وقد حرصت المجتمعات المعاصرة على تقديم برنامج تربوي متكامل يسعى إلى المحافظة على الإرث الاجتماعي للإنسان؛ حتى لا يبدو الإنسان منزوع الجذور؛ فربطت هذه المجتمعات في ثقافتها بين عناصر الثقافة المحليّة من قيم دينيّة وعادات وتقاليد وأعراف مجتمعيّة أصيلة وبين ما هو وافد من ثقافات مغايرة يفرضها مناخ العولمة الذي جعل من العالم الكبير مجرد قرية صغيرة؛ فالطفل الذي لم يبلغ الحُلم بعد يستطيع من خلال هاتفه الشخصي الجوال أن يجوب العالم كله، وأن يطَّلع على جُلّ ثقافات العالم وأن يتصل بأشخاص من قارات العالم المختلفة بل ويعقد صلات التعارف والصداقة وغيرها بسهولة ويسر.
ومن ثم كان من الضروري مراعاة إكساب النشء الشخصية الاجتماعية القادرة على التكيف مع المواقف المتجددة والمتغيرة، وتنمية مهاراتهم للتغلب على ما يواجههم ويحيط بهم من تحديات، وربطهم بمصادر المعرفة المختلفة، وتنمية قدراتهم كي يُحسن استخدامها الاستخدام الأمثل. وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال في غاية الأهمية ألا وهو: من يتحكم بعقول النشء الجديد ويشكل ثقافتهم في عالمنا العربي؟ وللإجابة على هذا السؤال المحوري سنجد أن هناك ثوابت كثيرة تغيرت في المجتمع العربي وإن كان أولها وأهمها على الإطلاق هي الأسرة التي لم تعد المؤسسة الأولى للتنشئة الاجتماعيّة؛ التي كان يقضي فيها الفرد الجزء الأكبر من حياته، ومن خلالها يتم انتقال ثقافة النشء من الوالدين إلى الأبناء؛ حيث يقوم الأطفال بالملاحظة والتقليد والمشاركة، ويقوم الآباء بتعديل أيّ خلل سلوكي يكون قد اكتسبه الطفل من بيئة مغايرة سواء من الشارع أو من أصدقاء المدرسة أو من وسائل الإعلام أو غيرها من المصادر المتاحة.
لكن ما حدث أن انشغل الوالدان عن الأبناء سواء باللهث وراء لقمة العيش ومواجهة الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تعاني منها معظم بلداننا العربيّة في هذه الآونة أو نتيجة للأوضاع السياسيّة السيئة والحروب الأهلية التي تعاني منها منطقتنا العربية هنا أو هناك. كما أن المدرسة وهي المؤسسة الثانية للتنشئة الاجتماعيّة أصابها الكثير من العطب والخلل؛ حيث غاب الجانب التربوي بصورة كبيرة وتحوّلت إلى مؤسسة كل اهتماماتها أن تقدّم للطالب إجابة عن سؤال: كيف تجتاز الامتحان؟ فراحت تشحن ذهنه بالحفظ والتلقين بالكثير من المعلومات والإحصاءات التي يُفرِغُها في ورقة الامتحان النهائي وسرعان ما ينساها.
كما أنّ دور العبادة أُفرِغت إلى حدٍ بعيدٍ من جانبها التربوي الصحيح، فأخذت بعض الكنائس تُنمّي في ثقافة شبيبتها كراهية الآخر الذي يقف لها بالمرصاد من المسلمين، وفي الناحية الأخرى شحنت بعض الجماعات الإسلاميّة ذهن شبيبتها بأن الآخر المخالف في العقيدة، أو الذي لا ينتمي إلى الطائفة الدينيّة، هو كافر تجب معاداته، وأن هذا من صميم العقيدة وأنّ موالاة هؤلاء المخالفين يُخرج صاحبه من نطاق العقيدة الصحيحة. هذا فضلاً عن خلوّ الفئة الأكبر من المساجد من الدروس التربوية وخاصة طيلة العقود الثلاثة الماضية من خلال محاولة الحكومات التصدي للجماعات المتطرفة.
بقيت إذن، وسائل الإعلام المختلفة والمتمثلة في المحطات التلفزيونيّة والإذاعيّة الحكوميّة منها والخاصة أو من خلال السوشيال ميديا كالفيسبوك وتويتر والانستغرام والواتس آب والماسنجر وغيرها. فالأولى تخضع لأيديولوجيات محددة ترى الحقيقة من منظورها الخاص؛ فإذا كانت محطات تلفزيونية أو إذاعيّة حكوميّة فإنّ الحقيقة تكون فيها مطابقة لما تراه الحكومة، وإن كانت محطات خاصة فالحق يقف وراء مصالح أصحاب هذه القنوات ورغبتها في الإثارة الإعلامية لأجل جني الأموال الطائلة من الإعلانات التجارية التي تصب في مصلحة القنوات والمحطات الأكثر مشاهدة أو استماعاً. إذن فالحقيقة غابت وراء المصالح الأيديولوجيّة والماديّة. أما في السوشيال ميديا فتلك وسائل غير موثقة ومرتع خصب للإشاعات حيث يبقى تقصى الحقيقة فيها صعبا للغاية.
ومن هنا نضع أيدينا على أسباب جُرح الأمة العربيّة الدامي الذي أفقدها الوسائل الصحيحة للتربية والتنشئة الاجتماعيّة؛ فمن والدين منهمكين في السعي وراء لقمة العيش إلى مدرسة تنازل فيها المعلمون عن الجانب التربوي وانشغلوا بالشحن والتفريغ لمعلومات يتم نسيانها عقب اجتياز الامتحان النهائي، إلى دُور عبادة اقتصرت في الغالب الأعم على أداء الصلوات، أو تزكية الروح العدائية والفتنة الطائفية بين ديانات أو مذاهب القطر الواحد إلى إعلام مؤدلج وسوشيال ميديا غير مسؤولة تمتلئ بالشائعات أكثر مما تمتلئ بالحقائق. ومن ثم كان لزاما أن تسود حالة من الضبابية والاغتراب والتصارع كنتيجة لازمة عن مقدمات محددة كما هو الحال في اللزوم المنطقي في القياس الأرسطي.
في ظل غياب تام للفكر النقدي أو تنشيط ملكة النقد لدى هؤلاء التلاميذ الذين يتم غسل أدمغتهم وحشوها بأفكار تساعد على التبعيّة والانصياع والتقليد
وفي الحقيقة يحيلنا الواقع التعليمي في بلادنا إلى واقع مأساوي يبلغ حداً كبيراً من الغرابة التي تدعو للعجب؛ حيث أنّ كل دولة من دول العالم التي تبتغي أن تكون موجودة في صدارة الأمم تحرص على وضع فلسفة عامة محددة للتعليم، وفي بلادنا تسود اللافلسفة؛ فتغيب الرؤية والأهداف العامة التي تسعى الأمة لغرس مجموع قيمها في النشء. فتتعدّد أنواع التعليم ومناهجه وأهدافه إلى حد التعارض، فيوجد التعليم الديني (الأزهري في مصر) على سبيل المثال بجانب التعليم المدني المتمثل في المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم التي تخضع هي الأخرى لاستراتيجيات تعليميّة مختلفة، فهناك المدارس الحكوميّة والخاصة والأميريّة واللغات والتجريبيّة ومدارس الدبلومة الأميركيّة، وكل منها يضع مناهج تعليمية مختلفة تجعل النشء في المجتمع الواحد يعاني حالة من الاغتراب الثقافي والمعرفي فكلّ منهم لديه هويّة ثقافيّة مختلفة ناتجة عن نوع التعليم الذي تلقاه.
وبناء على ذلك فقد يسيطر على حقل التعليم المعلمون الذين يقومون بالعمليّة التعليميّة؛ فنجد في المناطق التي ينشط فيها معلمو الجماعات الدينيّة أنّ معظم التلاميذ يتشبعون بالفكر الذي يبثه فيهم هؤلاء المعلمون، فيتم شحن عقل التلميذ بالفكر الذي يمتلك الحقيقة المطلقة والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي لا يقبل المناقشة أو وجهات النظر المتعارضة، في ظل غياب تام للفكر النقدي أو تنشيط ملكة النقد لدى هؤلاء التلاميذ الذين يتم غسل أدمغتهم وحشوها بأفكار تساعد على التبعيّة والانصياع والتقليد من قَبيل أنَّ الجدال ليس من صفات المسلم، فلا يصح له ولا يحق أن يجادل أو يناقش بل ينصت ويُسلِّم بما يسمع من معلميه تسليماً تاماً.
كما يتم من خلال هذا الشحن تقديس رموز هذه الجماعة أو تلك، وإحاطة هؤلاء الرموز بهالات شبه أسطورية سواء في مولدهم أو في مواقفهم البطوليّة من أجل الدين وفي سبيل الدعوة ضد بطش الحكام الذين نبذوا دين الله وراء ظهورهم. وتصل هذه السيطرة على عقول هؤلاء التلاميذ في المدارس المملوكة لهذه الجماعات إلى أعلى معدلاتها حيث تصبح مرتعاً خصباً للتطبيق العملي لفكر هذه الجماعة؛ فأسماء الصحابة ورموز الجماعة هي أسماء الفصول والغرف الدراسية، ويُستبدَل النشيد الوطني بنشيد إسلامي، وتتحول تحية الوطن إلى تكبير وتحميد وتهليل.
على العكس تماماً من مدارس الأحياء الراقية ومدارس اللغات والمدارس الدوليّة التي تكثر فيها الأنشطة المدرسيّة وتعليم الغناء والموسيقى ووجود المسرح المدرسي، ويكاد ينعدم فيها التعليم الديني، والثانية لا تقل خطورة عن الأولى حيث يتخرج فيها التلميذ وهو لا يدري ما الصحيح من الخطأ من أمور دينه فيصبح عرضة وفريسة سهلة للجماعات المتطرفة من الجانبين سواء الدينيّة أو اللادينيّة.
ولا شك أنَّ ذلك كله له علاقة وثيقة بانتشار ثقافة العنف والتطرف ورفض قيم العصر؛ حيث يعدّ التعليم من أهم مصادر تشكيل الوعي الاجتماعي، فالمؤسسات التعليمية تساعد الأفراد على إدراك واقعهم ومشكلات مجتمعاتهم، من خلال ما تقدمه من معارف ومعلومات، وما تقوم به من أنشطة وممارسات.
ولمّا كانت المؤسسات التعليمية في بلادنا بلا فلسفة محددة يضعها القائمون على العمليّة التعليميّة بحيث تحقق مجموعة من الأهداف المرجوّة التي تجعل هذا النشء يتشبع بمجموعة من القيم التي تعمل على تماسك المجتمع وتحافظ على هويته وتضمن أمنه واستقراره، كان العكس هو النتاج الواقعي لعدم وجود مثل هذه الفلسفة، الأمر الذي أدى إلى حالة من الانفصال بين النشء والبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها.
وشعور الكثير من هؤلاء النشء مع بدايات تعليمهم الجامعي أو فور تخرجهم بحالة من الاغتراب المجتمعي تتمثل في شعور الفرد بالعجز تجاه العديد من المشكلات التي تواجهه، فيشعر بأنّه مجرد ترس صغير في آلة المجتمع الكبير، وأنّه لا إرادة له ولا حريّة ولا اختيار ولا استطاعة ولا قدرة لديه للتأثير في مجريات الأمور من حوله، وهنا تغلب عليه حالة من عدم الثقة بالنفس والتسليم بالأمر الواقع والسلبيّة واللامبالاة.
وربما تزداد معه حالة الاغتراب هذه عندما يتعرض لمواقف أكثر حسماً وتأثيراً في حياته الشخصيّة كأن يفقد الثقة في المعايير التي تحكم المجتمع؛ إذ يُفضَّل عليه خريج أقلّ منه في الكفاءة في الحصول على وظيفة معينة وبدون وجه حق عن طريق الواسطة أو المحسوبيّة أو الرشوة، أو أن يفقد الثقة في جدوى الاختبارات التي تُجرى بصورة شكليّة ونتائجها معروفة سلفاً. فكل ذلك يجعله يرفض قواعد السلوك والأهداف الاجتماعيّة التي يدين بها معظم أعضاء المجتمع ويشعر بأن ثقافته مغايرة لثقافة الآخرين ومنفصلة عنها، فيشعر بالوحدة والانعزال وعدم الرضا عن حياته والشعور بأن الحياة عبثيّة وسطحيّة بلا هدف يستحق أن يسعى إليه ويعيش من أجله.
أمام انسداد الآفاق السلمية أمام محاولات التغيير والتعبير وتأكيد الذات يكون الانضمام إلى الجماعات المتطرفة هو السبيل الأوحد حيث يتم تلقينهم هناك مجموعة من الأفكار الغريبة
وفي ظل هذه الأجواء التي يسودها الاغتراب الذاتي والبحث عن الذات في أجواء تسودها الضبابيّة والغموض وعدم الفهم لا يجد الشاب أمامه سوى طريقين للهرب: إما الانضمام للجماعات الدينيّة أو اللجوء إلى عالم الإدمان والمخدرات هرباً من واقع مأساوي. وقد تكون الفرق الدينيّة الصوفيّة صاحبة النصيب الأكبر من اتجاه الشباب الباحث عن الأمان والهدوء والراحة النفسية.
وهنا نصل إلى مفترق طرق في غاية الخطورة فطريق الإدمان والمخدرات هو بعينه طريق الموت، فالنهاية المأساويّة هي نهايته المحتومة ما لم يرجع عنه قبل فوات الأوان. ولا يختلف عنه كثيراً طريق الجماعات المتطرفة، وهذه الجماعات على اختلافها هي الباب الواسع الذي يجده الشباب مفتوحاً أمامهم بعد أن تسحقهم الظروف بين مطرقة غياب العدالة الاجتماعية، وسيولة القيم وعدم ثباتها، وعدم وجود معايير ثابتة للصعود الاجتماعي، وبين سندان الحاكم المستبد الذي لا يرى إلا ما يحبّ أن يراه، ويبسط يد نظامه الأمني الذي لا يعرف سوى لغة العنف واستخدام القوة في التعامل مع المعارضة التي لا يُرى فيها الانعكاس الحقيقي لأيّ نظام حكم ديمقراطي، وإنما يراها تضم مجموعة من الخونة والعملاء والمتآمرين؛ ولذلك يكون من السهل أن تُوجه إليهم تهم الخيانة العظمى أو تصفيتهم في أيّ وقت، ومن ثم يصبح حالهم أشبه بإناء يغلي بلا تنفيث.
وأمام انسداد الآفاق السلمية أمام محاولات التغيير والتعبير وتأكيد الذات يكون الانضمام إلى الجماعات المتطرفة هو السبيل الأوحد حيث يتم تلقينهم هناك مجموعة من الأفكار الغريبة تأتي على أهمها مقولة لا هي من القرآن الكريم ولا هي من السنة النبوية المطهرة، وإنما هي مقولة منسوبة إلى الإمام مالك (غير مؤكدة) تقول «إنه لن يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها» ثم تُقدَّم كمقولة مقدسة وكمنهاج رباني، فتصبح تلك المقولة إن لم تكن من كلام النبوة فعليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها!
ومن ثم تبدأ مرحلة النكوص الحضاري والعودة إلى الوراء بدلاً من النظر إلى الأمام، يتجه صوب تقديس الماضي ويتحرق شوقاً للعودة إليه في الفقه واللغة والأفكار حيث الملاذ الآمن والنبع الصافي النقي للتدين، والتطلع إلى بلوغ ما وصل إليه الأولون في العصر الذهبي للإسلام. فيتم نفي الحاضر والمستقبل لصالح الماضي البعيد، ذلك الزمن الذي ساد فيه المسلمون الأرض مشرقاً ومغرباً لا لشيء إلا لأنهم تمسكوا بدينهم حق التمسك.
فتتحول تبعا لذلك المنظومات الفقهية والممارسات العملية لهؤلاء الأسلاف إلى منظومات مقدسة يجب علينا معرفتها وتقليدها والاقتداء بها ولا يجوز نقدها أو الخروج عليها قيد أنملة. ونسي هؤلاء أن سلفنا الصالح لم يترك طريقا لبلوغ العلم النافع والمفيد في عصره إلا وسلكه، ولم يترك حضارة أمّة من تلك الحضارات التي سبقته إلا واستفاد منها. حتى في عصر النبوة نفسها ألم يستفد النبي صلى الله عليه وسلم من خبرة بلاد فارس الحربية في غزوة الأحزاب؟ واستجاب لنصح سلمان الفارسي في حفر الخندق. ألم يوص النبي صلى الله عليه وسلم بتعلم لغات الأمم الأخرى؟ فمن عرف لغة قوم أمن مكرهم بل إنّه كلَّف بعضاً من أصحابه لتعلم لغة الفرس فأتقنها ببراعة في فترة قصيرة نتيجة لبذل الجهد وإتقان العمل.
ويصبح من أكبر مظاهر النكوص الحضاري وثوق هذا الشاب بالمقدس الإلهي الذي يتم تلقينه إياه بينما يفقد الثقة في كل ما هو دنيوي ونسبي ومتغير. ويصبح التفكير الخرافي والبدائي أقرب إلى نفسه من التفكير العلمي والمنطقي؛ فيؤمن بالخوارق والكرامات ومعجزات الأولياء أكثر ما يؤمن بالعلم الوافد من حضارة الكفار الملحدين الذي يتغير كل يوم، وإن أتي بجديد فهو ما حدَّثنا عنه القرآن منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، وما هي إلا بضاعتنا ردت إلينا. كل هذا يصنع شخصيّة لا تقبل الآخر، شخصية أحادية البُعد لا ترى للحقيقة سوى وجه واحد، ولا ترى من الألوان سوى الأبيض والأسود وتعجز أن ترى ألواناً أخرى مختلفة ومتفاوتة بينهما.
شخصية يُهيّأ إليها أنها وحدها التي تمتلك الحقيقة المطلقة وأن من يخالفها على وهم وضلال وفساد عقيدة، وإنّ من لم يستجب إليها ويتبع ما تدعو إليه فلا مانع من تفسيقه وتكفيره تمهيداً لقتله وتصفيته انطلاقاً من «مَنْ رأى منكم منكرا فليغيره بيده…». ومن ثمّ فلا يوجد لديهم ذلك الحق في الاختلاف الفكري ولا الإيمان بحق التعدد في وجهات النظر.
ولذلك تُوَجِّه بوصلة هذه الجماعات الشباب الذين ينضمون إليها إلى السير إلى الوراء في مفارقة عجيبة فحواها أننا إذا أردنا التقدم إلى الأمام فما علينا إلا أن ننظر إلى الوراء! فلا يمكن تشخيص هذا إلا في ضوء تلك الأمراض المعرفية أو «البارانويا الفكرية « على حد قول زهير اليعقوبي التي هي «مرض معرفي يقوم على توحد الذات العارفة مع أطرها المرجعية معتبرة إياها الحقيقة الوحيدة، والحقيقة المطلقة الصحيحة». ومن ثم تصبح المجتمعات أمام أمرين في وجهة نظرهم إما اتّباع طريقهم المقدس في العودة إلى ما كان عليه الأولون؛ لأنه لا يصلح حالهم إلا بما صلح به أمر السابقين الأولين أو هي الحرب المقدسة بين الدين والكفر، الجاهلية والإسلام، الحق والباطل، الخير والشر، المعروف والمنكر، ذلك المنطق الثنائي الذي يتنافى مع التعددية اللانهائيّة لطبيعة البشر والموجودات والحقائق. فذلك الاختزال الممقوت في منطق (إما – أو) هو السبيل الملائم الذي يتناسب مع تفكيرهم المَرَضي في إقصاء الآخر وإرهابه وقتله لو استدعى الأمر. وذلك المنطق هو دائما مسعى الراديكاليين والدوغماطيقيين والفاشيين والاستبداديين وسائر النزعات الإطاحية في أفكارها وآرائها وأحكامها والتي ترى أن اليقين يلازمها هي فقط وغيرها يرتع في الريبة والشك.
من خلال ذلك المنطق الثنائي في الصراع بين الخير والشر لا مانع من التأكيد على مآل كل فريق، فقتلانا في الجنة التي عرضها السموات والأرض وقتلاهم في النار التي وقودها الناس والحجارة
ومن خلال ذلك المنطق الثنائي في الصراع بين الخير والشر لا مانع من التأكيد على مآل كل فريق، فقتلانا في الجنة التي عرضها السموات والأرض وقتلاهم في النار التي وقودها الناس والحجارة، فالحور العين يتهيأن ويتزيّن للشهداء الأبرار، وسقر تستعر لتكون مآل الخلود للكافرين والمشركين، والشهادة في سبيل الله أفضل الأماني، وقتل الآخر المخالف جهاداً في سبيل الله، فلا تحيا الأمم إلا بالجهاد ولا تُذلّ إلا بتركها إياه، وما يصيب الوهنُ أمةً إلا بحبها للدنيا وكراهيتها للموت.. ومن هنا وأمام سيادة ثقافة النكوص والاتجاه نحو ثقافة التوهم المتمثلة في العودة للسكون والارتياح في كهف الماضي بعدما أَعيتنا سُبل الحاضر في كيفيّة الانطلاق ناحية المستقبل.
وأمام هؤلاء المخالفين الذين يقفون كأحجار عثرة أمام تطبيق شرع الله وإفراد الله تعالي بالحاكمية وقيام دولة الخلافة الإسلاميّة لتعود أمجادنا التليدة، فلا مفر إذن من الجهاد وإعداد ما في الاستطاعة لقتال هؤلاء. وأقرب ما نمتلك هو أنفسنا التي تهون من أجل الشهادة، فالشهداء على منابر من نور يوم القيامة، والشهادة الأمل والرجاء لكل مؤمن حقيقي، ومن مات ولم تحدّثه نفسه بالغزو مات ميتة الجاهلية.. الخ. فتنتشر ثقافة الموت بكل معانيها تحت مسميات مختلفة.
فماذا لو فجَّر الشاب نفسه بين هؤلاء الفاسقين؟ لا شيء، سوى أنّها لحظات معدودة وسيجد نفسه بين فاتنات الحور العين التي لو بصقت إحداهنّ في بحار الدنيا لحولت ماءها من الملوحة إلى العذوبة. لحظات وسينال ما لم يستطع إدراكه في الدنيا ببلوغه في الآخرة، لحظات ويستبدل عجزه الدنيوي في الزواج بواحدة من بني البشر بعدد كبير من فاتنات الحور العين اللائي يتزين له في ذلك الآن. وهكذا يتم خلط الديني بالأيديولوجي ويشتبه الطريق على السالكين فتتم السيطرة عليهم وتوجيهم في طريق أقل ما يقال عنه إنّ الموت هو نهايته الوحيدة.
ولا يمكننا في ذلك الإطار أن نتجاهل أزمة النخب التنويريّة، فالنخب في شتّى بلدان عالمنا العربي تمرّ بأزمة حقيقيّة، حيث يمكن أن نقول أنّ النُخب انقسمت في بلادنا إلى فريقين، ذهب الفريق الأول إلى ممالأة النظام الحاكم فأخذ يعمل لصالحه ويتكلم بلسانه، وكلما بالغ في تمجيد الحاكم وإبراز محاسنه التي يصعب حصرها، وعدم وجود المساوئ التي حرص على البحث والتفتيش والتمحيص عنها إلا أنّه لم يجدها! فما يلبث هذا النخبوي إلا وتنهال عليه الأوسمة والجوائز ويتقلد أرفع المناصب.
أما الفريق الآخر الذي ينحاز إلى مصلحة الأمة وتوعية الجماهير والتنديد بالفساد فمآله الإقصاء والتهميش والتشويه حتى يظهر في صورة الذي يبغي الفساد في الأرض، فلا مانع أن تثور ضده جموع العوام وسفلتهم نتيجة لتشويهه أيديولوجياً من قِبل نخبة الفريق الأول، الذي يصبح تشويه من ينتمون إلى الفريق الثاني من أولى مهامهم. وبين هؤلاء وهؤلاء تضيع ثقة الشباب والعوام فلا يثقون بهؤلاء المنافقين الممالئين للسلطة ولا بهؤلاء الذين تُبرز أخطائهم البسيطة وتُضخّم هفواتهم نتيجة للتشويه الإعلامي الذي ينحاز دائما للنظام الحاكم. وهكذا تطغى على السطح أزمة أمة تتمثل في ثقافة النكوص الحضاري وأزمة النخب التنويرية.