كنت في الثانية عشرة من عمري وفي السنة الأولى بمدرسة طاهر بك الإعدادية بمنطقة الورديان بالإسكندرية. كانت مدرسة حكومية ولا زالت لكن المدارس الحكومية في ذلك الوقت، أي في الخمسينات، كانت مدارس حقيقية، بل كانت ليست مجرد مدرسة لتلقي العلم لكن مركزا ثقافيا حيث بها مكتبة جميلة يدخل إليها كل فصل من الطلاب مرة في الأسبوع لمدة ساعتين للقراءة الحرة. أي يختار كل تلميذ كتابا يقرأ فيه وفي النصف ساعة الأخير نلتف جميعا حول المدرس وكل يحكي ما قرأه أو أعجبه أو يسأل المدرس فيما قرأ، وكانت دائما الإجابات عند المدرسين متوفرة.
كانوا نوعا من المدرسين يجيدون اللغات الأجنبية وعلى ثقافة عالية تعلموا في الفترة الملكية قبل يوليو 1952 واستيلاء الجيش علي السلطة.
وكان إلى جوار القراءة هناك جماعات للموسيقى والشعر والسينما والمسرح والرحلات وغيرها من الأنشطة الثقافية والرياضية. كما كان فناء المدرسة به ملاعب للكرة الطائرة والسلة وكرة القدم وأماكن للجمباز.
كل ذلك انتهى وصارت الأفنية فصولا مع التخلف في العملية التعليمية وازدحام الفصول. فصولنا كنا لا نزيد فيها عن عشرين تلميذا في المرحلة الابتدائية والإعدادية. الآن ستون وسبعون تلميذا وأحيانا مئة في المدارس الحكومية.
كنت أحب السينما وأذهب إليها تقريبا كل يوم. السينما الشعبية في حي كرموز حيث كانت أسرتي تسكن أو حي القباري في الطريق إلى المدرسة.
وكنت أقرأ أفيشات الأفلام وأعرف أنها مأخوذة عن روايات لكني لم أبدأ في قراءة الروايات بعد، حتى حدث ونحن في المكتبة وأنا في السنة الأولى إعداديا لم يصل سني إلى اثني عشر عاما بعد أن قرأت رواية أطفال صغيرة عنوانها «الصياد التائه» للأسف نسيت اسم مؤلفها مع الزمن لكني عدت إلي الويكيبيديا وأنا أكتب هذا المقال فعرفت أنها كانت للراحل العظيم محمد سعيد العريان الذي قرأت له روايات تاريخية جميلة بعد ذلك.
تذكرت ذلك الآن، أي قراءتي لرواياته التاريخية لكني لم أنس أبدا ما جرى لي وأنا أقرأ رواية الصياد التائه ولا ما جرى لي بعدها.
ما أذكره منها أنني بكيت حين ضل الصياد طريقه في الصحراء وكانوا يبحثون عنه. رآني المدرس أبكي فتقدم مني وسألني لماذا تبكي يا إبراهيم. هل القصة لا تعجبك.
هل لا تريد أن تقرا اليوم؟ قلت له «الصياد تاه ولا يجدونه وخايف يكون جرى له شيء» ابتسم المدرس وقال لي هل صدقت يا إبراهيم؟ هذه حكاية من تأليف المؤلف ولا يوجد في الأصل صياد ولا رحلة صيد حقيقية.
نظرت إليه في دهشة فقال هذا هو التأليف الجميل يقنعك أنه حقيقة. انتبهت لما قال. بعدها اندفعت في قراءة القصص بشكل رهيب وعلي رأسها قصص محمد سعيد العريان التاريخية ثم محمود تيمور ونجيب محفوظ ومشيت في الطريق الذي لم أرجع عنه.
لقد وجدت نفسي مندفعا في القراءة لأستمتع وأفكر أن أكتب مثل هؤلاء الناس. وبالفعل مع بلوغي الرابعة عشرة من عمري بدأت في التأليف الجميل الذي كان يسعدني جدا رغم سذاجته ولم أتوقف عن ذلك إلا بعد خمس أو ست سنوات حين قرأت لطه حسين مقالات أدبية وعرفت أن للأدب مدارس وطرقا وأشكالا فاندفعت في قراءة تاريخ الأدب والنقد والفلسفة وغيرها مما رأيته لازما للكتابة والمعرفة المفيدة للكاتب.
كان الصياد التائه سبب تحولي العميق للأدب والكتابة فيما بعد رغم أني كنت أشطر تلميذ في الفصل في الرياضيات. كانت كتابة محمد سعيد العريان الجميلة التي جسدت متاهة الصياد هي السبب في أني كتبت فيما بعد.