الغرق في اللعبة
يتحدث الصويم في روايته (منشورات مسكيلياني، تونس 2016) عن واقع مأساويّ ينحر أبناءه، يحكي عن مشكلة متفاقمة لا تستدلّ إلى أيّ طريق للخلاص، عن بؤس الاستغلال والمتاجرة بالبشر، عن الخوف من البقاء والاستمرار، والخوف من الخوف نفسه، من فقد الحرّيّة ومن التخبّط في بحيرة البحث عن درب للخلاص من بحر الضياع المُكئب.
يحكي عن عدد من السودانيّين العاملين في المملكة وخرائط تحرّكهم وتواصلهم وعملهم ومعاناتهم وسيرهم وسط حقول ألغام محيطة بهم، وكيف يرضخون لابتزازات الكفلاء تارة ويتمرّدون عليها تارة أخرى بوسائلهم الخاصّة، يتحايلون على أنفسهم وعلى القوانين التي تكبّلهم ليقنعوا أنفسهم أنّهم في فترة مؤقّتة وأنّهم سيجدون درباً للخلاص، في حين أنّ تلك الفترة التي يفترض أنّها مؤقّتة تبدأ بالاستطالة، وتتّخذ أشكالاً أكثر قهراً وإيذاء.
قصر المؤامرت
“فضل الله” سائق عربة الأموات ينقل عدداً من الجثث إلى المقبرة، تشاء المصادفات أن يتأخّر عن موعده، وينشأ لديه فضول بالتعرّف إلى وجوه الموتى الذين ينقلهم بعربته إلى مثواهم الأخير في مقبرة الغرباء، وتكون الصدمة في اكتشافه أنّ هناك جثّة ما تزال تحتفظ بخيط من الحياة، تتنفّس في صقيع البرّاد، فيستعين بصديقه السودانيّ الدكتور “مكّي الفكّي” الذي يهبّ لمساعدته ومعاينة الجثّة التي تعود لخادمة إثيوبيّة، وتطبيبها بالتعاون مع مساعدته الفلبينية “آن” التي كان على علاقة حبّ معها.
يتمكّن الطبيب من معالجة الإثيوبيّة “روز» التي تكون لها مأساتها الكبرى بدورها، فهي الخادمة المخالفة التي تعرّضت لابتزاز تجّار البشر وسمسارة الخدم، وتعرّضت للاغتصاب من قبل الرجل الذي قام بتشغيلها عنده، شوّه جسدها، قطع حلمة صدرها، وهي بدورها انتقمت منه بطريقتها الخاصة وأفقدته فحولته المرضيّة التي كان يباهي بها.
يعتاد “فضل الله” على “روز» في بيته، يتعلق بها، يصل إلى درجة لا يتخيّل معها رحيلها، وحين يحاول مساعدتها على الرحيل يغيّر رأيه ويطلب منها الزواج، ويتأمّل بطريقة للخروج من الوضع المزري الذي يجده نفسه و”روز» عالقين فيه، ويكون ذلك مدخلاً للبحث عن مخارج من متاهة الرعب والضياع القاهرة.
في الجهة الأخرى هناك “الصادق سليمان” الذي يعمل في قصر عائد لأحد الشيوخ، اسمه “أبو طلال”، يشير إلى أنّه ادّعى المشيخة بعد عمله في قصر أميريّ، تعلّم فيه فنون الابتزاز وأعمالاً خارجة عن القانون، يمارس شهواته الغرائبيّة المتطرّفة، يوقف قصره لكيد المؤامرات، يعدّ ولائم فحش وفجور، يدعو إليها عدداً من أصدقائه وممّن يودّ الإيقاع بهم وابتزازهم، يصمّم قصره كأنّه يصمّم مستعمرة عقاب لعمّاله، هناك سجن قاس في دهاليزه وأقبيته يعاقب فيه من يخالف أوامره، يسلبهم راحتهم وأموالهم وحتّى حياتهم.
هناك كذلك السوداني “أكرم” العامل في مكتب إعلاميّ لدى أحد المتاجرين بالدين، يرصد من خلاله الفساد الذي يغرق فيه عدد من أولئك الذين يعتبرون أنفسهم دعاة، وكيف أنّهم يدفعون الشباب للتطرّف والقيام بأعمال إرهابيّة، ويحشون أدمغتهم بشعارات برّاقة وأوهام فردوسيّة، بحيث يجعلونهم يستعذبون الانتحار ابتغاء نعيم متخيّل، يكون “أبو البراء السودانيّ” مثالاً للشابّ المغرّر به، المدفوع إلى احتراف كراهية الذات والآخر.
تحضر شخصيّات أخرى تكمل مشهد الدمار والرعب والجنون، هناك حارس المقبرة اليمني، وهناك شخوص من جنسيّات مختلفة يرزحون في واقع البؤس ذاك، يتحرّكون في فضاء العتمة المفروضة عليهم، يهربون من زمنهم ومكانهم، يبحثون عن المال من جهة وعن الخلاص من جهة أخرى، وكأنّهم ارتضوا بقاءهم مخالفين أو تحت رحمة كفلاء ظالمين، فتراهم ينتقمون من واقعهم بطريقة شرسة، يمعنون في الفساد والإفساد.
مستنقع المتاجرة
يرسم الصويم ضحايا يتحرّكون في دائرة الخوف والقمع والقهر في نظام اجتماعيّ ظالم وفي ظلّ تراتبيّات مقرفة، بحيث يشعر أحدهم بالتفوّق على الآخر بعبوديّته، وكأنّ مقياس القيم انقلب رأساً على عقب، يكون مدّعو الفضيلة وحرّاسها الوهميّون أعداء الحياة، يبيحون لأنفسهم المحظورات ولا يعدمون استحداث فتاوى تشرعن لهم جرائمهم بحقّ غيرهم، مثلاً حارس المشفى يتحرّش بالممرّضة الفلبينية “آن” ويكمن لها وللدكتور “مكي” ليوقع بهما، يحاول ابتزازها لكنّه يفشل، فيختار درباً آخر للانتقام، بذريعة الحفاظ على قيم المجتمع وتعاليم الدين.
تتصاعد الأحداث بوتيرة عنيفة، يتنقّل الأبطال من مأساة إلى أخرى، يسترقون لحظات متعة من وسط النيران التي تحاصرهم، يتمرّدون على قيودهم، يقرّرون خوض مغامرتهم الأخيرة إلى حرّيّتهم بعيداً عن قصور هي أشبه بقبور لهم، يحاولون شراء أملهم بحياة قادمة والتخلّص من حياة العبوديّة المضنية، يخطّطون لغدهم في فضاء آخر وعالم مختلف.
المفارقة المريرة تكمن في أنّ عربة الأموات تصبح وسيلة للحياة، إذ تكون وسيلة لنقل الشخصيّات الساعيّة إلى حرّيّتها إلى خارج الحدود، يتمّ تزوير أوراق تشير إلى موتهم، وأنّ العربة تنقلهم إلى مسقط رأسهم على الحدود السعوديّة اليمنيّة، ليهربوا منها إلى اليمن ومنها إلى السودان، يكون التدرّب على التكفّن والتماوت وتحمّل برد العربة وخوض تجربة الموت بحثاً عن الحياة.
يرمز الصويم من خلال شخصية الغراب إلى واقع التطيّر والشؤم، وهو إذ يستحضر الغراب كشخصيّة موازية في العمل، يستعين برمز تراثيّ وواقعيّ، فالغراب الذي يكون نذير الشؤم ورسول المآسي والشرور، يتحوّل تارة إلى صديق صدوق للشخصيّات في عتمتها ووحشتها، وتارة أخرى إلى ناصح، وربّما إلى مستنطق لدواخلها وكاشف لأسرارها الدفينة وأحاديثها التي تسرّ بها لنفسها، أو تخشى من البوح بها حتى لنفسها.
تتشابه أجواء قصر الشيخ في رواية الصويم مع أجواء رواية “ترمي بشرر..” للسعوديّ عبده خال، وبخاصّة من جهة إحياء حفلات الفحش والمجون والشذوذ فيها، ولعبة الإيقاع بالخصوم والإثابة والمعاقبة، والانتقام التالي، وكأنّ القصور تتشابه في ظلمها أو تعتيمها على عمّالها وتبقيهم أسرى ورهائن بطريقة محدّثة.
تكون رحلة شخصيّات الصويم صورة محدّثة لرحلة “رجال في الشمس» للفلسطينيّ غسّان كنفاني (1936-1972)، ومأساة اجتياز الحدود أملاً بحياة أخرى، لكن الصويم يبقي شخصيّاته نزيلة العربة، ولا يحدّد لهم أيّ نهاية، يضع نهاية للأحداث وهي ما تزال في أوجها، وكأنّه يبقي الباب موارباً أمام جزء تالٍ من الرواية التي يمكن تخيّل مصائر أبطالها الذين يرتحلون في مختلف الاتّجاهات باحثين عن أنفسهم وغدهم ودروبهم الخاصّة.
يمكن توصيف “عربة الأموات” بأنّها رواية غضب ونقمة على واقع ظالم قاهر، وعلى نظام الكفالة الذي يستغلّه بعضهم لجعله وسيلة لعبوديّة تتنافى مع روح العصر الحديث، حيث البشر أرقام في مستنقع المتاجرة، يتمّ استرخاصهم وبيعهم وشراؤهم، واسترقاقهم بطريقة شنيعة، لتبدّد آمالهم بالثراء والمستقبل الرغيد، وتتحوّل إلى مساعٍ للخروج من تلك القيود والحظوة بحرّيتهم المنشودة بعد امتهان وإذلال وتقييد.