تلك الظهيرة القائظة
حدث الأمر معي عندما كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من العمر، لا أذكر بالضبط، كنا نلعب، أنا وأصحابي «الطرّة»، وهي لعبة خاصّة بالصبيان تتكون من عصا قصيرة مخروطية الشكل وأخرى طويلة، عندما ضربت طرف العصا الصغيرة بخفة، وحين حلّقت راقصة في الهواء أطّرتها بضربة قوية من العصا الكبيرة، فرسمت قوساً كبيراً وهي تحلّق في الفضاء قبل أن تستقر فوق أحد التلال. فاستشرف أصحابي التل الذي انغرز وسط حلفائه قرص الشمس عند المغيب، وحين ألقينا نظرة سريعة صوب المدينة أدركنا مدى تغلغل الليل الذي باغتنا من الخلف، فعاد الجميع أدراجهم بعد أن يئسوا من العثور على العصا وبقيت وحيداً، تذكّرت العصا الصغيرة، كانت صقيلة ومتوازنة بدقة، وكان بإمكاني تخيّل أمّي وهي تتشاجر مع الصبية الذين تحمّلهم أوزار حماقاتي، وعلى الرغم من ذلك لم يكن بمقدوري التفريط بالعصا التي ستفسدها الرطوبة لو بقيت في العراء.
تسلّقت التل بتؤدة، وراحت أشواك شجيرات الخروب الشائكة تتشبث بثوبي، بينما ابتلعت بساتين النخل المترامية حول المدينة قرص الشمس المنطفئ، وبدا لي سفح التل الهابط نحو بيت رشيدة المجنونة الذي طالما سمعت بأن أفاعي أم سليمان وبنات آوى تحرسه في الليل، وكان متطرفاً ومعزولاً لم يصل إليه أحد من قبل، أو لم يجرؤ أحد على الوصول إليه، لكن هاجس العثور على عصاي تلبسني، فبدأت الانحدار نحو البيت القصبي. كنت قد رأيتها في الصباح تحمل سلّة من الخوص ورائحة السمك تنساب خلفها، وكل ما أتذكره تلك النظرة العدائية الحادّة التي كانت تطلقها من عينيها الصارمتين، وفمها العريض.
تقدمت بتوجس. كانت خشخشة الخرنوب تفضح خطواتي، وكان السياج القصبي واهناً لدرجة أنني اخترقته بكامل جسدي قبل أن أتعثر بطست منكفئ فيشبه العتمة، وما أن خطوت في الباحة حتّى صفعتني سمكة مجففة كانت مُعلّقة بحبل، كدت أصرخ رعباً، وتحسستها بيدي، كانت ضمن قلادة طويلة تقطع فضاء الحوش، وما أن استدرت حتّى لفحت وجهي أنفاسها الملتهبة وغزا حدقتيّ ضوء مباغت، وفي لحظة خاطفة طالعني وجهها مشتعلا تحت ضوء الفانوس المعلّق بيدها، كانت تسبل جفنيها وتدلي شفتها السفلى كاشفة عن أسنان بيض، هذا ما لمحته في تلك اللحظة الرهيبة قبل أن أطلق صرختي الأخيرة وأخترق السياج هارباً.
في اليوم التالي دفعني الفضول القاتل ولهفتي بالعثور على عصاي للتسلل باتجاه التلّ، كانت الشمس تتوسط السماء الفاقعة وتخترق أنصالها رأسي الحاسر، والعرق يتصبب فوق حاجبيّ، وشعرت بعطش شديد، واعترتني رغبة عارمة لاعتلاء التل، ومداعبة حبات الخروب المتيبّسة، وسماع خشخشتها الأليفة وسط ذلك الهجير، كان الحصى الذي يتخلل جانب التل يلسع باطن قدميّ المقروحتين، وكنت أدوس عليه بارتياح غامض، وكانت ريح الظهيرة اللافحة تجفّف العرق الناضح من جسدي، وتترك مناطق باردة تحت إبطي وفوق جبهتي.
لمحت الفتحة التي خلّفها جسدي في سياج القصب الليلة البارحة، أطللت متأملاً الباحة بحذر من خلف السياج الطيني الواطئ. كانت رشيدة جالسة وسط طست مملوء بالماء، وكان شعرها الطويل مغطى بالصابون، اجتاحتني قشعريرة وذهول وأنا أتأمل ظهرها العاري المقوّس في الطست، كنت مقعيا على ركبتيّ، في حين برز رأسي المدوّر فوق الجدار، وعندما انتصبت واقفة تقاطر الماء من جسدها بكثافة مخلفاً خريراً مفاجئا، ولاح لي صدرها الكبير وسرتها الغائرة، وما أن دلقت الماء فوق رأسها حتى انسدلت الخصلات الطويلة ملتصقة فوق كتفيها، فازداد التصاقي الجافل بالجدار الطيني وأصيبت أطرافي بشلل مفاجئ. شقّت سيل الشعر المبتل بأصابعها الرفيعة ودفعت بالخصلتين خلف أذنيها، ثم مسحت صفحة وجهها بكفها وفتحت عينيها، وما أن رأتني حتّى شهقت مُندهشة ووضعت كفها فوق وسطها، خطت خارج الطست باتجاهي ورأيت ملامحها عن كثب هذه المرة في ضوء الظهيرة الصارمة، وخُيّل لي أنّها تبتسم عندما مدّت يدها الطليقة باتجاهي فاردة كفها بمودة، لم أعد أرتجف، بل لم أعد أعي ما يحدث، كنت قد انتصبت وساعدتني على اجتياز الجدار الواطئ واضعة ذراعها فوق كتفي، وبعد أن اختلست النظر إلى الخارج بحذر اقتادتني إلى الداخل.
في البدء اكتفت بالتحديق بوجهي المعروق من الفزع، ثم مسحت جبهتي الملتهبة بكفها الباردة، كانت أنفاسها متسارعة، وشممت رائحة الصابون المنبعثة من شعرها المبلول، وكان الماء يقطر تحتنا فوق البساط المتهرئ، أمسكت وجهي وأخذت تستنشقني، كانت شفتها السفلى تنسحب ببطء فوق وجهي، وكنت مفزوعاً، وكانت ترتجف والماء المتقاطر منها يغطيني ورائحة شعرها المبلول تضرب برأسي وكدت أصرخ عندما اختلطت الروائح الغريبة ورحت أنشج بصمت.
كان ذلك العبور المفزع في تلك الظهيرة القائظة نقطة تحوّل في حياتي اللاحقة، وبقيت أتذكّر تلك التفصيلات لسنوات طويلة، وشعرت وقتها أنّني أتميز عن أصحابي بتجربة عجيبة، على الرغم من الرعب الذي صاحبها، لقد كانت تجربة خمشت روحي وأثّرت فيَّ بعمق.