القارئة الصغيرة
الطفولةُ مخزونٌ ثري في الأعماق ننتح منه للحاضر، وكلُّ ما كان رماديًا ومضببًا ينقلبُ مع عبور درب العمر وتوالي السنون إلى ذكرى وردية وملونة بجمال تلك المرحلة المفصلية في الحياة والتي تمر -مهما كان لون الفرح باهتاً فيها أو وردياً- كحلم،وتمضي كرحلة ونعبرها وتعبرنا كخديعة للحياة ووشم عشوائي للوجود.
ربما معظم الأحداث التي تمر بنا في مرحلة الطفولة تسهم في تشكيل عجينة الآتي، وتبذر ذاتها في النفس باختيارنا أو بعدمه، وربّما حين يحاولُ المرءُ النظر داخله وفتح صندوق طفولته المشرع والساكن في أعماقه يحار أيها يختار ليصفها بالمفصلية، قد يظلل قاصدا بعضها بالتناسي لأنها تحفر الجرحَ عميقا في نفس غضة دون شفاء، وقد يحيي أخرى لأنها زرعتْ له أجنحة، وبعثرتْ سكون وركود الواقع وزينتْ له الوجود، وأضاءتْ في عتمة قلبه قنديلَ حلم وقد..
لم تكن الطفلةُ التي أيقظها العطشُ ذات صباح عمر بعيد تدري أنَّ تلك الساعاتِ الفارغةَ والمكدسة في النهار هو نبع عمرها، وأنَّ الوقت الذي حدستْ أنه يتسرب من بين قبضتها الصغيرة هو عنوان لمستقبل حين هربتْ من ألعابها الصغيرة البسيطة مثل الحجلة والكمستير التي كانت نقيةً من ملوثات التكنولوجيا وسحر وأسر الشاشات إلا من نصف ساعة الأطفال التي كانت تبثها المحطة الوحيدة المتاحة آنذاك وهي شاشة التلفزيون الأردني التي بالكاد كانت تنجو بها من تسلط إخوتها الأكبر باعتبارها الصغرى في العائلة، لتنعم بمتابعة متقطعة لـ»ساندي بل» و»الليدي أوسكار» وتسافر في الخيال مع» السندباد « ولتصطدم بوقت تمل فيه سريعا حيثُ لا خيارات متاحة، حين خطرَ ببالها أن تتسلق صعودا من «المجلى» واتكاء على نافذة المطبخ وتعلقا كبندول الساعة وصولا إلى كوة في أعلى الجدار هي «السدة» والتي ستفتح نافذة فسيحة سيسرقها لألوانه وحروفه وعوالمه إلى الأبد.
كنتُها تلك الصغيرة الحالمة حين تسلقتُ السدة، وعثرتُ على مخزن الكتب والمجلات التي كان الوالد -رحمه الله- يودعها هناك لضيق المكان وكثرة عدد أفراد الأسرة والاكتظاظ الجميل والحميم الزاخم بالتفاصيل الصغيرة والاحتفاء بالقليل وصنع الفرح من ظلال الخيال، فبدأتُ بالقراءة لأكتشفَ كيف تمضي الساعات كأنها ثوانٍ، وكيف يغيبُ المكان وكيف تتهجّأني الحروف اذ أتهجأها،وتتعثر الحواس بأولى خطى المعرفة، كنت أقلِّبُ الكتبَ الأدبية، وأصافح للمرة الأولى المجلات العريقة منها «العربي» و»المختار»، وأتابع الهروب من قعر الواقع إلى غنى الخيال، وآفاق الحلم، وأجنحة البوح وسحر البلاغة، وأحلقُ مثل ساحرة صغيرة على جناح مكنسة منسية عثرتُ عليها في زاويةٍ مغبرةٍ.
تلك حادثةٌ مفصليةٌ صغيرة وقتها لكنها باتت الأهم لأنها ساهمت في بناء بنية ثقافية خارج الكتب المدرسية وسطوة التلقين، وتحولتْ بعدها عادةُ التسلق والقراءة إلى برنامج ممنهج أهربُ إليه من فراغ العطلة الصيفية الطويل،وأتابع القراءة والاطلاع،لم أكن أدري أنَّ هذا الفراغ الفقير هو ثراء، ولعلّي أتساءل الآن،:هل الآفاق الموصدة دون جيلنا والفرص الفقيرة لقضاء الوقت كان ثراءً آتياً؟ وهل الشاشات الفاغرة فاها للوقت مثل جائع في الزمن الحالي هي ثراء حقيقي أم فقر ملوّن أم ضجيج يسرق هدأة الحياة؟
تلك الحادثةُ جعلتني قارئةً صغيرةً، وأوقدتْ داخلي ملامحَ مرحلة آتية من عمري، وعيتُ من خلالها أنَّ روحي معلقة بالحروف، وأنَّ ثمة عطشا في نفسي للحلم والبوح كأنَّ صحراء تسكنني، وأنَّ قمري في وحشة الحياة كلمة، وفرحي قي برد العمر هو ثوب حكاية ووشاح حلم وأغنية وعطر الكلام.