هرمنيوطيقا الجسد

ينتمي أحمد مراد صاحب رواية «الفيل الأزرق” إلى جيل من الكتاب الشباب استطاع أن يشكل تياراً جديداً يخوض مغامرات إبداعية ظلت غير مطروقة لسنوات طويلة في الأدب العربي المعاصر. وهو الأمر الذي أدى إلى فجوة في الثقافة العربية الأدبية كان يقوم الأدب الغربي المترجم بسدّها، ويتخم الوعي المتلقي بشخوص خرافية من قبيل دراكيولا وفرانكشتاين، وشخوص بشرية حادة الذكاء مثل شارلوك هولمز ودكتور واطسون وأرسين لوبين.
وهي الشخصيات التي حددت المسار لأدب الرعب والأدب البوليسي منذ بداياتها الأولى عند برام ستوكر وماري شيلي وأغاثا كريستي وأرثر كونان دويل وموريس لابلان، وحتى وقتنا الحاضر لدى دان براون صاحب «شفرة دافنشي” وهـ.ج رولينج مؤلفة سلسلة «هاري بوتر”، وستيفن كينج كاتب الرعب الأشهر.
والملاحظ من خلال رواية «الفيل الأزرق”، الصادرة عن «دار الشروق” القاهرية أن هذا النوع من الكتابة رغم شعبيتها الكبيرة وتصدّرها لقائمة المبيعات في معظم أنحاء العالم، إلا أنها لا تحظى بالقدر الكافي من الدراسات النقدية العربية. وهي آفة ينبغي التخلص منها في كتاباتنا النقدية، حيث يتم تصنيف الأدب إلى درجات تأتي هذه النوعية منه في المرتبة الثانية أو الثالثة، وهي المرتبة التي يترفع النقد الذي يعتبر نفسه جاداً عن النزول إليها ووضعها موضع البحث والدراسة للكشف عن جماليتها الخاصة ومعرفة أسباب نجاحها الجماهيري وإقبال القراء -بمختلف الأعمار- عليها.
يتمتع أحمد مراد بحس بوليسي عال وقدرة فائقة على الدخول في عوالم جديدة، فروايته الأول «فيرتيجو” تدور في عالم الملاهي الليلية، وتدور روايته الثانية «تراب الماس» في عالم العطارة والصيدلة، وتدور روايته الأخيرة «1919” في عالم البغاء، أما رواية «الفيل الأزرق” محل الدراسة -وهي الرواية الثالثة في سلسلة مؤلفاته- فتدور في عالم الجن والطب النفسي، ويربطها كلها خيط بوليسي تجدله أحداث غرائبية مليئة بالإثارة والتشويق.
ولا يقدم أحمد مراد هذا اللون البوليسي كهدف في حد ذاته، وإنما باعتباره وسيلة جذابة للكشف عن جذور الفساد المختبئة تحت سطح المجتمع، ويعبر عن هذا المعنى الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم بعبارة دالة تتصدر غلاف رواية مراد الثانية فيرتيجو، قائلاً «للمرة الثانية بعد ‘فيرتيجو’ يتخذ أحمد مراد من الجريمة خلفية تكشف بأسلوب مشوق كواليس المجتمع والفساد المستشري وسط طبقاته وهو بذلك يؤكد قواعد النوع الروائي الذي أصبح رائداً له”.
والسؤال الآن، كيف يمكن مقاربة هذا اللون من الأدب الروائي بصفة عامة، وروايات أحمد مراد بنحو خاص؟
في الحقيقة أن المعضلة هنا تكمن في محاولة تحميل هذه الكتابة بأكثر مما يمكن أن تحتمله من أبعاد إنسانية ووجودية أو حتى اجتماعية وسياسية لتلحق بكبريات الأعمال التي حفرت لنفسها مكاناً في الوجدان وفي التاريخ. فمن الخطأ استخدام مصطلحات نقدية كبيرة حين إقدامنا على قراءة وتفسير هذه الأعمال، فقط علينا تناولها ومحاولة فهمها وفقاً لسياقها ومنطقها الخاص الذي يحكم جمالياتها الخاصة بالنوع.
ورواية «الفيل الأزرق” تقدم لنا المفتاح لفهمها وفهم أعمال أخرى من نفس النوع. فالحركة هي أساس العمل البوليسي، سواء أكانت داخلية أو خارجية، والجسد هو الفاعل والمفعول في الجريمة، هو الحاضر والغائب في ذات الوقت. فالقاتل الذي يرغب في تأكيد وجوده عن طريق إزاحة الآخر (المقتول) من الوجود، هو الذي يختفي من المشهد طوال الرواية بينما تبقى الجثة حاضرة لتظل موضوعاً للبحث والتنقيب عن الفاعل وشروط الفعل الإجرامي.فكيف تحقق ذلك في «الفيل الأزرق”؟
الكتابة بالجسد
منذ الصفحات الأولى تطلعنا الرواية على أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه التعبير الجسدي في الفهم والتفسير، فالدكتور يحيى الشخصية الرئيسية في الرواية يعمل طبيباً للأمراض النفسية بمستشفى العباسية وتتناول رسالته في الدكتوراه موضوع «التحليل النفسي عن طريق لغة الجسد”.. وهي المهارة التي لا يجيد يحيى غيرها، والتي سيعتمد عليها كثيراً في أحداث الرواية لفك الكثير من الألغاز والشفرات التي تطوق حياته. ففي جلسة بوكر يقول لنفسه في مونولوج داخلي «كان ذلك متأخراً، فالحكة كانت قد بدأت، حكّة قراءة من حولي، فك شفرتهم، تعريتهم ورؤية أكاذيبهم بالعين المجردة، لغة الجسد التي لا تكذب، فمداعبة أرنبة أنف تفضح من يدّعي ثقة وأوراقه سيئة، جذب شحمة أذن تعني أوراقاً جيدة لكنها مترددة، كما أن هزة قدم رتيبة تعني شخصاً فقد صبره، على وشك الفوز لكنه ينتظر انقضاضه” (1).
وفي جملة معبرة يخاطب خصمه الخاسر قائلاً «الورق مستخبّي.. بس الوشوش بتفضح”.
وكما يفضح الجسد الحي نفسه أمام الآخرين ويصبح مرآة شفافة تعكس مكنونات النفس المتوارية والمحتجبة أمام العين غير المدرّبة، فإن الجسد الميت الذي غادر الحياة وتحول إلى كيان معتم وسرّ مغلق كفّ عن الوجود. هذا الجسد لا يتوقف عن بعث رسائله من العالم الآخر ليكشف عن سر اللحظات الأخيرة التي أودت بحياته وحوّلته إلى جثة هامدة، فعندما يتحول الجسد إلى ملف للطب الشرعي أو البحث الجنائي لا يستغرب أن نقرأ عبارات من قبيل «وبالكشف على المجنيّ عليها تبين حدوث اعتداء جنسي يرجع لساعات قبل الوفاة أحدث تهتكاً حاداً بمنطقة المهبل والعجان، ونزيفاً أدى للإجهاض، وبفحص الرحم تبين أن عمر الجنين من سبعة إلى ثمانية أسابيع تقريباً” (3).
ولأن الجسد لا يفصح عن مكنوناته إلا لمن يمتلك مهارة قراءة أبجدياته الخاصة، فإنه يمثل نوعاً من الغواية ويكشف عن هوس الآخر بمحاولة اقتحامه وفضّ أسراره دون مبرر حقيقي ودون استئذان.
إن يحيى يمتلك هذه القدرة ويعيش هذا الهوس في كل لحظة واعية من لحظات حياته الفارغة من المعنى بعد أن تسبب بسُكره في وفاة زوجته وابنته الصغيرة في حادث طريق، لقد تحوّل العلم على يديه إلى وسيلة للتسلية وتبديد أوقات الفراغ المقيتة. يحدث ذلك لا إرادياً وبوعي في ذات الوقت حين يقول واصفاً حالته بدقة «وبدأت لا إرادياً في ممارسة هوايتي، كم أعشق لغة الجسد حين يتعلق الأمر برجل وامرأة يجلسان في مطعم.. تلك الجالسة التي تضع يديها أسفل ذقنها وتميل برأسها، تنصت لهراء الجالس أمامها بشغف وانبهار، إلا أن السفيه يكذب فيما يحكيه، كتفه اليسرى ترتفع لا إرادياً كل عشر ثوان لينكر ويستغيث مما يختلقه فصّ مخه الأيمن المسؤول عن طمس الحقائق واستبدالها ببطولاته الزائفة، أما تلك التي تضم ذراعيها أمام صدرها وتضع حقيبة يدها بينها وبينه تصنع حائلاً يمنعه من اقتحامها رافضة لما يقول”.
وكما تكون لغة الجسد هوساً فهي أيضاً لعنة تصيب دارسيها بحيث يقرأون من خلالها ما يودّون أن يعرفوه لا ما يقوله الجسد عن صاحبه بالفعل، فلأن يحيى يرغب في استعادة حبه القديم تجاه لبنى التي تزوجت وأنجبت طفلة، فإنه يحاول أن يقرأ في ملامح وجهها من التعبيرات ما ينم عن عدم استقرار العلاقة بينها وبين زوجها خالد، فيحدّث نفسه قائلاً «لا أعرف إن كانت لغة الجسد خانتني أم أني في قرارة نفسي تمنيت ‘بدناءة’ رؤية ذلك التعبير في وجهها فرأيته؟ ملامح لبنى لم تبد مسترخية وهي تنطق اسم زوجها، تقلصت شفتاها لجزء من الثانية كان كافياً بالنسبة إليّ لألتقطه، اللعنة على لغة الجسد وما تفعله في دارسيها”.
لا تتوقف قدرات يحيى على قراءة الأجساد التي في حالة حركة، وإنما أيضاً تلك التي في حالة ثبات، الأجساد التي تم تثبت تعبيراتها في الصور، والتي لم تعد قادرة على التعبير مجدداً، ليس هذا فحسب بل إنه يستطيع ببراعة منقطعة النظير أن يقرأ من خلال تعبيرات الجسد الحاضر في الصورة تعبيرات الجسد الغائب عن الكادر، والواقف خلف الكاميرا، فمن خلال الصّور يحاول أن يستكشف طبيعة العلاقة التي كانت بين صديقه شريف وزوجته بسمة المتهم بقتلها، «أكثر من ستين صورة لبسمة، عارية مستلقية في السرير! لقطات مقربة لشفتيها، عنقها، ظهرها، ساقيها وأصابع قدميها وكاحلها، تصوير عاشق يقبّل الأرض تحت قدمي أفيونته”.
الأجساد إذن تكتب نفسها وتفض بكارة الغيب، الماضي والمستقبل، والصخب الذي يملأ الحاضر ويطمس معالمه.. إنها كتاب موتى مفتوح أمام يحيى، وفي كل يوم يتحقق له بعث جديد. ولعل في اسم يحيى يكمن سر شخصيته وقدرته على إعادة الحياة للمعاني والدلالات للأشياء والأشخاص التي ماتت من حوله ومازالت تقتحم حياته بوجهها المخيف.
الكتابة على الجسد
الكتابة على الجسد تلعب دوراً هاماً في حلّ ألغاز الرواية، بل إنها تحمل في داخلها سر اللغز الأكبر الذي بمعرفته تتحلل كل المعضلات التي استعصت على فهم يحيى في بداية الرواية، وفهم اللجنة الطبية التي كانت في سبيلها إلى إصدار حكم بالإدانة على شريف، كما استعصت على فهم المتلقي الذي ظل متأرجحاً بين يحيى وشريف، معتقداً أن الحل لن يأتي إلا عن طريق إثبات جنون أحدهما وتبرئة الآخر.
الكتابة على الجسد تتخذ شكل الوشم على جلد شريف وجلد زوجته بسمة، وعن طريق محاولة يحيى قراءة الرمز الذي يشير إليه الوشم تبدأ رحلة البحث في اتجاه آخر، يبعد عن السيكولوجي ويقترب من الميثولوجي لنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام أساطير ظلامية وكائنات خرافية متوحشة تقتات على لحوم البشر. وبنفس المهارة الخاصة التي يتمتع بها يحيى في قراءة لغة الجسد، يحاول أن يفك شفرة الجسد الموشوم، «الوشم المغوي على فخذها اليسرى يشير لزوجة لديها Desserts menu من مئتي صفحة من أجل زوجها”.
وكما يُعدّ الوشم بمثابة الكتابة على الجسد فإن الإصابات والجروح تعدّ أيضاً صوراً وأشكالاً للكتابة، «كما تبين حدوث قطع دائري مشرذم ‘قطر 5سم’ أعلى الفخذ اليسرى يشير تطوره الالتئامي إلى كونه جائز الحدوث ما بين أسبوع إلى عشرة أيام، نتيجة سلخ الجلد بآلة حادة!”.
إننا إزاء عملية كتابة ومحو للكتابة في ذات الوقت، فالجلد المشوّه للقتيلة كان يحمل وشماً ذات يوم والآن لا يحمل سوى أثر لحمي ممزق لعملية نزع ومحو لهذا الوشم، والمفارقة أن سلخ الجلد ومحو الوشم أدى إلى نوع من الشكل الجمالي، «لم أستطع تبين الرسم جيداً، ربما ثلاثة خطوط متقاطعة تصنع شكل وردة مبسطة” (9).

لوحة: محمود دياب
ولا يمكننا أن نستنبط أيّ نتيجة أبعد من كون يحيى يعالج المسألة بشيء من التهكم واللامبالاة الناجمة عن زخم المتناقضات التي تعج بها حياته الماضية والحاضرة. إلا أن جدل الكتابة والمحو على الجسد الذي يهيمن على أحداث الرواية يكشف لنا عن جدلية العلاقة بين اللذة والألم. فالكتابة ترتبط باللذة، بينما يرتبط المحو بالألم، والكتابة على الجسد لا تحتاج إلى قارئ لفهم معناها كما الكتابة على الورق أو الحجر، لأن الكتابة على الجسد هي فعل أكثر عن كونها قولا. إنها تحمل دائماً سراً كونياً خاصاً، قوة خفية تتجاوز مادية النقش والجسد معاً، لأنها تأتي في الغالب بمثابة الطلّسم وتحقق قدراً من السحر، سحر حقيقي أو توهّمي، لكنها في كل الأحوال تترك أثراً ما في الروح.
ثفالوشم يرتبط بالقدرة الجنسية، عند الرجل أو عند المرأة، ويقدم حلاً سحرياً لانسداد سبل التواصل بين المحبين الراغبين في المتعة والاستحواذ، هذا ما سيكتشفه يحيى في أحلامه وفي يقظته:
«- يا خالة.. جلدي بيتقطّع .. ما عنتش قادرة.
- لجل الورد ينسقي العليق .. اصبري يا بنتي.
- خايفة ما يكون ليه فايدة الدّك ده .. كنا نقشناه حنّة.
- رسمة الوردة لازم تبات في جلدك اتنين وسبعين يوم لغاية ما ينفك سحرك”.
ولأن الجنس علاقة ثنائية فإن التعويذة السحرية لا بد وأن تكون مزدوجة، بعضها محفور على جسد المرأة وبعضها المكمّل محفور على جسد الرجل «وشم الوردة ينبض على فخذها ويتلوى! وذراعي اليسرى بدأت ترتعش.. سخونة ذراعي تكاد تشعل السرير من تحتنا، الهلع استبدل الخوف في ملامحها من عنف حركاتي، عرقي انهمر على صدرها وبدأت أرتج بلا إرادة، أتزلزل حتى بدأت تصرخ من تحتي”.
وفي النهاية تقدم الرواية تفسيرين محتملين للقوة الخارقة التي ينطوي عليها الوشم: واحدة تحاول أن تكون علمية، والأخرى خرافية، وفي كلتا الحالتين يتم إهدار التفسير العلمي الصحيح، بل وشبه العلمي، لتحتفي في النهاية بالخرافة باعتبارها الخيار الأكثر مناسبة للرواية البوليسية التي تسعى إلى الإثارة وشد انتباه القارئ حتى اللحظات الأخيرة.
وفي التفسير الأول تحاول صاحبة محل التاتو (الوشم) أن تبرر عملها المريب قائلة «تاتو معين بيعمل” ‘Positive energy during sex‘ طاقة إيجابية، تخلّي العلاقة تتحسن، وبينشط الشاكرات، اللي هي بؤر الطاقة في الجسم! خصوصاً ‘المولادارا شاكرا’ اللي بتأثر على المبايض والبروستاتا… الطاقة علم”.
وفي التفسير الثاني يغوص يحيى في كتب عالم الجن والأعمال السفلية ليقرأ «هذا ورب الأرباب أخطر أنواع التسليط على الإنس فافهم، هو استحضار لعارض سفلي عن طريق رسم طلّسمة ومناداته بعزيمته التي تسيطر عليه منذ عهد سليمان، فيأتي خادم الطلّسم لينكح الأنثى المسلط عليها مدة شهر وعشرة أيام، وحده، أو عن طريق الحلول في جسد بعلها المعاشر لها إن كان لها بعل”.
وهنا تصل الرواية إلى ذروة الأحداث كاشفة عن سلسلة الألغاز التي استعصت في البداية على الفهم لنجد أنفسنا إزاء قراءة شديدة المحلية لواحد من الأعمال الكلاسيكية العالمية الشهيرة وهو «دكتور جيكل ومستر هايد”. وهي قراءة تبعد عن ظاهرة الفصام السيكولوجية التي تحاول الرواية أن تثبت أنها لا تحدث إلا في الأفلام فقط. وتبرز فكرة الحلول الجسدي عن طريق الجن فيما يعرف بـ”المس»، وهي تفسيرات تنتمي إلى عالم الماوراء وتستمد مادتها من الواقع البيئي العربي.
وكما ذكرنا لا يمكننا أن نحمّل الرواية أكثر مما تحتمل حتى نحاسبها بمنطق العلم أو الفلسفة، وإنما فقط بالمنطق البوليسي الذي تنتمي إليه. وهي في تلك الحدود نجحت في تقديم عالم سحري مثير وغريب، واستطاعت أن تستحوذ على انتباه القارئ منذ السطور الأولى وحتى السطر الأخير، وهو ما أهلها لتكون ضمن الروايات الأكثر مبيعاً في السنوات الأخيرة، وأن تتحول إلى فيلم سينمائي ناجح يحمل نفس الاسم.