ثلاثة استثناءات فيزيائية
من لم أرهم ليسوا موجودين، حتى الصور، كانت مجرد عبء على الذاكرة، استنزاف عاطفي لمن لا أعرف سوى حكاياتهم، الموت، رحيل أحدهم نحو اللامعرفة، نحو وهم الحكاية، لم أختبر بعد فكرة تحول الواقع إلى حكاية، أو صورة، الموت كان أشبه بأول احتلام، دهشة، يليها الرعب، ثم تأنيب ضمير إثر العجز، حينها كان عليّ تعلم النسيان.
تعلمت في المدرسة أن الفيزياء لا تُخطئ، ما يمكن إحصاؤه وتحويله لأرقام لا يمكن نسيانه، حينها الثوابت بدأت تظهر، أعداد متخيّلة وأخرى حقيقية، من المفترض أن لا ننساها، هي فيزياء، لا مجال للاستثناء، حتى جسم الإنسان يعمل وفقها، تعلمت أننا معادلات طويلة تتكرر، لا يمكن للجسد أن ينساها، حتى تلك اللاإرداية منها، ضبط التنفس، إيقاع القلب، ضغط الدم، رمشة العينين.
اختبرت الفيزياء يومياً، نواس ذراعي وهي تسرق الحلوى، انتباج الماء في خلاياي إثر لمسي لمعلمتي، لكنّي اكتشفت استثناءاتها دفعة واحدة، حين حاولت أمّي أن تدفعني للغرفة المجاورة كي لا أرى جثمان أحد أقربائنا وهو يغسّل.
انتهوا من التغسيل، وبدأوا بلفّه بالقماش الأبيض، الدماء كانت تملأ المكان، الجثة تنتفخ، وتنزف من كل فتحاتها، من اعتدت ملمس لحيته على وجهي يصبح أضخم، الدماء تتسرب من فمه وأذنيه وشرجه، النحيب يزداد والتكبيرات تزداد، الأحمر يمتصّ الأبيض بشبق، الدماء لا تنتهي، لا صوت لها، لا كالماء، «المكون الأساسي لجسم الإنسان»، هذا ما كتبه المعلم على السبورة حين تعلّمنا، «على الإنسان أن يشرب ليتراً من الماء يومياً»، إذن من أين تأتي كل الدماء، هل شربها كلها؟ لمَ لا يسيل الماء؟ الاستثناء، الدماء هي المكون الأساسي لجسم الإنسان.
ما أذكره بدقة بعد ذلك أن أوجها أعرفها تحمل جثة ملفوفة بقماش أحمر، الجميع يصرخ، ويردد آيات موزونة، ثم عبارات طائشة كنباح نحاسي «إنه ينتفخ، قد لا يتسع»، «أسرعوا»، ما أذكره أن الجثة كان يزداد حجمها، الدماء تجمدت، لكن القماش يتشقق، لم أذكر بدقة ما كتبه المعلم، لكن ما أذكره أن الجثة لم تتسع، كل محاولات تحريكها والقراءة المتأنيّة للآيات لم تنفع، نسيت القاعدة حينها، ما أذكره فقط هو الاستثناء «جثة واحدة قد لا تتسع بقبر».
لم أعد أؤمن بالفيزياء حينها، يأسرني سحرها كأفيون يذهب مفعوله، لكنها فقدت تماسكها، الزمن فقد تسلسله الخطي، أؤمن الآن بأن الزمن كالهيولى، ممتدٌ دائماً، الحاضر والماضي والمستقبل كلها تحدث الآن، كما تلك الجثة، تنتفخ، تفتح عينيها دائماً، ولا تتسع في أيّ مكان، منذ حينها لا أعيش زمناً واحداً، كأني أعيش الآن كل شيء، أنتفخ لأتمدد في الزمن والمكان.