الراعي الصغير والعسكر التركي
كانت طفولتنا عبارة عن سيل من التحذيرات التي لم نكن نعي منشأها وأسبابها ودوافعها، فكلّ شيء كان معرّضاً لينقلب علينا. نخرج من البيت على وقع التهديد، ونعود على نبرات الوعيد، ومن غير دراية ووعي وتخطيط كانت تستلب منّا الطفولة لنبقى في متاهة العمر، لم نبلغ الفتّوة بعد، ولكنّنا نعامل معاملة الكبار في كثير من الأشياء والأفعال.
«إيّاك أن تتحدّث في قضايا الكبار». «احذر أن ترفع صوتك بالكرديّة في المدرسة». «لا تحتكّ مع أبناء عناصر الشرطة والمخابرات ولا تتقاتل معهم». وغير ذلك من التحذيرات اليوميّة التي كانت في صلب التفاصيل الحياتية المعيشة، وكان ينبغي علينا تطبيق التعليمات من دون أن نفهم ما وراءها تماماً.
اكتشفت التناقض الذي يغرق فيه واقعي، وأغرق فيه من حيث لا أدري، والانقسام بين البيت والمدرسة، فحياتي التي كانت تمضي بالكرديّة في البيت والشارع وكلّ مكان، انقلبت حين دخولي إلى المدرسة، كان عليّ البدء بتعلم الحديث والكتابة باللغة العربيّة، كنّا نتقبّل الأمر ببساطة ونتعامل معه على اعتبار أنّه واقع لا مهرب منه، ولا طريق آخر سواه.
في الصيف كان ينبغي علينا مساعدة أهلنا في شؤون البيت، ولم يكن يخلو معظم البيوت من عدد من الماعز أو الغنم أو البقر، وكانت تشكّل الحيوانات مصدراً لحليب الأسرة ولبنها وجبنها ورديفاً لإعانة الأسر الكبيرة بمعظمها. وباعتباري الابن الأكبر في البيت، وكانت هناك ثلاث أخوات أكبر منّي، كان يتوجّب عليّ النهوض بكثير من الأعباء التي كنت أشعر بأنّها تضعني في غير ملعبي.
كنت أقود المعزات مع أقراني الآخرين من الأطفال الذين يتحوّلون إلى رعاة بعد المدرسة، ونمضي إلى السهول القريبة، كنّا نجمع دوابّنا ونطلقها في المراعي القريبة، ونقسم أنفسنا إلى فريقين لكرة القدم، وغالباً ما كنّا نفتقد كرة قدم حقيقيّة كبيرة، لذلك كنّا نستعيض عنها بكرات مطّاطيّة نحشوها ببعض القماش، أو بجوارب كبيرة مبخوشة نحشوها ببعض العشب، ونسرح ونمرح ونلعب حفاة، نخوض معاركنا الطفولية في السّهول التي كانت مراعي لحيواناتنا وملاعب لمبارياتنا وصراعاتنا الضارية.
كان يصدف أن يتبع بعضنا حيواناته الضالّة الهاربة من القطيع إلى سهول قريبة من الحدود التركية التي كانت بالنسبة إلينا خطوط رعب وإنذار خطيرة يجب عدم التفكير بالاقتراب منها أبداً، لأنّ التنبيه المتكرّر والدائم كان بتحاشي الاتّجاه صوب الحدود للرّعي، وبرغم وفرة المرعى هناك إلّا أنّ الخطر المحيق كان أكبر من أيّ إغراء بالرعي.
كانت ظهيرة حارقة، تلك التي دوّى فيها أزيز بضع رصاصات منطلقة من بندقية عسكريّ تركيّ على الحدود باتّجاه صديقنا الطفل الراعي الذي تبع قطيعه الصغير إلى منطقة قريبة من الأسلاك الشائكة المكهربة. يبدو أن العسكريّ التركيّ لم يتحمّل معابثة القطيع للحدود، أو جرأة الطفل بالاقتراب منه، وربّما تسلّى بإطلاق النار عليه وجعله دريئة للتصويب وتجريب مهاراته في القنص والرماية والقتل.
لم يكتفِ الخفير التركيّ بقتله، بل أطلق رصاصة حارقة على بيدر القشّ الذي سقط عليه صديقنا الراعي الصغير، أحرقه مع البيدر الذي جعله كفناً له. واستوجب الأمر لملمة رفات الطفل المغتال وبقايا جثّته المتفحّمة من بين رماد بيدر القشّ المحترق.
بعد تلك الحادثة تغيّر أسلوبنا في الرعي، وتغيّرت طريقة أهلنا معنا. لم نعد رعاة صغاراً، يبدو أنّنا كنّا مشاريع أعداء كبار بالنسبة إلى العسكريّ الذي اغتال الطفل، ولم يكن ليتردّد في تصفية آخرين لو اقتربوا من نقطته التي يحرسها.
سادت أجواء الفجيعة البلدة كلّها، فالجثّة المتفّحمة تؤكّد أنّ الطفل ظلّ بعيداً عن الحدود أكثر من بضع مئات من الأمتار، وأنّه كان يهشّ بعض عنزاته المشاكسة ويحاول إرجاعها بعصاه التي كان يلوّح بها، ويبدو أنّ العسكريّ التركيّ عاقبه على تجرّؤ قطيعه على الاقتراب من الأسلاك وعدم الاكتراث لأيّ خطورة محتملة.
تلك الحادثة نبّهتنا إلى أنّ الأمر أخطر من تحذيرات الأهل الروتينيّة الدائمة وتهديداتهم المتكرّرة، وأنّ هناك أشياء كثيرة غامضة عصيّة على أفهامنا، وينبغي علينا التقيّد بتعليمات الكبار، والكفّ عن مناقشاتنا إزاءها وتبرّمنا منها. لكنّ ذاك الشعور لم يكن ليدوم طويلاً، وكنّا ننشغل بأنفسنا وعبثنا المتجدّد بعدها.
أستعيد ما قبلها من أحداث ووقائع، وكيف غافلنا الموت كثيراً، أو سها عنّا العسكريّ التركيّ المرابض في محرسه القريب منّا، أو تجاهل مشاكساتنا الطفوليّة البريئة، وذلك حين كنّا نمضي، أنا وبعض أصدقائي الأطفال المشاكسين، لنسطو على بعض أعشاش الطيور بالقرب من الأسلاك الشائكة، وكنّا نخوض في رمل الوادي الصغير المعروف بوادي الخنزير، أو مائه أو طينه، ونحتمي بالأعشاب الطويلة لنزحف إلى أهدافنا البعيدة، ونستلقي هناك تحت الخطّ الحديديّ الذي كنّا نراه من بعيد بالعادة، ونشعر بنشوة تجتاح أجسادنا حين يمرّ القطار من فوق الجسر، ونحن نسمع صرير عجلاته والضجيج الذي يخلّفه في مروره والرعشة الممزوجة بالخوف وبهجة المغامرة وسحرها.
لم نكن نخبر أهلنا عن اقترابنا من الحدود، ولا عن رحلات صيدنا ومغامراتنا المجنونة، كنّا نتواطأ فيما بيننا على حفظ سرّنا الصغير البهيج، لكن بعد مشاهدتنا للنيران تفتك بجسد صديقنا الراعي الصغير تركنا الأمر، ولم نعد إليه، لكن شعور تجاوز الخطّ إلى الجهة الأخرى ظلّ يراودنا ويفتك بنا، كان الفضول القاتل ينهشنا، وكان الرعب كان أفظع، لذلك تجاهلنا تلك الرحلات السرّيّة، وتركنا بيوض العصافير هناك تفقس بسلام وأمان.. لكن لم نهنأ نحن بأيّ أمان أو سلام أو اطمئنان. ظللنا أسرى قلقنا وخوفنا من الحدود، ومن العسكريّ التركيّ المرابض هناك مصوّباً إلينا بندقيّته.
كانت صورة مصطفى كمال أتاتورك منقوشة على التلّة المواجهة لمدينتنا عامودا من الجانب التركيّ، وصورة حافظ الأسد في الجانب السوريّ، كنّا نسمّي التلّ بـ»تل كماليه»، ونسمع نَهراً من أهلنا بأنّه «تل عامودا»، وأحياناً أنّه «تل دارِة»، كان الصراع على التاريخ والجغرافيا حاضراً في واقعنا وكان يترتّب علينا، ونحن أطفال لا نفقه في المفاهيم والمصطلحات والصراعات السياسيّة واللغوية، التمييز بين مصطلحاتنا ومصطلحات الآخر الذي كان بالنسبة إلينا قوّة احتلال.
كنّا نقبع بين صورتين جاثمتين على صدورنا من جهتي الحدود، تكتم السلطات التابعة لهما أنفاسنا. تمنعنا من لغتنا، تحاول سلخنا عن أنفسنا وتغريبنا عن ذواتنا. لم أكن أعي حينها هذا التفظيع والتنكيل لكن الواقع كان يصدمنا كلّ مرّة بحقيقة أنّنا نعامل بمنطق العداء والاحتلال من قبل السلطة.
كنّا رهائن ذاك الخطّ وضحاياه، نسمع حكايات غريبة عن أهلنا؛ أعمامنا وأخوالنا وأقاربنا الباقين هناك في الجهة الأخرى، أولئك الذين يتكلّمون ويدرسون بالتركيّة، نتوق للقائهم واكتشاف عالمهم البعيد القريب، لكن رعب الاقتراب من الخطّ الحدوديّ، كان يقعدنا عن أيّ محاولة، كما أنّ مشهد احتراق صديقنا وتفحّم جثّته ظلّ خالداً في مخيّلاتنا وتحوّل إلى كابوس يمنعنا من النوم. كنت أصرخ أحياناً في نومي وأتخيّل نفسي ذاك الطفل المحترق في بيدر القشّ، وكيف أنّ أهلي سيصابون بكارثة قاتلة.
«أسرجت خيلي يوم رأت عيناي ضوء الشمس». مقولة تردّد للتعبير عن أعباء المسؤولية التي تحمّلها المرء في مرحلة باكرة من حياته، حتّى أنّ طفولته وقعت رهينة تلك المسؤولية التي وجد نفسه يرزح تحت أثقالها. وهي مقولة تنطبق على طفولتنا البريئة المفعمة بالتناقضات والصراعات التي لم نخترها، لكن وجدنا أنفسنا خائضين مستنقعاتها غارقين في معمعتها التي أنتجت وقائع أكثر إيلاماً ودمويّة لاحقاً.
أيّ طفولة وحشيّة عشناها..! في أيّ عالم برّي كنّا نحيا..! لماذا لم يكن هناك مَن يكترث لحماية طفولتنا وبراءتنا..!
أسئلة كثيرة تظلّ عالقة في فاصل زمنيّ فقد بوصلته بين الأمس والغد.