العرب وشراك تحويل المعاني
"الإنسان كائن يتشبث بشبكة المعاني التي يصنعها بنفسه» كما رأى هيغل. والبحث عن المعنى، هو ذلك الفعل الذي ارتبط بالإنسان بوصفه كائنا عاقلا. فيما تراوحت تلك الفعالية وتجلّت في أكثر من طور ودور و تطلع واتجاه. فتارة يتبدى بوصفه قرارا يسعى إليه الأفراد والمجتمع، سعيا نحو تعميق مدى التواصل الإنساني، بغاية الوصول إلى الفهم المشترك، الذي يتوّلد عنه تسهيل الفعاليات الإنسانية. وتارة أخرى يتبدى بوصفه معرفة، غايته التفاعل والتواصل مع البشر. هذا التواصل الذي درجت عليه البشرية من خلال اللغة، ينطوي على التفاعل الصميم مع الواقع، حيث البحث عن المعرفة النافعة، تلك التي يتم من خلالها التعبير العميق عن التجليات الإنسانية والمدركات الحسية، وتلبية الحاجات النفسية والاجتماعية والثقافية والروحية. ومن هنا تحديدا يتبدّى دور المثقف بوصفه حاملا لمشعل التنوير، في الكشف والتمييز والإفصاح، عن المجمل من العلاقات والتحديات والرؤى والتصورات والإرادات التي تشغل المجتمع.
خيوط المعنى
وفّق الكائن البشري نحو الإمساك بخيوط المعنى، لكن تداعيات السؤال الإنساني ما انفكت تحفز مدار العلاقات، حتى وفقت النخبة المثقفة نحو تحرير خطاب العقل، والعمل على تشذيبه وتوظيفه، عبر زخم السؤال المدقق الساعي نحو تفكيك العلاقات الراسخة، والعمل على تحرير المعنى من الركود والسكونية. فكانت الثورات المعرفية الكبرى، تلك التي انتقلت بالتاريخ البشري عبر مراحل وحقب مختلفة. فكأن مستويات الدلالة قد تباينت وفقا للتجريد وتمفصلت في تحقيق القيم عبر المعنى السردي. فيما بقي المعنى «الفعلي و المجازي» سيد الموقف باعتبار التواصل من خلال اللغة.
في ظلّ التحولات التي يشهدها العالم الراهن، والتسارع اللافت لمنجزات الثورة المعرفية والاتصالية. بات الواقع يعيش عصاب سؤال الهوية. حيث الحضور العميق لمسألة الآخر. فيما أفسحت العولمة وتجلياتها المجال الواسع لمسألة الانفتاح والتطلع نحو النهل عن الآخر من دون اقتصاد. فإذا دمغ جيل الإصلاحية العربية بالتخلي عن الموروث الحضاري والخصوصية الثقافية، والاندراج في لعبة الغرب، باعتبار الحاجة إلى التعليم الحديث والطب والتقانة والتسليح ومفردات الحياة الحديثة، فإن الفاصل الزمني والذي تجاوز القرن من الزمان، راح يشير إلى استغراق الواقع العربي بالاستهلاك والتلقي. حيث التورم الذي راح ينال من المفاصل في جسد الأمة، والركود القار والراسخ الذي باتت «الفجوة الرقمية» تشكّل أبرز ملامح العلاقة القائمة بين الواقع العربي والآخر. فإذا كان الابتلاء بالتغرّب أحد أبرز مظاهر تأثر الشرقيين بالغرب، خلال القرنين الماضيين، فإن الفجوة الراهنة، راحت تحث مرتكزات المعنى، حول الآخر برمته، الذي يتفاعل ويتعايش وينجز ويؤثر ويتأثر. وهذا ما تشكف عنه أحوال التفاعل على المسرح الدولي، حيث التفاهمات والانسجامات القائمة بين الشمال والجنوب، والتطلع نحو توزيع الأدوار والتي لا تخلو من هيمنة بالطبع! وطبائع متوحشة تصدر عن الطرف الأقوى بإزاء الأضعف. فيما يعيش العرب اليوم أحوال الانقسام والتشظي والصراع والانكفاء المقيم.
من التخوين إلى التكفير
الخطاب العربي الراهن يعيش أوضاع الانقطاع، حيث الفقد المريع لأحوال التواصل، وحيث التفاعلات القطاعية، والتي راحت تتجسد في الانكفاء الفردي والغياب المريع للتفاعل المفترض. إنها الطائفية المعلنة والاندراج في لعبة التشظي المقيم، حيث الانحياز المباشر للطائفة والمذهب والعرق. وإذا كان الخطاب الأيديولوجي العربي قد كرّس أحوال التخوين في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتفاقمت مدركاته بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الخطاب الأصولي بات تمثيلا مريعا لمجريات الممارسة الاجتماعية، حيث التطلع نحو نقل المعنى القار والثابت، والذي أعدّ في مطبخ المعنى الخاص بتلك الفئة أو الطائفة، والإجراءات المتعلقة بتكوين المعنى، حتى غدت الأفعال وقد توجّهت نحو تكريس أحوال التبشيع والقتل على الهوية والهدر للمعنى، انطلاقا من تقديم الدوغما العقائدية على كل ما دونها من رؤى وتصورات.
«إنه الفعل الإنساني الذي يدل على صاحبه» على حد تعبير باختين، حيث الترسيم للمجمل من مستويات العلاقات، والتي يتم دمجها قسرا في الخطاب عبر التقديم للقيم والمعتقدات بناء على القراءة أحادية الجانب، والتي تكرس المعنى الواحد، بناء على الظرف الاجتماعي الذي يحيط بصاحب الخطاب، والذي لا يتوانى عن التطلع نحو إنجاز أهدافه المحددة، بطريقة مباشرة. إنها استراتيجيات جعل الخصم بوصفه «Target». فإذا كان الخطاب الأيديولوجي قد رفع شعار قذف العدوّ في البحر، وأن كل شيء من أجل المعركة، فإن الخطاب الأصولي الراهن تطلع نحو الانغلاق عن الآخر وتبني الممارسة الساعية نحو الداخل بوصفه رهينة، حتى بات العدوّ الرسمي والمعروف في هناء العيش وأتم أمن!؟ إنه التلفيق على أشده، حين يتم اللعب في حقل المعنى والتوجه نحو خلط الألوان والأشكال والمعاني والدوال على أساس رفع شعار الإفلات من التغريب عبر تفعيل مجال الخلط في المعاني، والتأكيد على إبراز نصوص بعينها، والعمل على إقحامها في لعبة «الهيمنة والسطوة والقوة». إنه الخلط المضاعف بين الديني والسياسي وجعل الواقع عبارة عن مسرح لممارسة الحضور من خلال التشريع لعملية «الذبح المقدس»، في الوقت الذي أشبع فيه المواطن العربي استبدادا وتكميما للأفواه من خلال شرعية الدولة القطرية.
ما بعد الدولة
كيف يمكن تمييز ملامح الراهن العربي بعد الربيع العربي على وجه الخصوص؟ بعد أن أمسى الاختلاط في الحقول على أشده، حتى بات من العسير التمييز بين السياسي والاجتماعي والديني والثقافي والحكومي. واشتطت الأفعال حتى لم يعد أمر التعيين هينّا حول الحزبي والطائفي والإداري والسيطرة والاختراق، فيما تشظت المضامين وبات أمر ترصدها عسيرا حول الصراع والتصادم والأخلاق والتبرير والتنمية. إنها أحوال التناهب الذي راح يلازم الموضوعات، حتى اختلطت الديمقراطية بالهوية، والسياسة بالحياة، والحوكمة بالتنمية المستدامة. وإذا كانت «الحقيقة تُعرف بنتائجها» كما يقول بيرس، فإن نتائج الربيع العربي قد أثمرت عن التمزيق للعديد من البلدان العربية وتهديد وحدتها في الصميم، والانفلات الأمني وتغوّل قوى الإرهاب، وتوسع نفوذ القوى الأصولية.
لقد حضر الدال (اللفظ-الكلمة-التعبير-الصوت)، وغاب عن الواقع المدلول (المفهوم-المعنى-المحتوى-الفكرة)، وغدا الالتباس سيد الموقف، على اعتبار أن «اللغة شكلا لا مادة» على حد تعبير سوسير، فالجميع يرفض الاستبداد ويندد بالطغيان، فيما لم يجد المواطن العادي سوى الانفلات الأمني، وإلباسه شاء أم أبى هوية طائفية ومذهبية وعرقية؟ حتى لم يعد متوافرا في الواقع العربي سوى التبعية والخضوع والاستسلام الذي توطّد عبر حقبة التسيد الأيديولوجي، وراح يتسلل في وسيط «الفوضى الخلاقة»، فيما يبقى السؤال طائشا وحائرا حول معنى الحرية والديمقراطية وتقرير المصير، في ظل النزوح واللجوء للمواطن داخل بلده! وإذا كان الفرد العادي الذي عانى من ويلات جهاز القمع البوليسي واضطهاده وتدخلاته السافرة في أدق خصوصياته، وعاش مؤمّلا النفس بالحصول على حلم «اللجوء في بلدان الرفاهية»، فإن غاية ما يتمناه اليوم بات يقوم على حلم «الملاذ الآمن»، أما الحقوق الطبيعية التي شرّعت لها جميع النواميس والقوانين والدساتير حول الحق في السكن والعمل والعيش الكريم، فقد غدت مثارا للتندر والسخرية.
تقمصات الأدلجة
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ظهر إلى الوجود مشروع الدولة الوطنية، بمباركة فرنسية-بريطانية. وهكذا تم تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية إلى أقطار، حتى كان الانشغال بــ»العلم والدستور ومجلس الأمة»، والتي كانت تمثيلا لأحوال الصورة الزائفة «Simulacrum»، فجاءت تلك الدولة ضعيفة تعاني من الهزال والوهن، يغلب عليها التقليد لنموذج جاهز، تعاني من غياب الفعالية الجوهرية، حتى كانت «تحاشيا للاتصال بالشكل المثالي» وفقا لتوصيفات جيل دولوز. ومن واقع التناقضات التي أحاطت بالدولة القطرية، برزت تفاعلات الأيديولوجيا التي جاءت محملة بـ»البراءة الوطنية». لكن التحولات السياسية وتنامي فعالية التحالفات الفرعية، سرعان ما أفصحت عن تنامي أوضاع الانكسار الدلالي «Significance Fragmentation»، لا سيما حين تم تحويل الأيديولوجيا إلى أدلجة، بعد أن تم الانغماس الأرثوذكسي في الأفكار، والنأي بعيدا عن المدار النقدي الذي تقوم عليه الرؤى والتصورات.
وهكذا تم تشويه المضمون الذي تقوم عليه الأيديولوجيا، بعد أن تمّ تحميلها بدلالات تخصّ الفاعل الاجتماعي، وليس ما يفرزه الواقع، وصار التطلع نحو ليّ عنق المفاهيم، وجعلها خاضعة لموجهات ذوي الحظوة والسيطرة والهيمنة. ولم تتوان الأدلجة عن تكريس مجال الولاءات الفرعية، وتحويل المعنى نحو الترصد الاجتماعي، حتى تم تمثل الانتماء الأيديولوجي (الحزبية)، بناء على تقمصات القبيلة والعشيرة. إنه الولاء على أشدّه حول الاكتمال، فيما يتم توجيه الاتهام نحو الآخر، حتى كانت العواقب، تلك التي جعلت من الواقع العربي ساحة للصراع والصدام الأيديولوجي، وعلى مختلف أطواره الماركسية والقومية والإسلامية.