قلبي أم كلبي

بعد ستة أشهر كئيبة، لم تستطع «سيربا» نطق أيّ حرف، من حروف القائمة السوداء، كما أسمتها، حاولتُ معها بكل الطرق، بذلتُ جهوداً مضنيةً، تعذّبتُ، أحرقتُ أعصابي، ولكنها لم تستطع، قالت أخيراً باستسلام:
– هذه هي الحدود القصوى لي، يا معلمي.
واظبتْ على الحضور في ظهيرة كل أربعاء وهي تحمل ملفّها الجلدي، أصرّت على ذلك، بينما تسرّبت النساء الأربع الأخريات، هربت «هيلكا»، الكحولية، طويلة القامة، بشعرها المرجَّل على الطريقة الأفريقية ورائحتها التي لا تطاق، قالت إنها ستذهب إلى المرحاض في منتصف الدرس الأول ولم تعد، واختفت «تولا» ذات الوجه الشبيه بوجه العنزة في الأسبوع الثاني، أرسلت لي إيميلاً تخبرني فيه أنها ستنتقل إلى مدينة أخرى، وقالت «لينا» الخمسينية، شبه الصلعاء بعد أسبوعين، إنها ستسافر إلى ابنتها في «مدريد»، ثم انقطعت أخبارها، أما «مايا» التي تشبه «فرجينيا وولف»، فقد اتصل بي زوجها في الأسبوع الثالث، وقال إنها أصيبت بصدمة عصبية حين تزحلقت على الثلج، ولن تحضر ثانية.
بقيت «سيربا» وحدها معي، تأتي بعد الثالثة بقليل، تركن دراجتها عند الباب، ثم تهرول لتجلس أمامي، تقول بالعربية:
– مرهباً، أنا آسفة.
وتُكمل بالإنكليزية مونولوجها التقليدي، استطاعت بعد جهد إقناع رئيسها، لتحصل على استراحة لساعتين، لا تنام، جسدها متعب، ذهنها مشتت، لديها تآكل في غضاريف عمودها الفقري، لديها حساسية من البيض والحليب، تعيش وحدها، ثم تستمر بعد ذلك بالهذيان بفنلندية لا أفهمها، أبتسم وأقول: لقد سمعت كل ذلك من قبل وأنا أتعاطف معها، ليس عليها أن تحضر إذن، ما الذي سيتغيّر في حياتها إن تخلت عن دراسة العربية؟ لم لا تُريح أعصابها وجسدها؟ كنت أتمنى بكل جوارحي أن تصل إلى لحظة فقدان الأمل، وتصرخ في وجهي:
– لن أحضر في الأسبوع القادم.
ولكنها لم تكن تعبأ بي، كانت تُنهي سرد معاناتها بجملة مليئة بالشجن وهي تشير إلى صدرها:
– إنه الحب يا معلمي. كلبي يؤلمني.
أقول لها قولي «قلبي» وأُوضح لها الفرق بين الكلمتين كما فعلت مراراً فتضحك، ثم تفتح ملفها، وتُخرج قصاصاتها، وتبدأ بتدوين كل شيء، تطلب مني معنى كل كلمة أقولها، كل إشارة، كل ملاحظة مهما كانت، كانت تأتي أحيانا بجمل كاملة، اكتشفت فيما بعد، أنها تنقلها من سجل مليء بكتاباتٍ، بخط يدها، وبخطوط آخرين، فيه مقاطع من أغنيات وأشعار وأدعية وشتائم وعبارات غزل، سألتها حين جاءت به مرة:
– متى كتبت كل ذلك؟
قالت:
– في رحلاتي المتكررة إلى «تونس»، ألا تدري؟ كنت متزوجة من تونسي، ولكننا تطلقنا قبل شهور.
ثم روت لي قصتها، سافرت قبل سبع سنين، في رحلة سياحية إلى «جزيرة جربة»، زوجها الأول توفّي بالسرطان، تعرّفت هناك على شاب ممن يلاحقون السائحات، تسلل إلى غرفتها في الفندق ونام معها، ورفض أن يأخذ مالاً عرضته عليه، ذكرت ذلك تلميحاً بالطبع، قال إنه أحبها ويريد البقاء معها، برغم فارق العمر، فهو يحلم منذ طفولته بالعيش في أوروبا، كانت هي في الرابعة والخمسين، وكان هو في بداية ثلاثينياته، حين عادت بعد سنة إلى «تونس» عرَّفها بأهله وأصدقائه ورافقها في رحلة خيالية إلى أماكن لم تكن تحلم بالوصول إليها، ثم تزوّجا، أكملت متطلبات التحاقه بها سريعاً، وانتقل ليعيش معها هنا، سنواتهما الأربع الأولى كانت فردوساً، صرفت كل مدخراتها من أجله، سيارة حديثة ورحلات وملابس وسهرات، إضافة إلى مطعم للبيتزا يديره بلا رقابة منها، بعد شهر واحد عقب حصوله على الجنسية، افتعل شجاراً معها، وخرج من البيت ومن حياتها، تطلّقا، ولكنها ما زالت تعشقه، لا تعرف كيف تصف مشاعرها تجاهه، تنتظر عودته في أيّ لحظة، وتحلم أن تقضي ما تبقى من سنواتها معه، قلت لها:
– إنها الحكاية التقليدية، التي تكررت من قبل آلاف المرات.
مسحت دموعها وأومأت بنعم، كانت قصيرة القامة، نحيفة، ذات وجه مستطيل شاحب، وعينين صغيرتين منطفئتين، بشرتها مخددة يغطيها نمش قرمزي، أعتقد جازماً أنها لم تكن جميلة ولا مثيرة في يومٍ ما، تبدو مشتتة دائماً، أصيبت بصدمة بعد الطلاق، فكّرت بالانتحار وظلت ثملة باستمرار، أهملت نفسها وبيتها، ثم تماسكت تدريجياً، تريد الآن استعادة طليقها من خلال اللغة، قالت مرة بحزن:
– لو كنت أعرف العربية جيداً، لاستطعت قراءة أفكاره وامتلاكه بشكل أفضل.
سألتها عن دفترها، فقالت إنها كانت تطلب ممن تلتقي بهم في «تونس»، تسجيل ما يقولونه، يثيرها رنين الكلمات وإيقاعها، وليس المعنى، دفترها مثل عقلها مليء بالشخابيط والغوامض والتقاطعات.
كنت أشعر بلا جدوى تدريسي لها، تحوَّلت إلى عبءٍ ثقيل، وكررت عليها باستمرار أن ساعتين في الأسبوع لا تكفيان لتعلم أيّ لغة فكيف بالعربية، لم تكن غبية ولا كسولة، ولكن عملها في «سوبر ماركت» كبير كان يأخذ وقتها كله، استسلمت لقدري معها، بعد أن باءت بالفشل كل جهودي في الهروب منها أو دفعها للهروب. ولكن ما الذي دفعني إلى تلك الورطة؟
ذهبتُ مرة إلى «مركز الأيل الضاحك للتواصل بين الحضارات»، وهو مؤسسة تعنى بثقافة الأجانب، لها ما يماثلها في أغلب المدن الفنلندية، يحتل المركز الطابق الأرضي من عمارة حديثة، ذات ثلاثة طوابق، ويتألف من قاعتين متداخلتين، تنتهي إحداهما بمطبخ، لم أجلس في القاعة الأولى بسبب رائحة الطعام التي كانت تملأ المكان، بل اتجهت إلى القاعة الأخرى لأقرأ وأكتب وأتصفّح المجلات بعيداً عن الصخب، في تلك القاعة أرائك كبيرة مغطاة بملاءات ملونة وسجادة ذات طراز شرقي ولها باب ذو طيات تُسحب إلى الجانبين، لم يكن الباب مغلقاً، نظرتُ إلى الداخل فأصابني مسُّ، رأيتُ على الأريكة التي تتوسط القاعة فتاة بهيئة ملاك، ذات وجه نوراني وشعر كستنائي ينسدل في ظفيرة على عنقها الأيمن، تجلس وبين يديها كتاب تقرأ منه بصوت لا يكاد يُسمع، على جانبيها تجلس فتاتان شقراوان ترددان ما تقرأه، وعلى الأرض أمام الأريكة تجلس خمس فتيات صامتات، بدا المشهد أشبه باجتماع سري خلّدته منمنمة شرقية، لم أستطع القراءة حين عدت إلى المطبخ، بقيتُ متوتراً، أحاول استعادة ما رأيت، ثم نهضتُ بلا وعي، وذهبتُ لأرى المشهد ثانية، كان مختلفاً هذه المرّة، رأيتُ الفتاة تقف في الوسط وفي يدها بضع أوراق، كانت تضحك وتردّد جملة بالفنلندية بصوتٍ عالٍ. سألتُ امرأة كانت تعد لنفسها كوب شاي عمّا يجري في الداخل، فقالت إنه درس لتعليم التركية يستغرق ساعتين مساء كل خميس، فكّرت للحظات وسألتها:
– هل يمكنني أن أقوم بتدريس العربية مثلاً؟
قالت:
– ولِمَ لا. اذهب إلى «نينا»، منسقة الفعاليات الثقافية وأخبرها بما تريد.
صادفتني «نينا» في الممر، أخبرتها بفكرتي، فابتسمت وقالت:
– رائع، ذلك ما كنت أنتظره منك.
اتفقنا أن تبدأ الدروس في الخريف القادم، أي بعد شهرين، انتهى درس اللغة التركية، قدمتُ نفسي إلى المعلمة حين خرجتْ، قلتُ لها إنني سأكون مثلها، سأدرِّس العربية، ردَّت:
– لو سألتني قبل أن تتورط، لنصحتك ألاّ تفعل.
أضافت بغنج، وهي تبتعد:
– أرجو أن تخبرني بما سيحدث بعد أسابيع. أتمنى لك حظاً سعيداً.
بدت بدينة، تعرج قليلاً، وثمة جرح تحت عينها اليسرى، لم تفارقني صورتها وهي تجلس بين فتياتها الصامتات طوال الليالي التالية، حلمتُ أنني أجلس بدلاً عنها، أتحدّث بينما تكتب الفتيات أو يرددن ما أقول، لن يتطلب الأمر سوى ساعتين في الأسبوع وبعض الجهد، مقابل ما سأحظى به من متعة. أخبرتني «نينا» بعد أيام، أنها تلقت خمس طلبات من نساء يرغبن بتعلم العربية، لم تذكر لي بالطبع أيّ تفاصيل عنهن، ولكني شرعت برسم صورة لكل منهن في خيالي، كن جميلات وأنيقات، ولكل واحدة منهن سحر خاص.
حين حان موعد الدرس الأول، ذهبتُ مبكراً، ومعي حقيبة مليئة بكتب ومجلات عربية، وبأوراق سجّلتُ فيها ملاحظات عن خصائص اللغة العربية وعن تاريخها، وأوراق أخرى رسمتُ على كل منها، حرفاً من حروف الأبجدية، مرّت الدقائق ببطء، كنتُ خلالها أستحضر الكلمات السهلة التي تستخدم في الحياة اليومية لكي أذكرها عندما تستدعي الضرورة.
بعد الثالثة بقليل كنت محاطاً بأربعة نماذج أنثوية، تناقض تماماً ما رسمته في خيالي، ثم دخلت «سيربا» مهرولة، وهي تلهث وتردد منولوجها الذي سوف أسمعه كلما تأخرت عن موعدها، انهارت أحلامي بالطبع، تكرر الكابوس بتفاصيل مختلفة في الأسابيع التالية، ثم تلاحق اختفاء النساء لأجد نفسي وحيداً مع «سيربا»، أو بالأحرى سجيناً لديها، لساعتين طويلتين، مساء كل أربعاء. تبتكر خلالهما بلا قصد، أقسى الوسائل لتدمير مزاجي وتخريب ما تبقى من خلاياي العصبية، أسألها أولاً:
– هل راجعت ما كتبناه في الأسبوع الماضي؟
تعتذر لأن الوقت لم يسعفها، ويخفت صوتها وتدمع عيناها وهي تقول:
– صدّقني، كنتُ مشغولة ومتعبة.
ألتقط ورقةً من بين أوراق ملفها التي بعثرتها على المنضدة، أضعُ اصبعي على كلمةٍ ما وأسألها كيف تُلفظ، تبتسم وتردُّ ببلاهة:
– لا أعرف، لقد نسيتُ كل شيء يا معلمي.
أقول لها إنني كررتُ لفظها ألف مرة من قبل، تهزُّ رأسها وتهمس:
– آسفة، لم أعد أتذكر.
نعود من جديد إلى الأبجدية، تلفظ الحروف التي هناك ما يشبهها في الأبجدية الفنلندية بسهولة، أما حروف القائمة السوداء، وهي الحاء والخاء والظاء والضاد والطاء والعين والغين والصاد والقاف، فتخترع أصواتاً جديدة لقراءتها، أصحح أخطاءها وأذكر لها أمثلة لحروفٍ من لغات أخرى، تشبه تلك الحروف إلى حدٍ ما، أقول لها مثلا أن الخاء، يشبه الحرف الأول في كلمة «خراشو» الروسية، وأن الغين حرف شائع لدى الفرنسيين، وأن الصاد هو (S) قوية، تصدر عن إطباق الأسنان على بعضها وإصدار صوت من أعلى الفم، واعتقدت في إحدى المرات أنني توصلت إلى مثال بسيط، يشرح كيفية نطق القاف، قلت لها:
– إنه صوت الدجاجة حين تبيض، قاق قاق قاق.
كررت هي بعدي: كاك كاك كاك.
قلت لها:
– لا، الدجاجة تصرخ هكذا، قاق قاق قاق.
قالت بثقة:
– للأسف، أنت على خطأ يا معلمي، الدجاجة تتكلم هكذا، كاك كاك كاك.
احتدّ النقاش بيننا، طلبتْ هي من النساء اللواتي يجلسن حولنا، أن يقلّدن صوت الدجاجة، فرددن جميعاً: كاك كاك كاك، ضحكتْ وقالت:
– هل لاحظتَ يا معلمي؟ هذا في الأقل ما تتكلم به الدجاجة الفنلندية.
قلتُ لها ولكن القأقأة هي لغة الدجاج حول العالم، ولا بد أنه صوت الدجاجة الفنلندية أيضاً، كرّرتُ ذلك أكثر من مرة ولكنّي لم أتمكن من إقناعها، ولا إقناع النساء الأخريات، تركتُ الدرس غاضباً قبل أن ينتهي، واصلتُ التفكير في ما حدث طوال الأسبوع التالي، لم أشك لحظة في أن دجاجات العالم كلها، تنطق بلغة القاق قاق قاق، لا تمايز طبقيا ولا تمييز عنصريا ولا اختلافات بايولوجية في عالم الدجاج، ولكن كيف بمقدوري أن أثبت هذه الحقيقة لـ»سيربا» وللأخريات.
لم أجدها حين ذهبتُ في موعد المحاضرة التالية، رأيتُ خمس نساء يتحلّقن حول مائدة الطعام. ضحكتْ إحداهن، وأشارتْ إليَّ، فالتفتن وأصدرتْ كل منهن صوتاً يشبه الكاك كاك، ثم ترددت تنويعات مختلفة للصوت نفسه، وقفتُ عند باب القاعة لا أدري ماذا أفعل، حاولت أن أبتسم وأبدو طبيعياً ولكني كنت أغلي في داخلي.
جاءت «سيربا» بعد دقائق، اعتذرتْ لتأخرها، فتحتْ ملفها، وبعثرت الأوراق على الطاولة، قالت:
– أتدري، يا معلمي، لقد شغلني حرفك الغريب طوال الأسبوع الماضي، تكرّر حتى في أحلامي، هناك أمر واحد تأكدتُ منه، وهو أن دجاجاتنا لا يستطعن نطقه كما تنطقه أنت، بل يقلن: كاك كاك كاك وبدأت تضحك.
انفجرتُ غاضباً وصرختُ:
– هل تحاولين السخرية منّي؟ لن أسمح بذلك.
في تلك اللحظة انفتح باب القاعة، وخرجت النساء من الداخل، وقفن حولنا، سألتْ إحداهن:
– ماذا تقول الدجاجة؟
فصرختْ الأخريات بصوت واحد: كاك كاك كاك. نهضتُ واتجهتُ إلى الخارج ثم التفتُ وصرختُ بأعلى صوتي:
– سنلتقي في الأسبوع القادم، وسأريكنّ ماذا تقول الدجاجة.
فكّرتُ وأنا أمضي وحيداً، أن أفضل ما يُسكت أولئك النساء، هو حصولي على دجاجة حية، وجعلها تقاقئ أمامهن، ولكن أين سأعثر عليها؟ الدجاج الحيّ لا يباع في الأسواق هنا كما يحدث في مدننا، كما أن لا أحد يربي دجاجاً في بيته لكي أستعير واحدة.
في اليوم التالي، سألتُ صديقي «رينتولا»:
– كيف أحصل على دجاجة حية؟
نظر إليَّ باستغراب، اعتقد للوهلة الأولى أنني أمزح، وضحك حين أخبرته عن السبب، أخبرني أنه ذهب قبل شهور، ليشتري لحماً طازجاً من امرأة روسية تمتلك حقلاً خارج المدينة، ولكنه ليس متأكداً من كونها تربّي دجاجاً، ثم أوصلني بعد يومين بسيارته، إلى طريق ريفي، قال إن الحقل يقع في نهايته وغادر مسرعاً.
سرتُ وحيداً في ظلال أشجار كثيفة متتالية، رأيتُ خيولاً وأبقاراً ترعى في حقولٍ تمتد على جانبي الطريق، رأيتُ أكواخاً خشبية وأشباح نساء قربها، رأيتُ ثياباً منشورة على حبالٍ في الباحات الخلفية للأكواخ، كانت الشمس تختفي وتظهر خلف غيوم سوداء، ثم وصلتُ أخيرا إلى البيت الخشبي الذي وصفه «رينتولا»، كان محاطاً بصفين من الأكواخ الصغيرة، وبأشجار دلب عالية متفرقة، فُتح باب البيت، وظهرت امرأة ترتدي بدلة عمل رمادية وجزمة مطاطية، سألتني بفنلندية ركيكة عمّا أفعله قرب بيتها، بدت بقامتها الفارعة وجسدها الممتلئ وعينيها الحادتين والعصا التي تحملها مثل حارس في ملهى ليلي. قلتُ:
– أريد أن أشتري دجاجاً.
انحنت باتجاهي، وقالت:
– ارفع صوتك، أنا سمعي ثقيل.
صرختُ بأعلى صوتي:
– أريد دجاجاً، هل لديك دجاج حيّ؟
عادت إلى داخل البيت، وأغلقت الباب خلفها، ثم خرجت بعد دقيقة وهي تحمل سلسلة مفاتيح ضخمة، قالت:

تخطيط: حسين جمعان
– اتبعني، سأريك ماذا يوجد في الأكواخ، هل أنت غجري؟
لم تنتظر إجابتي، استدارت ووضعت يدها على كتفي، وقالت:
– شكلك يوحي بذلك، لا تهتم، هذه ليست شتيمة، أنا أحب الغجر وخصوصاً الرجال الأقوياء منهم، هل تفهم ما أعنيه؟
قلت وأنا أحاول التخلص من يدها الثقيلة:
– لا يهمني ذلك، قلت لك لماذا أتيت، هل لديك دجاج؟
نفخت دخان سيجارتها في وجهي وردت عليّ بالروسية، ثم فتحت باب الكوخ الأول وقالت:
– أنظر، ماذا ترى في الداخل؟ هل هناك دجاج؟
قلت:
– لا، أرى أربعة حملان ونعجتين فقط.
ثم فتحت الباب الثاني فرأيتُ ثلاثة خنازير، ورأيتُ في الكوخ الثالث ذئباً مقيداً إلى الحائط بسلسلة، أما في الكوخ الرابع فرأيت كلباً صغيراً نائماً وببغاءً في قفص معلق بالسقف.
قلتُ لها حين وصلنا إلى الكوخ الأخير:
– يا سيدتي، أنا لم آتِ إلى هنا لأتفرج، أريد دجاجة. لن آكلها، أنا لا أحب لحم الدجاج، لديّ غرض آخر، هل فهمتِ ما أقول؟
أمسكت بيدي وابتسمت، وقالت:
– تعال، لنجلس قليلاً ونتحدث، هل لديك وقت؟
قلتُ:
– لا أدري، سيأتي صديقي إلى هنا بعد ساعة أو أكثر ليأخذني بسيارته.
فتحتْ باب الكوخ الأخير، وقالت:
– تعال لنشرب شاياً، وإذا شئت، فيسعدني أن أقدم لك كأس ويسكي أو كونياك أو فودكا، لا تستغرب، لديّ هنا كل أنواع المشروبات، لن تصدق ما ستراه أيها الغجري الحزين.
رأيتُ أريكة خشبية في الداخل ومنضدة فوقها أقداح وزجاجات شراب عديدة، كما رأيتُ على الأرض صناديق كارتونية وأكياساً وحقائب، التقطت هي قنينة فودكا وفتحتها وصبّت لنا كأسين كبيرين، قلتُ لها:
– ليس باستطاعتي شرب كأس كهذه، أنا بالكاد أشرب بضع قطرات ليلاً.
ضحكت وقالت:
– ولكن الغجر يشربون في كل الأوقات، أشرب يا عزيزي، لنكن أصدقاء، الفودكا تغسل الهموم وتفتح القلوب المغلقة.
ثم رفعت كأسها وشربت ما فيها بجرعة واحدة، التمعت عيناها وقالت شيئاً ما وضحكت حين رأتني أرتشف جرعة صغيرة من كأسي وأعيدها إلى المائدة، قالت:
– اشرب بسرعة، لا بد أن تنتعش لكي تتكلم، أنا أتحدث الفنلندية جيداً حين أثمل.
قلتُ:
– ربما سأسكر إذا شربتُ بسرعة، دعيني أتصرف كما أريد.
صبَّت لنفسها كأساً أخرى وأشارت إلى الصناديق الكارتونية على الأرض، وقالت:
– لديّ فودكا، بنصف الثمن الذي تباع به في الأسواق، أذهبُ في كل شهر إلى «بطرسبرغ»، وأجلب صندوقاً أو صندوقين، وإذا أردت سجائر فلديّ من كل الأصناف، اشرب يا عزيزي، أنت الآن في جنة «لودميلا»، كل ما تتمنى بين يديك.
شربتْ الكأس الثانية بجرعة واحدة أيضاً ومسحتْ فمها وتجشأت، سمعتُ صوت قأقأة دجاج فقلتُ:
– أليست هذه أصوات دجاج؟ هل بإمكانك أن تأتيني بواحدة؟
أطلقتْ ضحكة مجلجلة وقالت:
– ماذا بك؟ هل سكرتَ؟ هذا قباع خنازير، اشرب جرعة أخرى لتنسجم معي، لا تستعجل أيها الديك الغجري، لنكن أصدقاء، سأطلعك على سرّ صغير، أنظر هنا.
نهضتْ وفتحتْ سحاب بدلتها، وأخرجتْ بطنها، كانت مخددة، ذات تجعدات حمراء أشبه بجروح قديمة، قالت:
– هل تصدق أن جميع الحيوانات التي رأيتها وأخرى سواها قد خرجت من هنا؟ ولدت من هذا البطن الكبير، أنا امرأة ولود، أنجب حيواناتي حسب الطلب، إذا شئت أن ألد لك دجاجاً فسوف ألده، هل تريد دجاجة أم أكثر؟ لا عليك، سألد لك كل ما ترغب به، خذ هذا ما تبقى في كأسك، ادلقه في جوفك، سأريك كيف نصنع دجاجاً لذيذاً، ستسمع قأقأته قريباً.
أمسكت بي ورفعتني بيديها القويتين ووضعتني في حضنها، ورفعت كأسي وسقتني منها ثم ألقت بي على الأرض واضطجعت فوقي، لم أكن يقظاً ولا سكراناً، كل ما أتذكره الآن أنها ظلّت تحركني وتعبث بأعضائي وتناغيني مثل رضيع، وبعد وقت لا أستطيع تحديده نهضت عني وجلست على الأريكة وبدأت تدخّن، قالت:
– قم بسرعة، إذا جاء زوجي ورآك هكذا سيقتلك، ليس لأنني ضاجعتك، بل لأنه يكره الأجانب وخصوصاً الغجر، لا تقل لي إنك لست غجرياً، هو يعتبر جميع الأجانب غجراً، حتى أنا، يسميني روسيتي الغجرية، وهو يتركني أفعل ما أشاء، لأن الغجر باعتقاده مجانين، يتمازحون ويغنون ويتناكحون في كل مكان مثل الكلاب.
زررتُ بنطالي، وأزلتُ ما علق بي من قش وجلستُ إلى جانبها، أخبرتني أن زوجها ذهب إلى اجتماع لجماعة يمينية في مركز المدينة، يعتقد أفرادها أن كل مشاكل فنلندا وأزماتها سببها الأجانب، أضافت:
– اذهب وانتظر صديقك في مكان آخر، أما دجاجاتك فلا أعتقد أنني سأنجبها لك هذا الأسبوع، عليك أن تذهب معي بعد ثلاثة أيام إلى بيتنا الريفي وتخوض تجربة أخرى.
ثم ذكرت لي عنواناً، وقالت لي:
– انتظرني هناك، في التاسعة من صباح الأحد، لا تتأخر.
رويت لـ»رينتولا» ما حدث، فظلّ يضحك طوال الطريق، قال:
– هذه وحش وليست امرأة، ماذا كانت ستفعل بك، لو أنك أردت منها بقرة مثلاً؟
جاءت بسيارتها صباح الأحد، كانت ترتدي ثياباً نظيفة وتعتمر قبعة عريضة حمراء، ظلت تدخّن طوال الطريق وتغني بالروسية وتمد يدها إليّ بين حين وآخر إلى ما بين فخذيّ، سمعتُ أصوات حيوانات وقأقأة دجاج تأتي من الخلف، قلت:
– يبدو أنك أحضرت لي ما أريد.
هزّت رأسها، واستمرت تغنّي وترسل لي قبلاً هوائية، سلكنا طريقاً فرعياً على جانبيه بيوت متفرقة ثم توقفت وأشارت إلى كوخ صغير وقالت:
– انتظرني قرب الباب، سأذهب لأجلب المفاتيح، لن أتأخر.
صفعت ريح باردة وجهي حين نزلتُ، بدأت السماء تتلبد بالغيوم، بعد أكثر من نصف ساعة عادت، كانت تحمل كيساً كبيراً وتترنح، سألتني:
– هل انتظرت طويلاً؟ أنا آسفة.
قلتُ:
– أشعر أن أطرافي قد تجمدت، أين ذهبت؟
قالت وهي تضع الكيس على الأرض:
– حاولتُ أن لا أتأخر، ولكن صديقي هناك دعاني لشرب قدح من الروم، ولم يتركني حتى انتهت الزجاجة، ماذا أفعل؟ إنه عجوز فنلندي مجنون.
ثم احتضنتني واستطردت:
– تعال والتصق بي، يا كتكوتي الوسيم، لا ترتعش، سأدفئك، بل سأجعل الدم يغلي في عروقك.
رأيتُ في غرفة الجلوس، حين دخلنا، بضعة مقاعد ومائدة خشبية صغيرة وخزانة فيها كتب ومجلات قديمة وشمعداناً يهودياً، سألتها وأنا أشير إلى الشمعدان:
– هل أنت يهودية؟
قالت وهي ترفع الشمعدان وتمسح الغبار عنه:
– لا، لقد اشتريته من متجر للأشياء المستعملة، ما هو رأيك به؟ أليس جميلاً؟
لم أرد، كانت الصالة باردة جداً، بدأت أرتجف، لم يكن بإمكاني حتى الوقوف بشكل مستقيم، التفتت هي إليَّ وبدأت تضحك، قالت:
– ما بك يا ديكي؟ تماسك قليلاً، ألم تشتق لدجاجتك السمينة؟
أخرجت قنينة فودكا من كيسها وفتحتها، وقالت:
– اشرب قليلاً من الفودكا، ستشعر بالدفء بعد بضع جرعات.
ثم أخرجت برنساً أحمر وطرطوراً وجوارب صوفية، وقالت:
– اخلع ثيابك بسرعة والبس ما أحضرته لك، هذا ما كان زوجي يرتديه، حين كان ينام معي منذ سنوات، قبل أن يفقد اهتمامه بي، لم يعد يطيق الآن لا رائحتي ولا كلامي.
أخرجت أيضاً بطانية وملاءات ووسادة، خلعتُ ثيابي ببطء، ولبستُ البرنس ووضعتُ الطرطور على رأسي وجلستُ على الأريكة وبيدي قنينة الفودكا، دخلت هي إلى غرفة النوم لتعد السرير، ظلَّ صوت غنائها يتردد لدقائق في الغرفة ثم تلاشى، شعرت بعد ثلاث جرعات من القنينة أن الدم يتدفق ثانية في جسدي، صحتُ:
– أين أنت يا دجاجتي الروسية؟
لم أسمع رداً، نهضتُ وذهبتُ إلى الغرفة، رأيتها تنام عارية على السرير، ذراعاها متصالبان إلى جانبيها وفوقهما ثدياها الهائلان، أما بطنها فتتهدل في طيات بين فخذيها، أخذتُ جرعة أخرى من الفودكا وتمددتُ إلى جانبها. لا أدري كم استغرق نومي، ولكني استيقظت مفزوعاً، حلمتُ أنني أسقط في بركة عميقة وأن سمكة كبيرة لها جناحان وأطراف امرأة تحاول خنقي، وجدتُ «لودميلا» تنام فوقي، كانت تتحرك بجنون وتصرخ، حاولت إزاحتها فلم أستطع، قلت لها:
– أنا أختنق، يا «لودميلا»، سأموت.
لم تهتم، انحنت وألصقت شفتيها على عنقي، اعتقدت أنها ستقضم حنجرتي، ولكنها رفعت رأسها، وفتحت فمها على اتساعه وبدأت تقاقئ، وتساقط لعابها حاراً على وجهي وصدري، ثم استدارت وتطوّحت وانهارت على الجانب الآخر من السرير.
نمنا لأكثر من ساعتين واستيقظنا متعبين، لم نتبادل في طريق العودة سوى بضع كلمات، سألتها حين وصلنا:
– هل ستعطيني دجاجاتي الآن؟
أشارت إلى بطنها، وهي تضحك:
– لا بالطبع، ما زالت دجاجاتك هنا، تحتاج إلى المزيد من الوقت لتنضج.
صرختُ بغضب:
– انظري، لماذا لا ننتهي من هذه المسرحية المضحكة؟ إما أن تعطيني دجاجاتي أو سأذهب بلا عودة، لن تري وجهي ثانية، أليس هناك دجاج في صندوق السيارة؟ إنني أسمع قأقأته. لا تقولي غير ذلك.
مدّت ذراعها واحتضنتني، وقالت:
– لا تحتد يا ديكي الرقيق، لا تعكّر مزاجك، سأجلب لك دجاجاتك يوم الأربعاء حيثما تكون، ألا تصدق أنها ما زالت في بطني؟ طيور وحيوانات كثيرة تنمو هنا، لا يمكنني إخراجها إلا حين تكتمل، يتطلب ذلك قليلاً من الصبر، يا أرنبي، يا ذئبي، يا عصفوري.