استكمال جريمة الأب
فجأة ونحن نلملم القليل من متاعنا، كان على الطفل الذي كنته أن يودع فردوس طفولته ويمضي بعيدا خارج تلك الأرض التي لم يتعب يوما من الطواف الآسر على تخوم جهاتها الأربع سهلا وهضابا، فالحرب التي بدأت فجأة انتهت فجأة، بل انتهت قبل أن تبدأ لأن جنرال الهزيمة كان يعد لها أن تكون الأضحية على مذبح عرشه القادم.
كانت أياما مرعبة وشديدة القسوة، فقد كان علينا وحدنا أن نتحمل عبء هزيمة وذلّها على الرغم من أننا كنا ضحاياها، وهكذا وجدنا أنفسنا فجأة بلا أرض ولا وطن، وأنا بلا طفولة تذكر، حيث بتنا نعيش ذلّ البحث عن مأوى في وطن لم يعترف بمسؤوليته عن معاناتنا، كل ما استطاع أن يقوم هو اختراع تسمية جديدة «النازحون» أصبحت تطاردنا حيثما ذهبنا.
في المدرسة كما في الحي أو أيّ مكان آخر لم تعد أسماءنا تدل علينا، بل صارت مرتبطة بالحال التي بتنا عليها «النازحون»، ولذلك كان علينا أن نحس بتمايزنا عن السوريين الآخرين، كما يشعر السوريون الآخرون بتمايزهم عنا. لذلك كان علينا أن ندرك حالة النقصان التي أصبحنا نعيشها كجرح يصعب أن نشفى منه بعد أن كان علينا أن نبدأ من الصفر، وأن نتدرب على حياة البؤس والحنين والغربة.
وهكذا كان على الطفل الذي ترك هناك ما يشبه الطفولة، أن يكبر سريعا، وأن يربي شعوره بالنقصان، في وطن لم يعترف له بكامل المواطنية. كان هذا هو فجيعتي الأولى وانكساري الأول الذي لم أشف منه بعد، ما جعلني أربي في داخلي شعورا دائما بالغضب والتمرد، وأنا أشاهد والدتي، وهي تكفكف دموعها الحارة في نوبة طويلة من الحنين على مدار سنوات من الغربة.
هذا الانقلاب المفاجئ في حياتي كان نقيضا كليا لصورة الصبي الذي تركته هناك، عاشق البراري والحرية والطبيعة والجمال، وكأنّ يتما حقيقيا أورثتني إياه هزيمة حزيران 1967، جعلني أعجب من نفسي كيف أضعت ذلك الطفل الذي لم يعرف أيّ معنى للطفولة.