ثقافة بلا علم علم بلا ثقافة

كل هذه المعاني لها صلة بمفهوم الثقافة التي تشمل العلوم والفنون والآداب والمعارف والعادات والتقاليد والقيم والمبادئ، ولكنها ليست تعريفًا للثقافة، وهي تربط بين التعليم والتثقيف ولا تفرق بينهما، وجاء البعض ليفرّق بين التعليم والتثقيف، وشاع عند العرب في عصرنا تفريق بين المتعلم والمثقف، حتى قال أحدهم: إن المثقف قد يكون أميًا لا يقرأ ولا يكتب.. وهذه إحدى عجائب هذا الزمان..!، شعوبنا العربية التي تأكل حياتها وقدراتها الأمية الطاغية بجميع أنواعها، يدعو بعض الناس من أبنائها إلى ثقافة بلا علم أو تعليم، رغم أنه أصبح لدينا وزارات اسمها وزارات الثقافة، مثل فرنسا.
ولم يدرك الذين أقاموا وزارات الثقافة في بلادنا أن هذه المرحلة سابقة لأوانها، وقد غلبنا المظهر على الجوهر، عندما كان أندريه مالرو وزيرًا لثقافة فرنسا بدأ بغسل واجهات البيوت في باريس بالماء لتبدو ناصعة بيضاء، ففي أغلب شوارعنا وحوارينا لا يوجد بيت واحد له واجهة بيضاء، لم ندرك أن الثقافة هي القمة العالية الرفيعة الجميلة المحققة للرقيّ والتحضر والوعي التي نصل إليها بعد أن يتحقق للناس تعليمًا محترمًا راقيًا، والذي قال عنه طه حسين صاحب كتاب «أزمة الثقافة في مصر» إنه للناس مثل الماء والهواء.
والشيء العجيب هو أن بعض الفنانين في بلادنا يطالبون بوضع اللوحات الفنية والتماثيل، في المباني العامة الكبرى لتزيين القاهرة مثلاً، وقد استجابت الدولة لهم، ولم يدركوا أن مدينة القاهرة المكتظة بأكثر من عشرة ملايين نسمة تحتاج إلى كنس ورش ونظافة حواريها وأزقتها وشوارعها وميادينها – كما قال نابليون بونابرت ـ. القاهرة في أمس الحاجة إلى أن تصبح مكنوسة ومرشوشة قبل أن نفكر في تزويقها بالتماثيل الجميلة التي نضعها في حديقة ورد يسرّ الناظرين، وبالطبع لا يصح أن نضعها وسط مزابل يسكنها أطفال الشوارع، واللوحة الفنية توضع على جدار لا تمتد إليه السكاكين والمطاوي، ويكتب عليه كلمات مسيئة بذيئة بأسلوب خادش للحياء.
لا تغضب من كلامي ولا تزايد علي حين أحدثك هذا الحديث، فقد عشت طفولتي وشبابي وكهولتي وشيخوختي التي أعيشها الآن في القاهرة، وكم كتبت عنها، فأنا أكثر عشقًا وحبًا لقاهرتي الصامدة، وأشد وجدًا بها، وعليه ليست المشكلة يا سادة أن تكون في بلادنا وزارات للثقافة، ولكن المشكلة أن تكون عندنا ثقافة ولدينا وعي وإدراك وفهم وتحضر، فقصة الثقافة عندنا لها حكاية أرجو أن يتسع صدرك أيها القارئ الكريم لتسمعها.
كان أحمد أمين هو الذي دعا إلى إنشاء الجامعة الشعبية، من أجل تعليم الناس وتثقيفهم، وأحمد أمين أستاذ جامعي وكان عميدًا لكلية الآداب بجامعة القاهرة، ولكنه رأى أن الارتقاء بجماهير الأمة لا نستطيع الوصول إليه عبر باب الجامعة، وعليه يحتاج الناس إلى إنشاء جامعة شعبية تعلمهم وتثقفهم وتوعيهم، وكان أول مدير لهذه الجامعة، في الوقت الذي كان فيه صاحب مفهوم حضاري عصري لمعنى الثقافة.
طالب أحمد أمين بأن نعلّم الناس العلوم الميسرة، والفنون البسيطة، والصناعات الفنية.. وبذلك نستطيع جعل رجل الشارع الذي يقرأ ويكتب رجلاً مثقفًا، ولم يكن عند أحمد أمين مفهوم واضح للثقافة، لأن موجة العصر أيام أحمد أمين كانت قد بدأت في الحديث عن الثقافة والرجل المثقف في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبدأت في أوروبا حركات فكرية تقودها طائفة من الناس أطلقوا على أنفسهم لقب «الخلصاء»، وسميناهم نحن في اللغة العربية باسم المثقفين.
الترجمة خاطئة، والمفهوم خاطئ، وليس لفئة الخلصاء صلة بمفاهيم الثقافة أو التعليم، ولكنهم فئة تدافع عن العقائد والأفكار والأيديولوجيات عن طريق الفكر، وهم صفوة المجتمعات المتصارعة فكريًا بعد الحرب العظمى الثانية، وكان بعضهم من الماركسيين، وآخرون اشتراكيون، وفئة ثالثة من دعاة الرأسمالية الحرة، وهم يغلفون مذاهبهم السياسية بغلاف الفكر والفن، كما أنهم كما يدل عليه اسمهم الفئة المختارة في مجتمعاتهم.
ولكن أحمد أمين فهم الثقافة فهمًا عربيًا، وأدرك احتياجات بلادنا العربية في عصره إدراكًا واعيًا، فأقام الجامعة الشعبية التي تعتبر أساسًا لهيئة قصور الثقافة أو الثقافة الجماهيرية في أيامنا، وكان الرجل بحق صاحب تفكير عملي واقعي، حتى أنه جعل صناعة حياكة الثياب وفنون التطريز وأشغال الإبرة للفتيات من مواد الدراسة في جامعته الشعبية، وكانوا يعلمون في هذه الجامعة فنون الرسم والموسيقى والمسرح وغيرها من الفنون الجميلة، إلى جانب بعض المهن البسيطة مثل النجارة والسباكة والكهرباء.
ويبدو لي اليوم أن هذا الأستاذ كان سابقًا لعصره، لأنه بفكر العالم الأكاديمي المستنير استطاع تحديد المفاهيم الثقافية والشعبية، وكان قد بدأ في كتابة دائرة المعارف الشعبية التي تعتبر من الدراسات الطليعية في دراسة الأدب الشعبي المصري في عصرنا، وهي مرجع أصيل ينهل منه كل من كتب في مجال الأدب الشعبي أو الفلكلور بوجه عام.
ولكن مفهوم أحمد أمين للثقافة كان يرتبط دائمًا بمفهوم التعليم، ويبدو أنه كان يعتبر الثقافة أو تثقيف الناس وتوعيتهم مرحلة موازية لمرحلة التعليم، ولذلك فإنه عندما عقد المؤتمر الثقافي الأول في لبنان خلال سبتمبر 1947، كان أحمد أمين مديرًا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، وهو الذي دعا للمؤتمر فأضفى على هذا المؤتمر فكرته، فكانت المحاضرات تدور حول التعليم.
الثقافة عندنا أصبحت لعبة في أيدي بعض الذين لم يتعلموا، وهذا هو الخطر الأكبر، لقد استخدمت الثقافة عندنا في تمزيق شعوبنا، ولم تكن ثقافة أصيلة، ونحن نعاني اليوم من سيطرة بعض أفراد هذه الفئة غير المتعلّمة على مصير أفكارنا
كانت خلاصة التفكير في معنى الثقافة في فعاليات هذا المؤتمر الثقافي الأول للعرب، هو ما قاله الأستاذ واصف البارودي وهو من أعلام الفكر اللبناني، حيث أكد على أن الثقافة ليست كما يعتقد الكثيرون لتكوين الصفوة ولتكوين مجتمع لائق بها سلبًا وإيجابًا، أي يعرف كيف يتّجه معها ما دامت على حق، وكيف يوجهها أو يستغنى عنها متى انحرفت عن المسير، فهي تكون مجتمعًا يعرف كيف يعيش، ولا تعترف بأيّ مجتمع يصنع من البشر أوثانًا وآلهة يعبدها من دون الله.
وهكذا ربط هذا المثقف المتميز في وقت باكر بين الثقافة والأيديولوجيا، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي تلك الأثناء من تاريخ الفكر العربي المعاصر، ألّف طه حسين كتابه عن «أزمة الثقافة في مصر» وحاول ربط مصر ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وهاجمه كثيرون (وما زالوا يهاجمونه حتى يومنا هذا)، وقالوا «إن ثقافة مصر ترتبط بثقافة العرب، وليس مع ثقافة البحر المتوسط»، هذه التيارات لم تستطع وضع مفهوم للثقافة.
نعود لنسأل: ما هي الثقافة؟ هل هي تكوين الصفوة المختارة في المجتمع؟ هل هي توصيل أنواع معينة من المعارف والمهارات والفنون إلى جماهير الشعب؟ في المؤتمر الثقافي العربي الثاني الذي عقد في مدينة الإسكندرية من 22 أغسطس إلى 3 سبتمبر 1950، استمرّ أحمد أمين في دعوته للتعليم، وقال كلمته المشهورة «كل الأقطار العربية تتذبذب بين مبدأين مشهورين، وهما التعليم للجميع، وفتح أبواب الجامعات والمدارس العليا على مصاريعها، أو تقييد ذلك بنخبة من أبناء الأغنياء ونوابغ الفقراء..».
أقول لكم كانت الثقافة في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن العشرين تلتقي دائمًا مع التعليم، وكانت تعتبر المثقف من الصفوة المختارة في المجتمع، على طريقة المجتمعات الأوروبية والأميركية المتقدمة، ثم انفصلت الثقافة عن التعليم وأنشأنا وزارات للثقافة في مجتمعات غير متعلمة، ودخل فيها كلّ من هب ودب من أرزقية زمننا الرديء، ولم ندرك أن فرنسا مثلاً عندها وزارة للثقافة في مجتمع وصل إلى قمة التعليم والتحضر، حتى أصبح سائق التاكسي في باريس يحمل شهادة الليسانس في الحقوق ويعتبر غير مثقف.
إن المثقف الأوروبي أو الأميركي أعلى درجة من المتعلم، والمثقف العربي ـ كما يرى بعض الناس ـ يجوز أن يكون أميّا لا يقرأ ولا يكتب، وكانت كارثة الكوارث في بلادنا أن يتولّى بعض مناصب وزارات الثقافة أنصاف المتعلمين، وروّجوا لأنفسهم وأفكارهم المتخلفة التي ترد مجتمعاتنا إلى الوراء، ولا تصنع له التقدم، مع أن الثقافة هي الماسة اللامعة البراقة فوق تيجان العلم والمعرفة.
لم توجد ثقافة في الدنيا بلا علم، ولم يوجد في الدنيا علم بلا تعليم محترم، وهي قضية بديهية لا تحتاج إلى ذكاء أو مهارة ولكنّ الثقافة عندنا أصبحت لعبة في أيدي بعض الذين لم يتعلموا، وهذا هو الخطر الأكبر، لقد استخدمت الثقافة عندنا في تمزيق شعوبنا، ولم تكن ثقافة أصيلة، ونحن نعاني اليوم من سيطرة بعض أفراد هذه الفئة غير المتعلّمة على مصير أفكارنا .
ونعود لنسأل لأن المعرفة دون أسئلة إبهام وضلال: هل التعليم في بلادنا المحروسة من أجل مواطن قادر على إيجاد ذاته والتناغم مع قدراته.. مؤهل للشراكة في مجتمعه والإسهام في بناء دولة ذات متعة وهيبة..؟ أم من أجل إلقاء المجتمع كله في دائرة جهنمية من الادعاء والنفاق العام، وخلق مسوخ تحمل أوراقًا تشهد لها بالتعليم لا أكثر؟
أقول لكم إن السيرك القومي المصري مثلاً، كان سيرك عائلة الحلو، وعائلة عاكف، وأولاد عمار المغاربة، ثم أصبح في أيامنا سيرك موسكو وبكين، إن الذين لا يعرفون التاريخ لا يدركون أننا كنا أصحاب السيرك قبل أن تعرفه الدنيا، وكانت مصر هي التي صنعت السيرك قبل أن يعرفه الناس، القرد كان يلاعبه القرداتي، ولا زال يلاعبه، والفيل كان يمشي على خشبة فوق بركة الفيل في حي السيدة زينب، ويتفرج عليه الناس أيام المماليك، والحصان كان يرقص، ولا يزال للحصان دوره المذكور في الفن الشعبي، والحمار كان له سباق عجيب في منطقة المحمدي عند منشية البكري شرق القاهرة، وكانت للحمير أحوال في السباق، من اللعب بالعصا، وعبور الموانع، وغير ذلك من ألعاب، وكان عندنا من يلعبون على الحبال فوق بركة الأزبكية وقد شاهدهم نابليون بونابرت في أحد الاحتفالات.
والكلاب كانت لها ألعاب، بل إن سلاطين المماليك في مصر كانوا يستوردون الكلاب من أرجاء الدنيا، لتلعب أمامهم ألعابًا عجيبة، وكان ملوك الدنيا يقدّمون إليها وإلى مدربيها الهدايا القيمة، كما كان بعض الفنانين في القاهرة يلعبون لعبة البغبغان، وهي إحدى ألعاب السيرك، وكانت في القاهرة فئة من هؤلاء الفنانين اسمهم الببغاوية، وهم الذين يلعبون مع الببغاء، ويكلمونه بمختلف اللغات، وقد أخذهم السلطان العثماني سليم الأول معه إلى القسطنطينية بعد غزو مصر.
وهناك أيضًا من كانوا يلعبون بالكباش والماعز وغيرها من الحيوانات، فكان في مصر نطاح الكباش وله مسابقات وهوايات، وكان أيضًا لعب الديوك وصراعها في المقاهي الشعبية، وهذا لون من تدريب الحيوان والطير على ألعاب تختلف أشكالها وعصورها.. هذا هو أساس السيرك العالمي، وهذا لون من الثقافة، إنني لا أريد الافتراء على ثقافة الغرب، ولكنني أريد أن أقول الحقيقة، لأنّني لم أقرأ تاريخًا للسيرك العالمي، وقد يكون هناك كتاب في هذا التاريخ لم أقرأه، وما أعلمه هو ما أكتبه لك، وقد علمت ممّا قرأت أن الملوك والسلاطين في مصر كانوا يطلبون الحيوانات المفترسة، والحيوانات والطيور المستأنسة، وهذا هو السيرك الذي يذهب أولادنا إلى الغرب والشرق ليحصلوا على درجة الدكتوراه فيه.
قضية أخرى أخطر وأعظم، هي قضية الكتاب، فصلوا الكتاب عن العلم والتعليم، وجعلوه قضية ثقافية لمن لا يقرؤون ولا يكتبون، عجائب وغرائب، كيف يكون الكتاب من اهتمامات المثقفين قبل أن يكون من اهتمامات المتعلمين؟ إن المرحلة الأولى هي تقديم الكتاب للمتعلمين حتى نثقفهم ونوعّيهم ونحضرهم، وقد كانت وزارة المعارف العمومية تقوم بهذا الدور في بدايات عصر النهضة، ثم أصبح الكتاب من اختصاصات وزارة الثقافة، وهي التي تهتم بالمثقفين من غير القارئين الكاتبين، وتقول إن الثقافة لا حاجة لها بقراءة أو كتابة.. لدرجة أنهم جعلوا مطربًا شعبيًا يدعى متقال قناوي (رحمه الله) من أعظم المثقفين! القضية خطيرة، أخطر مما نتصور، أنا لا أهاجم الفن الشعبي العظيم أو فنانيه، ولكني لا أقول إنه يمثل ثقافة بلادنا، لأن المواهب يمنحها المولى جل علاه للموهوبين، ولكن الثقافة شيء آخر يرتبط بالعلم والمعرفة والدراسة، كان الفنان الكوميدي علي الكسار من أعلام المسرح الحديث أميّا لا يقرأ ولا يكتب إلا بالكاد، ولكنه قدم لنا أعظم الأدوار على خشبة المسرح، ودخل في مباراة مسرحية رائعة مع نجيب الريحاني، وقد اكتسب الكسار ثقافة رفيعة إلى جانب مواهبه.
نريد أن نفرق بين الموهبة والثقافة، هذه هي القضية التي فرضت نفسها على الفكر العربي الحديث، في غيبة العلم والتعليم والثقافة، وجعلت لبلادنا وزارات للثقافة بلا علم أو تعليم، ولم ينبغ كبار المثقفين العرب خلال الجيل الماضي في مختلف المجالات إلا بالعلم والتعليم والمعرفة، القضية أخطر ممّا نتصوّر، لأنها قضية التقدم أو التخلف، وليست قضية وجود وزارات للثقافة أو إلغاء هذه الوزارات، القضية هي أن ثقافة بلا علم لا تساوي شيئًا، وأن علما بلا ثقافة لا يساوي شيئًا، قضية خطيرة هي ميزان التقدم الذي نريده، ومن كانت في يده كفتان للميزان وهما العلم والثقافة يستطيع الوصول إلى الأفضل والأحسن، ويستطيع أن يدوس بقدميه على جميع أنواع التخلف.
كاتب من مصر