فواز طرابلسي والبحث عن أفق جديد
لا شكّ أنّ مفهوم الحدث وفق التوصيفات البليغة التي قدمها كل من مارتن هيدغر وبول ريكور وألان باديو تشي بأنّه من اللازم التفكير في مدى الأثر الذي أحدثه الحدث في الطبقات العميقة للمجتمع، وفي المناطق التي كانت تعتقد في نفسها أنّها عصية عن أيّ اهتزاز. فالحدث الحقيقي شبيه بالموت يدرك كلّ النفوس حتّى ولو كانت في بروج مشيّدة. وفي صلب هذا التمشي، تتنزّل هذه القراءة الناقدة للحوار الذي أجرته مجلة «الجديد” في عددها الخامس عشر، مع المفكر العربي والناشط اللبناني فواز طرابلسي، حيث لمسنا في تضاعيف الحوار ومتنه الحضور القوي للحدث العربي الذي وُصِّف بالربيع العربي، الحراك العربي، الثورة العربية، أو كما نسميه: التحوّل العنفي والذي أعتبره اللفظ الأقرب لهذا الحدث.
لكن ، وبعيدا عن هذا الإشكال الوصفي، يمكن الإقرار بأنّ التحوّل العنفي استطاع أن يحدث أثرا في الرؤى والمنظوريات المختلفة التي سادت وهيمنت على المخيال الفكري للإنسان العربي منذ عصر ما بعد الموحدين كما تحدث عن ذلك مفكرنا مالك بن نبي، حيث بدأ عهد المراجعات الحقيقي في الانبثاق، وقد لاحظنا ذلك في الحوار الذي أجراه عمار المأمون مع المفكر العربي الطيب تيزيني في العدد السابع من مجلة «الجديد”، ومنه تعدّ المراجعة الفكرية أو السياسية، في نظرنا أمّ الفضائل وقدس الأقداس بالنسبة إلى أيّ مفكر أو باحث، فالمراجعة تقرأ عند النفوس الكبيرة والنبيلة على أنّها علامة على حالة عليا من حالات الوعي الصادق مع الذات، قبل أن تكون حالة صدق مع الآخر، وبالتالي تشكّل نقطة انعطاف قوية جهة إنجاز الوثبة التي نصحنا بها مارتن هيدغر.
على هذا الأساس، ووفق منطق المراجعة التي ستفتح أفقا جدّيا وطريفا في الفكر والسياسة، جاء الحوار الذي أجرته آراء الجرماني في بيروت مع المفكر فواز طرابلسي، في فترة تاريخية نحتاج فيها فقه المراجعات النقدية، وقد انقسم الحوار إلى قسمين كبيرين؛ قسم يتعلّق بالجانب الذي ارتبط عنده بالبراكسيس (الممارسة)، حيث يتعالق الفكر مع السياسة، وكانت الكلمة الفصل فيه إلى روح النقد الذاتي الذي أصبح قاعدة قارّة في التفكير اليساري الراهن، وقسم يتحدث عن أثر هذا الحدث على المستوى العربي والعالمي، ونحن هنا نسجل مدى التفكّر الذي خمّن فيه الأستاذ فواز طرابلسي، حيث كان في حديثه محيطا بالأحداث التاريخية التي عصفت بالعالم بدءًا بسقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاءً بانفجار الوضع العربي، وعقابيله على الطائفية واليسار والدكتاتوريات والصحافة والعلمانية والوطنية ومصير الماركسية بعد سقوط دولة الاتحاد السوفييتي. مما يجعل هذا الحوار زاخرا بالرؤى وثريا بالقراءات المفتوحة على معاني ودروب غير مطروقة خاصة من ناحية الفهم العميق للتحولات التي حدثت بعيدا عنّا وكان لها الأثر البالغ على المجال الحيوي العربي، فنحن ما زلنا نعيش على هامش الحداثة أو بتعبير واخز في حديقتها الخلفية التي تُرمى فيها فضلات الغرب المعرفية والبشرية.
ينطلق الحوار من ملاحظة مهمة وهي أنّ الفكر الغربي انخرط مبكراً في تحليل الحدث العربي، انخراطا يتأسّس على منحى نفسي، حيث يحرص على حضور العامل العاطفي «الثأر” في جوف الحراك العربي، لأنّ المسألة في نظر المفكرين الغربيين لا تتعدى أن تكون حركة اضطغانية أفرزتها النفوس المكسورة تاريخيا، وإنّنا هنا والآن، لا يمكن أن ننسى القراءة التي قدمها المفكر الفرنسي الكبير إدغار موران، الذي فهم أنّ ما حدث في الفضاء العربي هو في الأساس تعبير عن رغبة العرب في الكرامة والديمقراطية والحرية، وأنّهم كائنات قادرة على صناعة تاريخ خارج الأفق الغربي الإمبريالي.
ومن المنجزات المهمة التي نرصدها في متن الحوار المقدرة العملياتية التي يملكها مثقفنا فواز طرابلسي حيث وبمجرد انبثاق الحدث الحراكي، اجتهد في تأسيس مجلة «بدايات” في مارس 2012 وهي مجلة تهدف إلى تفعيل آلية المراجعة للفكر اليساري العربي، وهي مهمة على درجة عالية من الجدية والصرامة، وتتضمن رؤية عميقة لما يحدث في الوطن العربي، ولما هو مطلوب في الفترة الراهنة. ومن وحي هذه المراجعة أشار إلى الدور الإيجابي لليسار، ولليساريين الشباب وما يقومون به في مجال تنشيط الفعل الثوري.
أمّا القسم الذي لاحظنا أنه يتحدث عن الجانب الفكري، فهو لا يقلّ أهمية عن فضاء البراكسيس والذي نشهد لصاحبنا فيه بمدى الحرص الذي يوليه له، لأنه يؤمن أن الذهاب رأساً جهة مجال الفعل هو الدرب القمين بتحرير اليسار من أزمته، فاليسار في عمقه الفكري هو ذو توجه علماني، ينحاز إلى مجرى التاريخ البشري، وينفر من كلّ استغلال دنيء للمقدس، حيث أكّد بصورة جلية، أنّ القوى الدينية لها مقدرة كبيرة على تقديم طروحات قوية ثقافيا وسياسيا، ولكنّها عاجزة اقتصاديا واجتماعياً وهي النقطة القاتلة في جسدها، ومن هذا الثقب يمكن الدخول معها في مقارعة ناجحة بالنسبة إلى اليسار، ومن خلال هذا الصراع نستطيع أن نحرز تقدماً نوعياً على هذه القوى اللاتاريخية.
وفي ذات التمشي، لم يستبعد اليسار من نقده، إذ أكد على الانحرافات التي حدثت في بيت اليسار، وهجرتهم صوب الدكتاتوريات خوفا من سيف الحركة الإسلامية، إيماناً منهم بأنّ الدكتاتورية هي أفضل قلعة يحتمون فيها من الغول الإسلامي القادم، ولا يجب أن ننسى انحراف أو توبة بعض اليساريين جهة منحى التيار الإسلامي، من مثل محمد عمارة، عبد الوهاب المسري.. رُب ظاهرة تغدو مع الزمن تصرفاً متوقعاً في الوسط الثقافي العربي، لأنّ المثقف العربي لم يحقق بعد ذلك الإشباع المعرفي الذي يمكّنه من مواجهة التحديات التاريخية، وملازمة موقعه الفكري الذي آمن به.
وفي خضمّ التحولات الكبرى التي حدثت في نهاية القرن العشرين، يولي الأستاذ فواز طرابلسي وجهته إلى الحدث الأكبر عند جماعة اليساريين في الوطن العربي، ألا وهو سقوط الاتحاد السوفييتي، وقد نظر إليه من زاوية إيجابية، حيث كان هذا الحدث برداً وسلاما على الماركسية، إذ أصبحت الماركسية في وصغ المتحرّر نهائياً من اشتراطات الدولة المركزية بأخطائها ومثالبها، ويفتح أمام اليسار إمكانية إنشاء عقد جديد ينبني خاصة على القطع أولاً مع كتلة المفاهيم التي هيمنت على المنظومة الفكرية الماركسية، ومنها خاصة الفكرة المقدسة المتعلقة بالحزب الطليعي، والتوجه مباشرة إلى رؤى مبدعة من التفكير اليساري المنسجم مع راهنه، من مثل الانشغال بالمنظمات الجماهيرية، مع الالتزام القويّ والغليظ بالرؤية الديمقراطية بحسبانها الضامن الأكبر للحرية داخل هذه المنظمات المنشودة، التي توكل كذلك لها مهمة مقاومة الاستبداد والنيوليبرالية، نظرا لطبيعة التقاطع الحيوي الموجود بينهما، وتهيئة المجتمع سياسياً عن طريق تنشيط فكرة المجتمع المدني، لكي نتحرّر من سيطرة الذهنية القروية المخيفة، والمناطقية غير العادلة والطائفية النتنة باعتبارها لوثة أصابت الجسد اللبناني في مقتل، ونصير شعبا كما حلم بها الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.
لم يكن الأستاذ فواز طرابلسي بعيدا عن الشأن الفكري/السياسي اللبناني، الذي انشغل به ممارسة وفكرا وانتساباً، وبذلك فهو يجسّد دور المثقف النقدي الملتزم وفق التوصيف الرائع لمفكرنا إدوارد وديع سعيد، حيث انشغل بالتنقيب عن مواصفات المثقف الصادق مع ذاته والملتزم بقضايا أمته، التزاما لا يلغي كما يقول إدوارد سعيد فكرة لا تضامن من دون نقد، ولا يحب في ذات الوقت أن نتورط في لازمة البحث عن شماعة خارجية نعلق عليها كل انكساراتنا القومية، أو كما وصفها إدوارد سعيد برطانة اللوم.
إنّي أنزل هذا الحوار في منزلة الحوارات التي حملت في متنها صدقاً كبيرا، هو صدق مع الذات، وهذا هو الخطير والمهم، وصدق مع القارئ اللبناني والعربي، وأنظر إلى هذه الحوارات التي تجريها مجلة «الجديد” على أنّها قراءات فكرية ستصبح يوما ما وثائق تؤرخ لفترة زمنية ذات منحى انعطافي.