سيارة من ذهب
لوالدي سيارة جديدة الآن. لا تعني له شيئاً. كما لا تعني لنا أيّ شيء أيضا. أما عندما كنا صغاراً أنا وإخوتي فكان والدي يملك سيارة ذهبية اللون من طراز «صان بيم» أرسلها له خالي من ألمانيا عن طريق البحر بعد طول انتظار. بقيت هذه السيارة، سيارتنا «المُدللة» حتى بعد تخرجي من الجامعة ودخولي معترك العمل بسنين عديدة.
كأن اسم السيارة الذي يعني بالعربية «شعاع الشمس» وكونها قادمة عن طريق البحر لم يكف لكي نرى فيها سيارة تختلف عن سائر السيارات، فوضعت فيها والدتي كيساً شفافا مُقصّباً بخيوط ذهبية رائعة، فيه قطع من صابون الغار الذي كانت جدّتي ترسله لنا دوريا من حلب مع أقمشة ملونة و»مضيئة»، هي الأخرى ومزركشة بخيوط ذهبية وفضية على السواء.
أما والدي فقد شارك في طريقته الخاصة بأن يجعل من سيارته الذهبية سيارة لا مثيل لها وتملك قوة لا يشاركها فيها أحد من السيارات، إذ كان يقول لنا أن سيارته بإمكانها أن.. تطير. نعم. ولكن في ظروف قليلة جداً ترتئيها هي، أي السيارة، مناسبة.
كانت تتوسط مقود سيارة «الصان بيم» حلقة زرقاء اللون شفافة. كان يقول لنا بأنها عين جنيّ السيارة. جنيّ يعتني بها جيداً على شرط أن لا «يطوشه» ضجيجنا أنا وإخوتي خلال الرحلات الطويلة إلى الجبل أو غيرها من المشاوير النادرة التي كنا نقوم بها خلال فترة الحرب.
ربما يجب أذكر أيضاً أن «العين» هذه قد أوعزت في يوم من الأيام إلى والدي أن يصرخ فجأة بوجهي، وأنا في حضن والدتي بقربه، طالبا منّي بأن أدير وجهي بعيداً عن النافذة. لكن طلبه كان متأخراً. رأيت يومها من خارج النافذة رأسا بشريا ينزف فوق تلة صغيرة من ثلج وضعها أحدهم على مقدمة سيارته. لم تغضب «العين» منّي لأنّني رأيت. ولم يغضب الوالد مني، بل أمسك بيدي من دون أن يقول كلمة واحدة.
الحقّ يقال إن السيارة أثبتت لأكثر من مرة أن شيئاً خارقاً يكمن فيها. فمثلا: احترق خلال إحدى الليالي عدد كبير من السيارات تحت المنزل إثر القصف، إلا «الصان بيم» التي كانت مركونة بينهم. الغريب أن والدي قال لنا دون أن يفارق القلق محيّاه بأنه متأكد بأنها «بخير» رغم أن الجار القابع بقربنا في الملجأ قال إنه شاهدها تحترق. ومرة أخرى وخلال الإجتياح الإسرائيلي مرّت بالقرب منها ملالة إسرائيلية فلم تسحق بابها كما فعلت بأبواب السيارات الراكنة على الرصيف. يومها قال لنا والدي «حديدها من صنف آخر!».
لكن الاختبار الأقصى الذي مرت بها سيارة «الصان بيم» فكان قبل تلك الحوادث بكثير. كان ذلك عندما كنت في العاشرة من عمري.
وفق ما أتذكر كنا في زيارة إلى أحد أصدقاء والدي القدامى»عمو أبو إلي» الساكن في منطقة «الأشرفية». هرعنا يومها إلى السيارة قاطعين الزيارة. ووقف أبو إلي ينظر إلينا بقلق من شرفة منزله. عندما أصبحنا في السيارة بدأ والدي يحار أيّ طريق يسلك فيبدل طريقاً بعد أن انطلق فيه. ثم بتنا نسمع تصاعدا لأزيز الرصاص.
بعد قليل أدار والدي شريطاً لفيروز كنا نسمعه عادة في السيارة. صدف أن الأغنية كانت «طيري يا طيارة من ورق وخيطان». بدأ والدي يرفع من مستوى الصوت المُسجل شيئا فشيئا، وهو يلقي نظرات خاطفة إلى والدتي. نظرات لم أفهمها يومها تماماً. كلما كانت تنتهي الأغنية كان أخي الصغير الذي لم يكن يبلغ وقتها أكثر من ست سنوات يقول «أعيديها ماما!». كانت «الماما» تعيدها بشكل أوتوماتيكي وبصمت لم نعهده منها من قبل، فمن عادتها أن تغنّي في السيارة.
ربما لأنني كنت الأكبر سناَ بين إخواني ظل والدي يسترق النظر إليّ من مرآة السيارة ليتأكد من عدم إدراكي لما يحدث. كان يبتسم قائلا «الصان بيم ستقوم بالمطلوب!» كل ما أذكره في تلك اللحظات الغامضة أنني بدأت «أقضم» ظهر جلد المقعد الذي يجلس عليه والدي. شعرت بالخوف ولم أكن أدري تماما لماذا. مددت ذراعي إليه، كالمعتاد، وهو يقود السيارة ليمسكها ويقبّلها بين الفينة والأخرى، فيطمئن قلبي للحظات وأقول في نفسي «السيارة ستطير إذا لزم الأمر».
بعد عدة دقائق، مررنا على ما اعتدنا عليه لاحقا بـ»حاجز طيار». بدأت أمي تصرخ: لا تقف. لا تقف! وفيروز يعلو صوتها… ووالدي ينظر إليها مُطمئنا، وقائلا «لا تخافي! ولوّ؟ أنت مع سبع الليل!». «سبع الليل» كان اللقب الذي أطلقته والدتي عليه منذ زمن بعيد، عندما كان مُعكّر المزاج أو يواجه مشكلة ما مهما كانت تافهة.
توقفت السيارة. قال له أحد الأشخاص، وكان مُسلحاً: انزل من السيارة!
نظرت إلى والدتي التي لم يصدر منها صوت واحد. كانت الدموع تنهمر من عينيها بشكل لم أره في حياتي. بعد لحظات طلب منّا المُسلح أن ننزل من السيارة. فرفض والدي وقال لهم «لن ينزل أحد. خذني إذا أردت!». أذكر أن أحدا منهم طلب منه هويته وسأله عن مهنته. أجاب والدي إنه مخرج جريدة النهار. لا أدري يومها إذا كان عمله في هذه الجريدة قد غيّر من رأي المُسلح. لكنه أدخل رأسه إلى السيارة. رمقنا بعدة نظرات ثم رمى أوراق الوالد في السيارة وطلب منه أن يغادر قائلا له بما معناه «ما تخليني شوف وجّك هون!».
أخي لم يتوقف عن طلب إعادة الأغنية. كما لم تتوقف والدتي عن إعادتها كلما انتهت. عندما سألتها شقيقتي»لماذا تبكين؟» أجابتها «لأن الأغنية جميلة جدا». ضحك والدي لحظتها فقال بعد عدة لحظات «ألم تروا ما حصل؟ لقد طارت الصان بيم بسرعة رهيبة!». لم تعجبني الفكرة وقتها لأنني لم أر أيّ شيء ولكنني أقنعت نفسي أنها فعلا طارت لأننا وصلنا إلى بيتنا بعد ذلك بسرعة غير معقولة.
ظلّت هذه الذكرى من أقوى الذكريات لديّ وأكثرها تأثيرا في نفسي، وربما في أسلوب كتاباتي ورسوماتي. كل شيء مؤلم غالباً ما يحضر مع نقيضه «لينزع فتيله المتفجر»، إذا صح التعبير.
أغنية فيروز لطيارة من ورق، وأزيز الرصاص مُتصاعد الوتيرة. الإيضاح الغرائبي الذي أتحفتنا به والدتي، والسبب الحقيقي الذي يقف وراء دموعها. الطمأنينة مع «سبع الليل» والخوف من العالم المحيط. بشاعة الرقعة التي قضمتها بأسناني والتي أحبها والدي وحرص على إبقائها كما هي عندما بدّل فرش السيارة بعد سنين عديدة على الحادثة. الواقع المرّ، ولكن المفتوح على الأمل المُتمثل بصوت أخي الطفولي «ماما، أعيدي الأغنية». الحزن الذي أرجو أن لا أصعد يوما إلى جانبه إلا وأنا في سيارة تشبه سيارة والدي السحرية. سيارة تعرف في اللحظة الحرجة «أن تقوم بالمطلوب».