جرذان العالم السفلي واللحمة التي تطول وتقصر
«أَوَلَيْست الفأر والجرذان هي التي تأكل كتب الله تعالى، وكتب العلم، وكتب الحساب؛ وتقتل الفَسِيلَ والنّخل، وتهلك العلف والزّرع، وربما أهلكن القراح كله، وحملن شعير الكدس وبرّه. فكيف لم تكن من هذه الجهة من خلق الشيطان؟! هذا، وبين طباعها وطباع الإنسان منافرة شديدة، ووحشة مفرطة. وهي لا تأنس بالناس، وإن طالت معايشتها لهم. وكيف تأنس بهم وهم لا يقلعون عن قتلها ما لم تقلع هي عن مساءتهم؟! فلو كنّ ممّا يؤكل لكان في ذلك بعض المرفق. فكيف وإنها لَتُلقى في الطريق ميّتة، فما يعرض لها الكلب الجائع!”.
[الجاحظ، الحيوان، الجزء V، ص. ص 174-175 (بتصرف)]
جرذان العالم السفلي
في ذلك اليوم أكلني جرذ.
جعل يهاجمني بكل جرأة. أخذ يقضم أصابع قدميّ حتّى قطعها. سالت دماء كثيرة. جفّت. لم يعد بإمكاني التّنقّل. أقفلت باب بيتي بالحديد، وجعلت عليه حارسين يتناوبان الحراسة. من الغد جاءني أحدهما بجثّة الثّاني دون رأس ولا قدمين.
أكلته الجرذان، قال لي، ثمّ فرّ هاربا برأسه وذعره.
قرأت الخبر على صفحات الجرائد اليومية:
«نقل مراسلنا في مدينة… أنّ كاتبا تونسيّا قد أكلته جرذان قميئة. وقد تمّ العثور عليه جثّة هامدة في بيته في إحدى ضواحي المدينة وعلى جسده خدوش عميقة. وأفاد مراسلنا أن على جثة الهالك ثلاثة خطوط حمراء يحتوي بعضها بعضا. وصرّح الهالك لمراسلنا أنّه لا يهتمّ بالأمر، لأنّ الجرذان لم تعد كائنات غريبة عن المدينة، وأنّه ليس ضحيتها الأولى ولا الأخيرة.
يذكر أن مدينة… تعيش منذ مدة على وقع ظاهرة هي الأولى من نوعها تاريخيّا، إذ صارت أوّل مدينة تأكل جرذانها البشر!”.
ألقيت الجريدة جانبا غير مكترث بالتّصريح الذي لم أقله ولا بالخبر الذي لا يعنيني ورحت أرتّب المشهد من جديد.
***
كانت مدينتي -ومازالت- أجمل مدينة في العالم. عبثا يحاول بنيانها تسلّق قامة الجبل الخطير، وآن يعجز ويثنيه التّعب ينام عند السّفح مطمئنّا، في حين يواصل الجبل ارتفاعه ويضحك في صمت من عبث المحاولة. أمّا صمت المدينة وهدوؤها فليس سوى خدعة بسيطة أحسبها أهمّ حرفة تمارسها على الإطلاق. ذلك أنّ خلف الصّمت أكثر من صراع.
هنا باعة الفول يتنازعون الرّصيف في صمت، وهنا الشّوّاؤون تنوب عن حربهم معاركُ لافتات الأسعار التي تعلو وتنخفض في اليوم مرّات ومرّات كبورصة «وول ستريت”، وهنا المقاهي تولد في كلّ لحظة على جنبات الطّريق الوطنيّة رقم 3 يدمّر بعضها بعضا في صمت، وهنا الحوانيت والمغازات تخوض حرب البقاء في صمت، حتّى إذا ما بارت تجارة حلّت أخرى محلّها بحثا عن وجود ممكن، وهنا البناءات تتطاول شرقا وتتوسّع على حساب سواني الزّيتون.
وتحت المدينة عالم سفليّ لا يأبه به أحد..
.. إلى أن أفاقت المدينة يوما على صياح عجوز وجدت ابنها على سريره جثّة بجمجمة فارغة، وعلى صدره ثلاثة خطوط حمراء.
كانت تقول مولولة: لقد رأيت آخرها يغادر. كان الباب موصدا غير أنّه انسلّ كنسمة هواء. إنّه جرذ ضخم جدّا. وإنّ ملامحه بشريّة، غير أنّه يمشي على أربع يتبعه ذيل دقيق طويل..
ثمّ تتالت الجثث وكثرت القصص وتناقلتها الأفواه غرائب وعجائب، وصارت المدينة فيلم رعب هوليوديّا لا يصدّق.
***
البارحة أكلت الجرذان نهود مراهقتين تاركة ثلاثة خطوط حمراء ناصعة على فرج كلّ واحدة.
في الطّرف الشّرقيّ من المدينة أيضا، شنّت جرذان تطلع من العالم السّفليّ حملة على مدرسة أكلت أصابع كلّ تلاميذها، والتّوقيع ثلاثة خطوط حمراء مطبوعة على الباب الرّئيس.
في سفح الجبل قطيع بقر أكلت الفئران أثداءه فسال نهر من الحليب والدمّ والتّوقيع ثلاثة خطوط حمراء.
سانية الزّيتون شماليّ المدينة أصبحت بلا أغصانها، وعلى الجذوع ثلاثة خطوط حمراء.
هكذا تأتيك في اليوم عشرات الأخبار المرعبة تسمعها حيثما حللت، حتّى صار ليل المدينة وحشا مرعبا ثقيلا.
اختفى الباعة. أغلقت الدّكاكين. هجرت السّاحات والمقاهي والجوامع والمدارس وغلّقت الأبواب بالحديد، غير أنّ الرّعب تسلّل بين الجدران إلى الأسرّة والقلوب.
كانت المدينة تشيّع موتاها صباح مساء. وفي كلّ ليلة تتطلّع العيون المتوجّسة إلى سماع خبر غارة جديدة تشنّها جرذان العالم السّفليّ.
جفّت العيون والحلوق. لم يعد للبكاء معنى ولا فائدة من العويل. أصبحت المدينة الخبر الرّئيس في نشرات الأنباء. جاءت فرق بحث وتحقيق دوليّة تجمع المعلومات عن الظّاهرة. انصبّت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الدّوليّة في المدينة وأوفدت الأمم المتّحدة مبعوثا أمميّا لحلّ الأزمة. واحتل الخبر عناوين الصّفحات الأولى بخطّ غليظ:
«جرذان قميئة تأكل أدمغة النّاس في مدينة ……”!؛ «منظّمة الصّحة العالميّة في مأزق البحث عن حلّ للقضاء على جرذان تأكل أدمغة البشر!”؛ «إنّها الكارثة: جرذان تأكل أدمغة بشريّة!”؛ «أغرب من الخيال: مدينة تأكل جرذانها أدمغة البشر!”؛ «هل ينجح الموفد الأمميّ في حلّ أكبر كارثة في القرن الواحد والعشرين؟”..
غادر كثيرون المدينة. خلت أحياء من سكّانها بالكامل. فرّ بعض جيراني زرافات إلى مدن مجاورة ريثما يتبيّن أمر الجرذان. جاء رئيس الدّولة في زيارة فجئيّة إلى المدينة استغرق الإعداد لها أسبوعا كاملا. وقف على المنصّة. قال عبارات كالخراء. بكى. مسح دموعه. انصرف. جابت مسيرات شوارع المدينة. تجمّعت الحشود أمام إقامة الموفد الأمميّ. خرج حرسه قائلين:
البارحة، أكلته الجرذان.
ثمّ طار الوفد ببقايا جثّته مساء.
صحت فيهم:
إنّ الأمر بأيديكم أيّها الجبناء! اقضوا على الجرذان بأيديكم أيّها الحمقى. أغلقوا العالم السّفليّ إلى الأبد!
وفي ساعة سوّيت أرضيّة المدينة بالإسمنت المسلّح الذي سرى في كلّ الشّقوق والمغارات والثّقوب فسدّها نهائيّا. أحكمنا غلق البالوعات. سددنا فتحات قنوات الصّرف الصّحيّ.
ليلا، أحكمت غلق الباب. أويت إلى مكتبي أتصفّح ما لديّ من كتب ومجلاّت علميّة وتاريخيّة بحثا عن ظاهرة مماثلة. لم أجد شيئا يذكر. مجرّد معلومات عامّة عن الفئران ودورها الخطر في نقل أكثر الأمراض خطورة. قلت: تحمل الفئران في أجسادها الأدواء فلا تأبه بها، غير أنّها تقتل بها الآخرين.
وفي لحظة، وجدتني أمام جرذ أسرع إلى النّور فأطفأه قبل أن أتبيّن ملامحه، ثمّ انقضّ على أصابع قدميّ فأكلها، وانسلّ خارج البيت. صباحا أفقت على دمائي وقد جفّت. تأمّلت وجهي في المرآة. كنت مرهقا جدا. على جبيني رأيت ثلاثة خطوط حمراء انطبعت في غمرة ذلك الألم اللّيلي الجارف.
***
كانت الجرذان تأكل مدينتي وأنا صامت كالغائب عن الوعي، أو كمن لا يهمّه الأمر.
الحقّ أقول لكم: أحسست لأوّل مرّة بأنّني جرذ حقير!
لماذا التزمت الصّمت كلّ هذا الزّمن؟ ألم يكن عليّ منذ البدء أن أتحرّك؟! كنت أراقب النّاس يقيمون الولائم ومآدب الطّاعة كالقطعان ويزورون أضرحة الأولياء طلبا للنّجاة من الكارثة. رأيت مثقّفي المدينة في المقاهي يثرثرون حول كؤوس الشّاي يأكل بعضهم بعضا. سمعت أئمة المساجد يؤكّدون للنّاس أنّها اللّعنة وقد حلّت بالمدينة العاهرة، ويلقّنونهم أنّ ما يحصل هو أقوى «برهان” من اللّه لمدينة ضالّة.
رأيت كلّ هذا وأكثر، ولكنّني لم أحرّك ساكنا!
صحت في المرآة: أنت جرذ حقيقيّ! أنت جرذ حقير! عليك اللّعنة يا عيسى! الموت لقلمك!
سمعني نبراس أصيح بالجملة وأنا أكتبها. نطّ في حجري:
ماذا تكتب؟
قصّة.
عن الأميرة؟
عن الجرذان.
تخطف الأطفال الصّغار؟
وتأكل أدمغتهم وأدمغة الصّبايا والأطفال والنّساء.. هل تعرفهم؟
نعم. عيونهم حمراء وذيولهم طويلة وأنيابهم عملاقة حادة وأنوفهم تقذف المخاط في أفواههم بلا انقطاع، يعيشون على القاذورات ويأكلون لحوم البشر..
دفعته بهدوء مربّتا على كتفه فقفز إلى لعبه وعدت إلى قصّتي..
لحمة تطول وتقصر..
لوحة: كرم الشمالي
ما إن دخلت البالوعة حتّى انقضّوا عليّ خبطا على وجهي بالذّيول، وأخذوا ينهشون لحمي. جرّوني عبر قنوات الصّرف إلى بالوعة أخرى. فقدت إحساسي بالزّمن وضيّعت الاتّجاهات. خنقتني الرّوائح الرّطبة. في إحدى البالوعات زُجّ بي مكتوف اليدين أمام كائن أسود ضخم لا تكاد ملامحه تبين. أجلت النّظر في البالوعة مذعورا، فإذا خراء وبول وبراز وصراصير وجثث قطط متعفّنة، وبقايا لحم نتن، وقطع جلود ودماء وغازات تخطف الرّوح وسوائل لزجة تنساب في المكان. ومن السّقف تدلّت خيوط سوداء وعناكب وجراد بعيون مضيئة.
ما الذي جاء بك إلى العالم السّفليّ؟
صاح الكائن بصوت أجشّ فتبيّنت ملامحه لأوّل مرّة. عينان بشريّتان تنظر كلّ منهما في مكان، تشعّان بشرّ ومكر ودهاء. لوهلة سمّيته بيني وبين نفسي «التِّبِّيب” (الهدهد). ثمّ قهقه فبانت أسنانه الأمامية المتباعدة كسور قيروانيّ قديم. تحرّك في القاعة بخطى ثابتة، فبان ذيله الدّقيق الطّويل، وتأكّدت أنّ هذه الجرذان كائنات بشريّة استجرذت كي تسيطر بطريقتها على المدينة.
أتظنّون أنّ شمسكم القحبة ستثنينا عن احتلال المدينة أيّها الوغد؟ هل جئت لتحويل المعركة تحت الشّمس؟ أم جئتنا غازيا؟
ثمّ أضاف وهو ينظر إليّ نظرة المحتقر:
يا لك من أخرق!
وأمسك بي بعنف:
ما الذي جاء بك؟ (يصيح ويزبد)
…….. (جئتكم غازيا.. أولاد القحبة)
انطق!
جئت مستكشفا!
تكذب! كذّاب!
…….. (أنتم الكذب يمشي على قدمين.. وجودكم في مدينتي كذبة لم يصدقها غيركم!)
ألم تقرأ سيرة أمّة الجرذان أيّها الكلب؟
واشتدّت ثورته:
أنت رمز الرّداءة في المدينة وسنقاومك أيّها الكلب!
……. (أنتم الرّداءة وقد تجسّدت كائنات لقيطة لا هي من البشر ولا هي من البهائم أيّها الأقحب النّذل. أنا كاتب حقيقيّ يا خراء، وسأطهّر المدينة منكم بقلمي وإيري يا لعين السّماء والأرض! أعدك. إنّها مسألة وقت لا أكثر، فصبرا أيّها التّبّيب اللّعين!).
ثمّ نادى بكتاب، وأخذ يشير عليّ بقراءة الأسطر والفقرات، الّتي تحدّث عن أمجاد أمّة الجرذان في رحلة بحثها عن الزعيم المنتظر، والصّراعات التي خاضتها للتوّحّد، وتأميم البالوعات وقنوات الصّرف باسمها.
خبط الأرض بقدمه صائحا في وجهي:
لا أحد دخل العالم السّفليّ إلاّ اسْتَجْرَذَ. فقدتَ أصابع قدميك، فعذرا عن الألم. أردناها همسة بسيطة في أذنك أن ابتعد عن طريقنا قبل أن نأكل دماغك أيّها الوغد. ولكنّك لم تفهم الرّسالة.
ورفع رأسي نحو جدار البالوعة مشيرا بإصبعه إلى ثلاثة خطوط حمراء مطبوعة عليه:
ذاك شعارنا: خطّ أوّل ضدّ البشر، وخطّ ثان ضدّ الحيوان وخطّ ثالث ضدّ الشّجر! فكن واحدا منّا تأمن.
كنت غارقا في عالم من الغرائب والعجائب. أين أنا؟ أيّ كابوس يجثم على رأسي وقلبي؟
لماذا تتمتم يا أبي؟ ما بك؟
***
غلبتك الجرذان؟ (يقهقه نبراس).
……… (غلبتني حقا يا ولدي).
دعني أصنع مركبة تطير في الجوّ وترمي عليهم الحجارة! أو دعني أتآمر عليهم مع صديقي القطّ وسيصطادهم واحدا تلو الآخر!
أشرت إلى لعبه فغرق بينها من جديد. وأما أنا فقد كانت بي رغبة في خبط رأسي على جدار البالوعة. وكنت غارقا في صمتي وذهولي، وريح البالوعة الضيّقة البعيدة أطيب من ريح الجنّة يخنق أنفاسي.
***
دخلت علينا زمرة من الجرذان تحمل جرذا منهم يتلوّى ويتأوّه. سألهم التّبّيب:
من هذا؟
هذا «مَعْ” يا مولاي. (كان أشيب منفوش الشّعر ككلب برّيّ، وكان أقربهم إلى الأرض، متدلّي البطن يضع نظّاراتين قديمتين).
ما به؟ ما الخطب أيّها الحمقى؟
مولاي.. مولاي.. ضربه زُبّ يا مولاي.
زُبّ؟!! زُبٌّ صنع به هذا؟
أجل. طارده بين بالوعتين أسفل العالم السّفليّ حتّى أصاب بطنه فبقرها.
ودوّت صفّارات مرعبة في أرجاء المكان وأعلنت حالة الطّوارئ ورأيت الجرذان تتقافز مذعورة، وأبصرت مضافا إليه يجلد «مَعْ” على مؤخّرته، ومفعولا به شرسا يقرع رأسه قائلا:
لماذا نصبتَ صديقي أيّها الغبيّ؟
وانهالت عليه المفاعيل التي رفعها يوما، وجاءه الفاعلون الّذين نصبهم، فجلدوا مؤخّرته بالعصيّ حتّى كره الحياة وما فيها. كان åمعò يردّد جملته الشّهيرة التي تعوّد أن يختم بها استدراجه لتلميذاته -قبل أن يستجرذ- للنّيل من أجسادهنّ الطّريّة «أريد أن أحافظ على هيبتي وسمتي”. غير أنّ زعيقه وخواره لم يحم مؤخّرته من الجلد. أما بقيّة الجرذان فقد انهالت عليّ تنهش لحمي مثل كلاب جهنّم وألسنتها تنفث السّباب واللّعنات. كنت حينها أرى جبل المدينة يتطاول ويميد. يلامس رأسه السّحاب. يضحك حينا ملء شدقيه، ويزمجر حينا ويزبد، فإذا هو يقصف المدينة بالجلاميد العظيمة، وإذا النّاس شتات وإذا البيوت رماد وحطام.. كانت الجرذان تضربني بكلماتها القذرة فإذا وقعها وقع النّار. وفي ذلك الخراء العفن رأيت سوانيَ المدينة جيشا عرمرمَ يزلزل الأرض. رأيت قطعان الخنازير تغزو المدينة، تأكل أطفالها والأرامل والشّيوخ والعجائز والصّبايا. تدوس السّنابل وتجفّف عين المدينة. تقطف المآذن وتلوّث السّاحات..
كانت قطعان الجرذان تزمجر، وكنت وحيدا أعزلَ، وكانوا بلا عدد، وكانت أنيابهم مشرعة في وجهي تطلب لحمي. تضيء عيونهم القذرة البالوعة. كانت تتصايح وتتقافز فزعا. ولمّا دقّقت النّظر لأفهم سرّ جريهم وقفزهم من مكان إلى مكان ذعرا، رأيت لحمة سمراء طويلة كأنّها ذراع حديديّة تطير في الهواء. كانت مثل صاروخ من اللّحم، وكان رأسها العنيد شبيه وجه غاضب.
إنّه زُبٌّ، صاح أحدهم، إنّه زُبٌّ!
وتقهقرت الجرذان فتعثّر بعضها ببعض وجرى بولها حاميا بين الأفخاذ، اصطكّت أسنانها القذرة، وسمعت لها ضراطا عنيفا.
بعينيّ رأيت «مَعْ” رافعا يديه واللحمة العنيدة -وقد طالت وانتصبت وعربدت- تصفع وجهه الممتلئ. أبصرت «تَنْ” يبول في سرواله واللحمة تقرع بطنه المتدلّي. هاجمتها مجموعات غفيرة العدد من المتشابهين، فطالت أكثر وصار رأسها رؤوسا وألسنة التفّت حول أعناقهم فحاصرتها حتى قفزت عيونهم وتساقطت أرضا كحبّات البرَد.
فرّ بعضها فلاحقتها اللّحمة وقد طارت في الفضاء وجعلت تجلد الواحد منها على مؤخرته جلدة واحدة فيخرّ ميّتا، ومن حين إلى آخر تلتفّ حول أحدها حتّى لا حراك به، فتنزع أسماله البالية وتمزّق أسته بشراسة مدهشة. كنت أتابع حركتها العجيبة الخفيفة كعصا موسى. ترتمي في فم هذا فيغصّ بها حتّى تنفلق مرارته، ثمّ إذا هي في أست ذاك كمثقاب فولاذيّ عنيف، فتنفجر بطنه. دوّت الانفجارات والفرقعات وغصّت البالوعات والقنوات بالأمعاء والخراء واللّحم والأشلاء والأضلع والرّؤوس والجماجم الجوفاء.
وما هي إلاّ ساعة حتّى هدأت الحركة واسترخت اللّحمة وقصرت وضمرت وقد أضناها التّعب.
كان التّبّيبُ -علمتُ فيما بعد أنّ اسمه «عَوْحَ”- ذليلا قميئا مرتعشا مطأطأ الرّأس يقلّب حَوَلَ عينيه في أكداس الأشلاء والبقايا. أخذ ينقع إصبعه في الخراء ويدوّن على الجدار متثاقلا:
«أعلنُ، أنا عَوح، كبير الجرذان، عن سقوط العالم السّفليّ ونهاية أمّة الجرذان”. ثمّ ينقع إصبعه ثانية ويكتب: «لقد كنت جرذا حقيرا وخنزيرا قميئا. عاديت الرّبّ والأرض والحجر والبشر طمعا في الاستيلاء على المدينة والقضاء على شمسها، احتقرت أحرارها وحرائرها زورا وبهتانا. ولقد كنت أقحبَ التّفكير عاهر الإحساس، إذ ظننت أنّني قادر على فعل ذلك”. ثمّ تبع اللّحمة العملاقة الطّائرة وقد طالت من جديد وامتدّت بين القنوات، وأنا أجرّني متثاقلا أتابع ما يحصل حتّى بلغنا السّطح.
شممت رائحة الزّيتون وأعشت أشعّة الشّمس بصري. وبدأ النّأس يتقاطرون متحلّقين حولنا مذهولين أمام أطول لحمة بشرية رأوها في حياتهم. لفحت الشّمس وجه التّبّيب عَوْحَ، فجعل يعول وينتفض ويرمي أسماله القذرة، فإذا هو عار، وإذا اللّحمة تنقضّ على مؤخّرته تجلدها بقسوة حينا وتصفع وجهه فيطير مخاطه في الفضاء، وإذا هو ينتفض مذعورا. علت زغاريد النّسوة اللاّتي تقهقرن في البدء إذ رأين اللّحمة العجيبة، ثمّ أقبلن على التّبّيب يصفعن وجهه بالنّعال ويبصقن عليه. وسمع دويّ انفجار بشري عنيف. كان التّبّيب قد انفجر إذ دخلت اللّحمة المنتصبة الطّويلة أسته حتّى خرجت من فيه، فتفرقع وتطايرت أشلاؤه في كلّ مكان.
لمّا كنت ملقى على الأرض أتنفّس بمشقّة، والنّاس يغسلون جسدي بالماء والصّابون، قصرت اللّحمة العجيبة. تقلّصت. ثمّ تسلّلت تحت بنطلوني واستعادت مكانها فوق خصيتيّ تماما كأنّها حمامة برّيّة. ودخل عليّ نبراس المشاكس إذ سمع تنهيدتي..
بابا.. أنهيت القصّة؟
نعم.
ماتت الجرذان؟
نعم.
ولكنّ بقاياها ما زالت في المدينة! فلينزل المطر بابا.
لا بدّ لهذه القصّة من مطر إذن! ولا بدّ لها من مساء تفتح فيه بالوعات المدينة وشبكة التّطهير، إذ تستقبل مياه الوادي المنحدر من جبل المدينة جارفا.. يسري في عروق العالم السفليّ فيجرف بقاياه وقاذوراته بعيدا بعيدا.