التي خان النصف الثاني من ذلك القرن هويتها.
لقد صارت الفوضى عنوانا لغياب الهوية.