سعيد الكفراوي صوفي القصة القصيرة
الجديد: تنتمي لجيل ستينات القرن العشرين الذي أحدث تطورًا كبيرًا في فن القصة القصيرة؟ كيف تنظر إلى قضية المجايلة تلك؟ وما الدور الذي لعبه هذا الجيل في مسار ذلك الفن؟
الكفراوي: القصة القصيرة حديثة في الأدب العربي. هي في الأصل فن غربي لكنها موجودة في بعض حكايات التراث. ظهرت تجلّياتها في المدرسة الجديدة على يد يحيى حقي وحسين فوزي ومحمود تيمور، وكان ليحيى حقي دور كبير في إعطاء فن القصة شكل المدرسة الغربية. وفي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي كانت القصة أكثر أهمية من الشعر. انفجرت القصة في ستينات القرن العشرين وقدمها للكتابة العالمية نجيب محفوظ وأعطاها الروح المصرية يوسف إدريس الذي كان يتمتع بموهبة كبيرة متوحشة ولديه قدرة على الغوص في عمق الشخصية المصرية.
جاء جيل ستينات القرن الماضي الذي أنتمي إليه ليعبُر على هذا الكوبري الذي صنعه الرواد إلى حداثة الكتابة كما صورها الروائي والشاعر الأميركي فوكنر، كنا جميعًا نلتف حول نجيب محفوظ بكتاباتنا في القصة باستثناء كلّ من صنع الله إبراهيم الذي أصدر رواية «تلك الرائحة»، وعبدالحكيم قاسم بروايته «أيام الإنسان السبعة»، ويوسف القعيد برواية «الحداد»، إلا أن استحكمت سطوة الاستبداد السياسي في الحقبة الناصرية فظهرت الرواية لمواكبة التغيرات في شكلها الأعمق.
وكان الكاتب الكبير إدوار الخراط هو أول من أطلق على هذا الجيل «جيل الستينات»، ذلك الجيل الذي مثّل وثبة مضادة في الأدب ضد السائد والقديم، عاش هذا الجيل أحلام التغيير في ثورة يوليو 1952 ووطأة الهزيمة بعد النكسة، وكانت له القدرة على تطوير تقنيات الكتابة من الشكل التقليدي إلى تيارات الحداثة في الكتابة.
الكتابة والزمن
الجديد: كتبت 12 مجموعة قصصية. هل أصبحت الكتابة بمرور الوقت أكثر سهولة مما كانت في البداية؟
الكفراوي: على العكس، صارت الكتابة أكثر صعوبة، وأضحت علاقتي مع الكتابة يحكمها الصراع والخوف منها؛ فأنا ككاتب متقدم في السن افتقدت جزءًا من الجسارة التي كانت تصاحبني وأنا شاب، وكثرت الوساوس والشكوك حول ما أكتب، ولأن الخبرة اتسعت مساحتها والإحساس بالانقضاء في العمر بات أعمق، صرت أعيش اللحظة ما بين الانقضاء والإبداع متمنيًا أن أكتب في تلك المسافة الضيقة أحلى ما يمكن كتابته، ومن ثم تقلّ الكتابة بسبب تناقص العفوية، وتزداد الرغبة في الحفاظ على قدر من الحكمة والتأمل والرغبة في حسن تجسيد الناس على الورق كي يعيشوا مددًا طويلة كما يقول الكاتب الأميركي همنغواي. سُئِل أحد الكتاب اللاتينيين عن ماهية الأدب الخالد والشكل المثالي الذي يعيش طويلاً فأجاب قائلًا «عندما يقرأ لي أحدهم في مصر ويقول لقد سبقتني في كتابة ما أريد أن أكتبه».
القرية المصرية
الجديد: عوالم القرية المصرية تركت أثرها الواضح والمميز في أعمالك.. هل شخوص أعمالك جميعهم هم أبطال حقيقيون وواقعيون عايشتهم في القرية؟ هل ثمة حدود بين الواقعي والمتخيل؟
الكفراوي: تكمن تجربة أيّ كاتب في وعيه وما عاشه طوال حياته وما تبقى في ذاكرته. نحن أبناء واقع نعيشه بطقوسه ومتغيراته وتجليات عوالمه، ومن ثم قدرة الكاتب تكون في تحويل هذا الواقع إلى فن. نحن لا نكتب الواقع ولكن نستعين بالواقع على الكتابة، وبالتالي كل الشخصيات والأمكنة وكل ما كوّن وعيي موجود في الكتابة؛ فالشخصيات مستقاة من الواقع لكنها ليست هي الواقع. الفكرة كامنة في كيفية تحويل هذا الواقع إلى مادة إبداعية.
القرية المصرية التي عشت فيها طفولتي وحياتي تركت تأثيرها الكبير على كتاباتي التي انطبعت بكل معالم القرية وطقوسها في الميلاد والموت والعلاقات الإنسانية، فصرت أكتب عمّا تكوّن في ذاكرتي عن هذه القرية. أنتمي لقرية قديمة تكاد تختفي، بعض الأماكن لا تزال موجودة كثيرًا ما أتوجه إليها لمعاينتها. خرجت من هذه القرية ببيوتها المبنية من الطين وكتاتيبها القديمة، وتكونت ذاكرتي من مضامين الحكايات فيها.
تلك الثنائيات
الجديد: الثنائيات الجدلية مثل الطفولة والكهولة، الحياة والموت، المكان والزمان، القرية والمدينة شكّلت متكئًا أساسيًا في أعمالك القصصية.. ما الأبعاد التي أضافتها تلك المتكآت على فنك القصصي؟
الكفراوي: في الحقيقة، تلك الثنائيات لم تكن قصدية في بداية مشواري مع الكتابة، لكنها تكوّنت لاحقًا مع الكتابات النقدية التي تناولت أعمالي مثل مقالات أدونيس وجابر عصفور ومحمد بنيس وإدوار الخراط. علاقتي بالكتابة بدأت كأيّ كاتب ريفي، وجدت مختصرًا لألف ليلة وليلة وأنا طفل فقرأته ففتح وعيي وخيالي على عالم الكتابة، وتعرفت لاحقًا على جماعة في مدينة المحلة الكبرى أسسوا ناديا أدبيا في قصر الثقافة، وهي جماعة مدهشة كانت البداية معهم ولا تزال مستمرة، محمد المنسي قنديل وجابر عصفور ونصر أبو زيد ومحمد فريد أبو سعدة ومحمد المخزنجي. بدأنا الكتابة وكانت لدينا رغبة في كتابة مغايرة على غرار ما أنجزه يوسف إدريس ونجيب محفوظ وترجمات كافكا وتشيكوف وهيمنغواي، وتكونت لديّ رؤية لما أريد أن أكتب.
صارت الكتابة أكثر صعوبة، وأضحت علاقتي مع الكتابة يحكمها الصراع والخوف منها؛ فأنا ككاتب متقدم في السن افتقدت جزءًا من الجسارة
بدأت الثنائية الأولى المتعلقة بالحياة والموت مع قصة «عزاء» التي تحكي عن فتاة كفيفة عرفتها في الكُتّاب تقرأ القرآن بصوتها العذب، كلّفني الشيخ أن أصطحبها من وإلى الكتاب، وماتت فجأة، وسرنا في جنازتها فاتحين المصاحف، ورأيتها وهي تدخل المدفن وشاهدت عظام الميتين، وكانت تلك تجربتي الأولى مع الموت. وعندما انتقلنا إلى المدينة كثرت أسئلتنا عن واقع هذه المدينة والبحث عن الحرية وذلك العالم الزخم الذي لا يشبه عالم القرية البسيط الذي جئنا منه، وكثرت الأسئلة والتأملات ومن هنا تولّدت وثبتت تلك الثنائيات.
في مجموعة «البغدادية» الحديث كله عن الرحيل، وفي «سدرة المنتهى» الكثير من القصص عن جدل الحياة والموت، فالموت دومًا يشغل ذاكرتي باعتباره استكمالًا للحياة، وأنا لا أستطيع أن أواجه فنائي الشخصي فأنا شديد الخوف من الأبدية.
دهشة الاكتشاف
الجديد: «عبدالمولى» هو الشخصية الأكثر حضورًا في أعمالك.. ما سبب تكرارك لهذا الطفل عبر قصصك؟
الكفراوي: الكاتب البرتغالي الكبير ساراماغو يقول «أطلق زمام أمرك للطفل الذي كنته»، وهناك مقولة أخرى لكاتب عالمي يقول «الطفل أبو الرجل»، والطفل عندي يمثل فيما كتبته متنًا طويلًا في العديد من القصص، من خلاله تعرفت على الدهشة.. دهشة الاكتشاف وأول لحظات الحزن أو الفرح، دهشة التعرف على الموت، فالطفل كان دائمًا لحظة اكتشاف للخفيّ والمسكوت عنه ولحظة دهشة عن الحياة والموت والحفاوة بالحياة، وهو السؤال الأساسي فيما كتبته عن عالم القصص. عبدالمولى كان طفلًا واحدًا بإجابات كثيرة، هو الذي شاهد صندوق الدنيا وخاف من الجمل وشاهد الموتى وأعطته الأميرة فوزية قلادة ذهبية مكافأة له على حبه للملك.
أسماء أهلي
الجديد: أحيلك إلى ما أطلق عليه إدوار الخراط تقنية «التهشير في أعمالك» والحدود المعممة في تسمياتك، فالراوي هو دائما «عبدالمولى»، والأب «سلامة» والجدة «هانم».. ما أهمية تلك التقنية في قصصك؟
الكفراوي: هذه أسماء أهلي الحقيقية، في بعض الأحيان يحدث التخييل وتتغير الأسماء، لكن في أوقات أخرى عندما أضع اسمًا غريبًا ومتخيلًا على قصة حقيقية أشعر بنقصان الصدق. في كثير من القصص أرى الشخص كما هو في الحقيقة فأحتفظ له باسمه. الأسماء ملك لي ككاتب وهي نغمة في اللحن العام لكتابة رجل اسمه سعيد الكفراوي.
في قصة «شرف الدم» رأى الشاب رميم أهله بعد الوفاة عدا والده، فظل يبحث عنه في كل مكان وكلما ازداد بحثه توغل في العمر إلى أن بلغ عمر أبيه، وعندما ينظر في المرآة يجد صورة والده فيها، تلك اللحظة الحقيقية من مشاهدة الموتى بعد رحيلهم لا يوجد فن في العالم يقابلها فكتبتها كما حدثت.
الجنس وأعمالي
الجديد: تتجلى في الكثير من أعمالك الصحوة الإيروسية والربط بين خصوبة الجنس وخصوبة الأرض. هل هي محاولة لتأكيد الاحتفاء بالحياة في مواجهة الموت؟
الكفراوي: هذا صحيح فعلًا. الجنس في أعمالي يمثل حقيقة عالم أكتب عنه وليس عالما رمزيا. في واحدة من القصص تسير المياه في شقوق الأرض بينما تمارس امرأة عانس اغتصابها للغلام، وفي قصة «لون الماء» تحدث علاقة بين الصبي وفتاة بكر على صوت المياه أثناء الاستحمام. الإيروتيكا منتزعة من لحم الدنيا وهو ما أعطاها صدقها وحيويتها وكانت محورًا أساسيًا في العديد من القصص.
القصة بالنسبة إليّ شقيقة للشعر وأنا مغادر دائم للنص السهل صاحب اللغة المركزية، أتقاطع مع شاعر أشبهه في الشكل والكتابة هو محمد عفيفي مطر، فنحن أولاد التراث المصري والأحلام والكوابيس وصوت الليل والحس بالطين، الكتابة إن لم تكن تعبيرًا عن مجمل تاريخك ومعيشتك ومعارفك لا تكون لها أهمية.
قوة المرأة
الجديد: المرأة في أعمالك القصصية تتميز بالقوة والقدرة على الفعل على عكس ما هيمن على الكثير من السرديات التي اقتصرت على تصويرها كموضوع للمتعة. هل جاء ذلك تحت وطأة الخيال والذاكرة أم بتعمّد مسبق؟
الكفراوي: المرأة في أغلب القصص من هذا النوع نساء وحيدات ترمّلن بعد وفاة الزوج وحملن مسؤولية تدبير المنزل وتربية اليتامى، وهنا تكون الأم هي عمود الخيمة ومدافعة عن الحياة لأسرتها، فهي فاعلة بسبب من طبيعة حياتها وبسبب اختياراتها، لكن ليس لديّ التعمد في الكتابة، لم أكتب يومًا قصة بنية أو قصدية مسبقة؛ فأنا أكتب النص ويتغير عند الكتابة وعند التعديل للسعي نحو الصدق والإمساك بحقيقة غير باحث عن إجابات محددة.
رواية لم تكتب
الجديد: كتبت جزءًا كبيرًا من رواية بعنوان «بطرس الصياد». ما موضوعها؟ وما مصيرها الآن؟ وهل كتبتها تحت وطأة الاهتمام الراهن بالرواية على حساب غيرها من الأجناس؟
الكفراوي: كتبت تلك الرواية بنيّة مسبقة وهي أن أكتب رواية لم تكتب فلم تُكتب، ولا يوجد عمل يكتب بهذه النيّة، يجب أن تركع على ركبتيك ما دمت أردت الكتابة ولا يجب الدخول عليها بهذه النيّة، أردت أن أكتب شيئًا غريبًا عن الرواية العربية ومحتفظة في الوقت ذاته بطابعها المصري، لكنني لم أستطع إكمالها، ولا أعرف إن كنت سأكملها لاحقًا أم سينتهي أمرها بالنسبة إليّ وتظل حبيسة الأدراج.
القرية المصرية التي عشت فيها طفولتي وحياتي تركت تأثيرها الكبير على كتاباتي التي انطبعت بكل معالم القرية وطقوسها في الميلاد والموت والعلاقات الإنسانية
أما عن موضوعها فهي عن ولد قبطي يعمل مخرجًا سينمائيًا، لكنه بائس جدًا ومهمّش إلى أبعد الحدود، طرأت في ذهنه فكرة يحقق بها بعض النجاح والانتشار، وهي تصويره شريط فيديو لفتاه تدعى ماريا ويقول إن السيدة العذراء تتجلى فيها، ينتشر الفيديو في الأسواق ويحدث جلبة كبيرة وفتنة طائفية هائلة، يتعرض بسببه إلى الخطف والجلد والتعذيب من قبل بعض الجماعات. الفكرة جديدة وفيها الكثير من المشاكل الراهنة في مصر، كتبت منها جزءًا كبيرًا، وفكرتها مكتملة لكنّني لم أكمل كتابتها ونالت الرواية حظها من الشهرة دون أن تكتمل حتى ظن بعض الأصدقاء أنها أكذوبة لا وجود لها في الواقع.
لا نكتب الحياة
الجديد: يرى بورخيس أنه لا ينبغي الحكم على الكاتب بناء على أفكاره لأنها غير مهمة. هل تتفق معه في هذا الطرح؟ وإلى أيّ مدى تؤمن بأهمية الأفكار في العمل الأدبي ودوره؟
الكفراوي: لا يوجد عمل أدبي يقوم على فكرة، الفكرة بنت التنظير والنقد الأدبي والتاريخ. الإبداع شقيق الشعر وليس شقيق الأفكار. الإبداع صيرورة نحو القبض على المستحيل لتقديمه في شكل عمل فني سواء قصيدة أو رواية أو قصة. ما يفسد العمل الفني هو الأفكار؛ فالأفكار شقيقة الأيديولوجيا، والعمل الأدبي يقوم على التخييل وليس الوقائع، على ما تتخيله المخيلة. إبراهيم أصلان كان يقول «نحن لا نكتب الحياة بما فيها من أفكار ولكن نكتب بها»، وأنا أقول إن أيّ كتابة جيدة تكتبها والحياة عند أطراف أصابعك. وبورخيس أبو التخييل والنص الذي يعبّر عن تجريد الوجود ولا يجعله وقائع قائمة على الحكي ولكن وقائع قائمة على التصور ومن هنا الأفكار تفسد العمل الأدبي.
عناوين الكتب
الجديد: تحدث النقاد عن دلالات العناوين في مجموعتك القصصية وما تحيل إليه من أبعاد تشتمل عليها عوالم القصة جميعها.. متى تأتيك عناوين مجموعاتك القصصية؟ هل بعد الانتهاء منها أم أثناء الكتابة؟
الكفراوي: أباشر الكتابة بعدما يتكوّن بداخلي إحساس غامض بالموضوع، ثمة شيء موجود وملموس على مستوى المشاعر، رسم الشخصيات والمكان والإحساس بالزمان، بهذا الإحساس الغامض أدخل على الكتابة. النص لا أعرف خاتمته لكن يفرضها التطور في الكتابة وفي حركة الشخوص والمعاني.
العناوين تأتي مع الكتابة ربما تأتي أولًا من حالة الغموض ومن البحث الخفيّ عن المعنى الذي أبحث عنه في الكتابة وربما تأتي في نهايتها. في قصة «سدرة المنتهى» مثلًا، يتجسد نص شعري عن السدرة.. مكان للولوج إلى التجلي الإلهي، وبعد الانتهاء من كتابتها وصل هذا العنوان، وفي قصة أخرى كانت تدور عن علاقة الصبي بالجواد الصغير الذي شهد لحظة ميلاده وشعر بهول الموت عند إعدامه، وبعد نهاية القصة لم أجد سوى عنوان «الجواد للصبي.. الجواد للموت».
الكاتب في شبابه
الجديد: يقول بورخيس «الكاتب في شبابه يشعر بطريقة أو بأخرى أن ما يوشك أن يقوله هو إما سخيف أو واضح فيحاول أن يخفيه تحت زخارف باروكية أو أن يبتكر كلمات طوال الوقت».. إلى أيّ مدى ينطبق وصف بورخيس عليك؟
الكفراوي: بورخيس هو منشئ سحرية الكتاب وأسطرتها وتحويل تراثات العالم إلى نصوص أدبية وله فهمه الخاص بالكتابة وشكلها، نختلف أو نتفق معه لكن يظل هذا التصور خاصًا به، وأيّ كاتب جيد في العالم له طريقة في الكتابة، وهناك طرق عند الأفذاذ تكون هي النهج والمنهج والاختيار عند الآخرين مثل ماركيز وفوكنر، هؤلاء شيوخ طرق تتناسل من طرقهم كتابات كثيرة، أنا ككاتب محب للقراءة أقف عند الكتابة اللاتينية وشيوخ الأدب اللاتيني وما كتبوه عن واقعهم وكتبته أنا بطريقتهم عن واقعي.
القصة بالنسبة إليّ شقيقة للشعر وأنا مغادر دائم للنص السهل صاحب اللغة المركزية، أتقاطع مع شاعر أشبهه في الشكل والكتابة هو محمد عفيفي مطر
الطريقة التي يتحدث عنها بورخيس لا تنطبق سوى عليه، هو كاتب مكتبة.. كل ثقافات العالم في وعيه، فمع نصه أنت أسير لثقافات العالم العبري والعربي واللاتيني والفرانكفوني والانكليزي، هو الذي يحتشد بالزخارف واللغة والسحرية والأسئلة دون إجابة، أنا لا تستهويني مثل هذه الطريقة لكني استفدت منه في تحويل الواقع إلى أسطورة.
كتابة حديثة
الجديد: يرى فوينتس أن الأدب يخلق واقعًا ولا يرضى بنفسه قناعًا للواقع فيما يرى ستندال أن الأدب مرآة للواقع. كيف تنظر إلى المسألة؟
الكفراوي: هما مدرستان يفرق بينهما زمن طويل. ستندال ابن المدرسة الواقعية بذهنية القرن 19، أما فوينتس ابن حداثة الرواية في القرن العشرين وما بعد القرن العشرين، وواحد من الكتاب اللاتينيين الكبار الذين أسسوا رؤية لتقاطع الثقافة الأوروبية مع ما أنتج في الوقت الحاضر وعندما يقول إن الأدب يخلق واقعه، فهذان هما الصيغة والتخييل المطلوبان لخلق كتابة حديثة لا تشبه الواقع، نحن لا نكتب الواقع ولكننا نكتب بالواقع الموجود في وعينا ككتاب، المسألة هي لملمة هذه العوالم وتحويلها إلى فن وإبداع.
الرمز والغموض
الجديد: يقول إمبرتو إيكو «كلما ازداد الرمز مراوغة وإبهاما ازداد دلالة وقوة؛ فالسر يكون قويًا حينما يكون فارغًا، إذ يمكن وقتها ملؤه بأيّ نظرية ممكنة». هل تتفق معه في هذا الطرح؟
الكفراوي: هذه الجملة تعد توصيفًا لأعمال إيكو رجل الرياضيات، وظهر ذلك جليًا في «اسم الوردة»، فإدوار الخراط لديه بعض الشغف بالرموز والشفرات مثل إيكو، لكن كتابتي قائمة على التعبير عن واقع الحياة من خلال الفن، أنا ككاتب ملتزم بعالم وشخوص ومعنى ووعي قديم وماض عشته، وبالتالي ما أكتبه لا يتقابل مع الشكل والمعنى عند إيكو؛ فالغموض عند إيكو قائم على الغموض الديني في صراع المذاهب والكنيسة والحروب والقتل وسفك الدماء، في كتابه «اسم الوردة» يستعرض القرون الوسطى في أوروبا، لكن غموضنا يشبهنا. غموض ليل في قرية مصرية قبل دخول الكهرباء، يشبه الأحلام التي نحلمها، سعينا طول الوقت عبر ما كتبناه أن نحيي ذاكرة يتهددها الزوال.
الجديد: تنزع الكثير من قصصك نحو الغموض والإبهام.. ما الذي تضفيه هالات الإبهام على القصة من أبعاد؟ ومتى يصبح الغموض والدلالات غير المفهومة شاهدًا على القصة لا لها؟
الكفراوي: لا نكتب الغموض بهدف الغموض، أي قصدية في عمل أدبي تفسده، ولكن الغموض عندي يأتي من خلال نص كثيف بشعريّته والتباس شخصياته وغياب معناه، الغموض لا يجب أن يكون سعيًا لإحداث الغموض ولكنّه سعي لطرح أسئلة على القارئ والوصول إلى المعنى، كما أن الكاتب فعل عركته مع نصه على القارئ أن يفعل جهده في قراءة النص.
في قصة «الأمهري» بيع الرجل عندما كان طفلًا في أسواق الإسكندرية، وغيّروا دينه، لكنه ظل متذكرًا الترانيم المسيحية التي كان يسمعها في طفولته، القصة تقول إنه لا أحد له الحق في أن يغير ديانتك أو يتحكم فيها، هنا لا نتحدث عن غموض، ولكن يجب الحفر في النص لتجد المعنى.
حداثة الكتابة
الجديد: الشاعر الأرجنتيني لوغونيس في كتاب «قمري عاطفي» يقول كل كلمة هي استعارة ميتة، في إشارة إلى أن الأعمال الإبداعية تعتمد على عدد قليل من الاستعارات المعروفة. إلى أي مدى تعتقد بنجاحك في الخروج من حيز الاستعارات الميتة؟ وكيف؟
الكفراوي: الشعر يمنح تلك القدرة على الخروج من حيز الاستعارات الميتة. كان في وعيي دائما أن القصة شقيقة الشعر وأنها تشبه طلقة الرصاص إما أن تصيب أو تخيب، قراءتي للشعر وصداقتي لشعراء خدموا نصي، فصار الشعر جزءًا من بناء النص الأدبي وغير متعارض معه.
الجديد: هل ثمة جهود بذلتها للتطوير من أسلوبك المميز؟ وهل تلمح آثار تطور ما عبر مجموعاتك القصصية عبر الزمن؟
الكفراوي: بالتأكيد، الكاتب المتابع والمطّلع على تجارب الآخرين لا بد أن يتطور. نجيب محفوظ كتب قصيدة شعر وملخص وجوده في «أصداء السيرة الذاتية» على سبيل المثال. الوعي بالقراءة والنتاج الإنساني يطور من شكل الكتابة، في العمل الأخير «عشرون قمرًا في حجر الغلام» خفت وطأة الشعر وجسامة اللغة، وازداد الميل نحو التجسيد والقص الذي قال عنه همنغواي «لا تحدثني عن الحزن ولكن ضعني في موقف حزن»، بالإضافة إلى البعد عن السرد الخارجي والكاتب العليم. الكتابة الآن سعي للإتقان والاستفادة ممّا يجري من حداثة الكتابة والإصرار على أن ما تكتبه يشير نحوك ويدل عليك.
الكتابة المبكرة
الجديد: كيف تنظر إلى أعمالك القصصية الأولى؟ بعض الكتاب حين يعاودون قراءة أعمالهم ينتابهم السخط تجاهها بل يلجأ البعض إلى إعادة كتابتها وفق منظورهم الحديث وتطور أسلوبهم. كيف تنظر إلى المسألة؟
الكفراوي: أنا راض عن مجموعاتي الأولى تمامًا، أرى أن حظها من التحقق أكثر من القصص الجديدة، قد أكون ندمت لاحقًا على عنوان واحدة من مجموعاتي هي «مدينة الموت الجميل» لكنني بصف عامة راض عن القصص، ولم أفكر أبدًا في إعادة كتابتها. تلك الأعمال تمثل لحظات نادرة من الشباب والفطرة، يوسف إدريس مثلًا إلى أن مات ظلت أفضل مجموعاته «أرخص ليالي» التي كتبها في أربعينات القرن العشرين.
ما يفسد العمل الفني هو الأفكار؛ فالأفكار شقيقة الأيديولوجيا، والعمل الأدبي يقوم على التخييل وليس الوقائع، على ما تتخيله المخيلة
الكتابة الخالصة
الجديد: تتفق مع قول إدوار الخراط بأن الكتابة مواجهة لأهوال الحياة وأهوال الموت.. من أين تستمد الكتابة قوتها لتقوم بهذه المواجهة؟ وهل تؤمن بأدوار الكتابة في حراسة القيم وتعزيز الوعي؟
الكفراوي: تستمد الكتابة تلك القوة من صدقها، نتعب على تجسيد الناس حتى يستمدّوا حقيقتهم ويعيشوا طويلا على الورق، الكتابة الحقيقية صادقة كي تستمر الشخصيات والأحداث والزمان والمكان طويلا على الورق وتقرأها الأجيال بشغف.
أنا من جيل لم أنتظر شيئًا من الكتابة. كل الكُتّاب هجروا إلى الرواية وأنا قابع في تلك المنطقة مع قليلين منذ أن أطلق جابر عصفور صيحة «زمن الرواية». في السنوات القليلة القادمة أتمنّى أن أكتب كتابة خالصة ليس هدفها أيّ شيء سوى نص إنساني، كان إبراهيم أصلان يقول «دعونا لا نحدث الناس عن الحرية والعدل ولكن نساعدهم أن يعيشوا في حرية وعدل». الكتابة الخالصة لمعنى نبيل هو ما أتمنى أن أختم حياتي به.
الجديد: عمدت في مجموعة «مدينة الموت الجميل» إلى استهلالات لقصصك كبيت شعري أو مقولة لأحد الكتاب. هل هي خلاصة توصّلت لها بكتابة القصة؟ أم على العكس هي مفاتيح بنيت على أساسها قصصك؟
الكفراوي: في «مدينة الموت الجميل» مع كل قصة كتبت استهلالًا يعبّر عن روح النص في مقولة هي عتبة دخول للقصة أو انتباهة مثل «إنني أحبك يا سيد الماضي» في قصة عن الماضي، لتدرك وأنت تلج من الباب إلى أين أنت ذاهب، وجاء ذلك في إطار تجديد الشكل، فستينات القرن الماضي كانت زمن التجديد في الكتابة. هذا الجيل مصّر الأدب العربي وخلق على مستوى الشكل والمضمون أدبًا يستفيد من التجارب للمبدعين الكبار في كتابة أدب مصري.
دهشة الصبي
الجديد: وماذا عن عملك الجديد الذي لا زال قيد النشر «عشرون قمرًا في حجر الغلام»؟
الكفراوي: «عشرون قمرًا في حجر الغلام» مجموعة من النصًوص عن صبيّ واحد، أكتب فيه منذ عدة سنوات، جزء منه عن الصبي في القرية وانتقاله إلى المدينة وأهوال الحياة في القرية والمدينة. من الممكن اعتبارها نصوصا أو قصصا أو رواية.. هي عن صبيّ صغير يجابه الحياة في القرية والمدينة. وأراهن على هذه المجموعة لأنها قد تكون الأخيرة، وفيها تحضر دهشة الصبي وبدايات تعرّفه على الأشياء في القرية ثم عالم المدينة والعلاقات الجنسية وجارته اليهودية والعلاقة بينهما.
الغموض عندي يأتي من خلال نص كثيف بشعريّته والتباس شخصياته وغياب معناه، الغموض لا يجب أن يكون سعيًا لإحداث الغموض ولكنّه سعي لطرح أسئلة
الزعيم اللعنة
الجديد: العديد من المتغيرات السياسية والاجتماعية جابهتها البلاد في السنوات الأخيرة. كيف أثرت تلك المتغيرات على الثقافة المصرية؟
الكفراوي: ثقافة الحقبة الليبرالية التي ظلت فاعلة حتى ستينات القرن الماضي كانت قائمة على مساءلة الواقع والتنوير ووجود المجتمع المدني والأقليات، كانت مصر رائدة وتقدم ثقافة تمهّد الطريق أمام الإبداع، لم يكن النقد تابعًا للنص، لكنه كان سابقًا له، قدم طه حسين في كتابه «الكاتب المصري» تعريفًا بكافكا وسارتر وكامي وترجم أعمالهم، ووضع مانيفستو للثقافة المصرية في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، كان ذلك هو الوضع قبل أن يُستبدل ذلك كله بالزعيم اللعنة جمال عبدالناصر الذي ضرب الأحزاب وحرية الرأي والجمعيات واستمر على نهجه الباقون، وجعل من نفسه شرطًا لقيام ثقافة الزعيم، وشعاراته هي ثقافة الناس. عشنا الهجرة والإسلام السياسي وغياب الديمقراطية والأحزاب وظهرت المعارك الصغيرة وبعد أن كانت مصر المركز الوحيد للثقافة تساندها بعض الدول الأخرى مثل الشام والعراق، تعددت المراكز في المغرب والشام والخليج، وقلّ الدور المصري وغرقنا في المعارك الصغيرة وغياب العمالقة، وصارت الثقافة تعيش في الماضي وتعاني معاناة حقيقية من غياب المشروع؛ فلا أحد يفكر في أجيال الكتاب والمبدعين وتعزيز دورهم أو إحياء المسرح والسينما. المشروع الذي كان موجودًا في أيام التنوير في عصر محمد علي، جاءت هزيمة يونيو 1967 فقضت على الثقافة، والمخرج لن يكون سوى بالتعليم وحوارات عن الأزمة ومشروع ثقافي ينهض بالبلد وحركة نقدية تقدم الجوهري وتمارس دورها في الكشف والغربلة.
تجربة السجن
الجديد: عشت تجربة الاعتقال في عهد الرئيس عبدالناصر. ما تأثير تلك التجربة عليك؟
الكفراوي: في مجلة «سنابل» التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر نُشرت لي قصة بعنوان «المهرة» تحكي عن مهرة احتكرها الأخ الكبير لنفسه ويمنع أخاه الصغير من امتطائها، وعندما غاب أخاه الكبير ركبها الصغير وخرج بها أمام الناس لكن عندما عاد الأخ وعرف ما حدث قام بجلد أخيه الصغير، هذه القصة فُهمت على أنها تتحدث عن الرئيس عبدالناصر، وقادوني إلى سجن القلعة الذي أمضيت فيه ستة أشهر بتهمة الشيوعية حينًا وانتمائي لجماعة الإخوان حينًا آخر، بعد خروجي من السجن رويت ما حدث لنجيب محفوظ. بعد شهور صدرت روايته «الكرنك» وعرفت أن قصة بطل الرواية إسماعيل الشيخ مستلهمة من قصتي في السجن. كما أنني كتبت قصة بعنوان «الجمعة اليتيمة» تناولت فيها حلم سجين بطلوع الشمس، وكتبت عن الأحلام المحبطة والمهمشين والمظلومين.
جائزة للقصة
الجديد: بعد سنوات من الإقامة في صومعة القصة القصيرة حصلت على جائزة الدولة التقديرية. ما أهمية الجائزة بالنسبة إليك؟ وهل تعتقد بأن هناك من تجاوزته هذه الجائزة ويستحقها؟
الكفراوي: أكتب القصة منذ ستينات القرن العشرين مع جيل حصل على هذه الجائزة في وقت باكر بينما لم يلتفت لي أحد خاصة بعد هيمنة فكرة «زمن الرواية» إلى أن جاءت هذه الجائزة متأخرًا لتكون بمثابة امتنان لرجل قضى حياته كلها في الكتابة القصصية، تلك الجائزة مهمة لأنها لا تمثل مؤسسة كما أنها تتسم بالنزاهة والمصداقية، ولها دور كبير في لفت انتباه الإعلام للكاتب.
وأرى أن هناك الكثير من الكتاب المخلصين يستحقون الفوز بهذه الجائزة لأن ما كتبوه يستحق التقدير حقًا، ومنهم رفقاء جيلي محمد المنسي قنديل ومحمود الورداني وجار النبي الحلو ومحمد المخزنجي ورؤوف مسعد، فضلًا عن شعراء مثل محمد فريد أبو سعدة وعبدالمنعم رمضان ومحمد سليمان وإبراهيم داود وغيرهم.
أجري الحوار في القاهرة