مصادرة العقل والتاريخ
إن هذا الواقع بمآلاته الكارثية ما كان ليبلغ هذا الحدّ من الضعف وانغلاق أفق المستقبل وتفكّك الدولة الوطنية، لو كان هناك مشروع تنوير وتحديث حقيقي، ولو كان هناك فضاء للحريّة وترسيخ لمفهوم الدولة الحديثة، وتجديد لفكر النهضة بأبعاده المختلفة، إذ كان همّ النظام الرسمي العربي وما زال، هو الحفاظ على السلطة، سواء من خلال القمع والتنكيل، أو خلق طبقة طفيلية في المجتمع ترتبط مصالحها بمصالحه، تعمل على خدمة سياساته وإضفاء المشروعية عليها، ولذلك كان من الطبيعي أن ينتهي هذا الواقع إلى ما انتهى إليه من أزمات مستفحلة في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ظواهر التطرف
في هذا السياق كان من الطبيعي أن تبرز جملة من الظواهر الخطيرة في المجتمعات العربية، لعلّ أخطرها ظاهرة التطرف بين الجيل الجديد. إن قراءة هذه الظاهرة أو غيرها من الظواهر المصاحبة لها، يجب تناولها في سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، عبر دراسة العوامل الموضوعية التي تقف في خلفية هذا المشهد، وتعمل على تعزيزه، دون أن نغفل محاولات توظيفه من قبل أطراف محلية وعالمية باعتباره حاجة تخدم أهدافها ومصالحها كما حدث في أفغانستان أيام الاحتلال السوفياتي، أو في وقتنا الراهن الذي تتصاعد فيه حالة الاشتباك بين أجندات قوى إقليمية ودولية في منطقتنا العربية.
لقد كان لغياب المشروع الديمقراطي العربي، وتغوّل السلطة حتى بالنسبة إلى الأحزاب التي جاءت بها إلى السلطة، إضافة إلى فشل المشاريع السياسية على اختلاف مسمّياتها في تحقيق أهدافها، دوره الخطير في خلق حالة من الفراغ واليأس، وجدت فيه القوى الإسلامية لا سيما المتطرفة منها ضالتها لتعزيز حضورها وتأثيرها في أوساط قطاعات واسعة من الجماهير الغاضبة والفاقدة لأيّ أمل في الخلاص من واقعها المتردي. ولم تكن سياسات الولايات المتحدة بعد غزو العراق أقل تأثيرا على مستوى تغذية التطرف، وتوليد الحركات الجهادية، ردا على غطرسة القوة وتدميرها لبلد عربي بحجم العراق تحت ذرائع واهية، كان الجميع يعرف زيفها، والأهداف الحقيقية التي تكمن خلفها.
منظومة التعليم والتطرف
من هنا فإن الحديث عن دور منظومة التعليم، مناهج وأساليب في تغذية التطرف، وتكريس ثقافة العنف والتشدد رغم خطورتها، يعد قراءة في جانب واحد من جوانب هذه القضية الآخذة في الاتساع والتمدد، مع غياب أيّ أفق للخروج من حالة الضياع والتردي، لا سيما بعد محاولات احتواء تداعيات الانتفاضات العربية، وسعي قوى إقليمية ودولية لاستغلال حالة تفكك وانهيار أكثر من نظام عربي، لتحقيق مصالحها عبر تأجيج النزعات الطائفية والعرقية والقبلية في المنطقة، كما هو الحال في اليمن وسوريا وليبيا.
لقد شهد الواقع التعليمي في الوطن العربي مفارقة غريبة، تجلّت في التوسع الكبير في مؤسسات التعليم في العالم العربي، في حين لم يرافق هذا التوسع أيّ تطوّر في خطط تطويره، سواء على مستوى المناهج والسياسات والأساليب، بما يتناسب مع التطور العلمي والتربوي في العالم، أو على صعيد مشاريع التنمية المستدامة والنهوض بالواقع الثقافي والعلمي، بل على العكس من ذلك ترافق هذا التوسع الأفقي للتعليم مع تراجع خطير في المستوى العلمي والتأهيلي، حتى عمّا كان عليه الحال قبل عقود خلت، ما أدّى إلى انتشار الأميّة العلمية في صفوف خريجي هذه المعاهد والجامعات. وقد لعب إلغاء تدريس الفلسفة في جامعاتنا، أو تحويل أقسامها إلى مأوى للطلبة العجزة من أصحاب العلامات المتدنية دوره في تغييب ثقافة السؤال والشك، وتكريس ثقافة التلقين والحفظ.
لقد كان لسياسة الفساد كجزء من حالة الإفساد العامة في المجتمع، في هذه المراكز التعليمية، دورها الخطير في إفراغ العملية التعليمية والتربوية من مضمونها، بعد أن أدركت السلطة مخاطر بناء وعي علمي حقيقي لدى الجيل الجديد عليها، ولهذا عملت جاهدة على إفراغ هذه المؤسسات من دورها في بناء المعرفة والعقول، تجنّبا للتحديات التي يمكن أن تنجم عن ذلك على استقرارها.
ومما زاد من حدة هذه الأزمة واتساعها، غياب أيّ دور تنويري لمؤسسات العمل الثقافي التي تهيمن عليها الدولة أيضا، نتيجة لواقع الفساد والارتهان التي أصبحت تعيشها هذه المؤسسات، في إطار عملية الاحتواء العام للمجتمع، عبر شراء الذمم وإفراغ الثقافة من أيّ قيمة تنويرية أو نقدية، ما نجم عنه فراغ واسع، كان لا بد لثقافة الاستهلاك أو التطرف والانغلاق أن تسارع في ملئه.
على خلاف هذا الواقع المتردي لثقافة التنوير والحرية، كانت رموز التيارات السلفية وثقافة التجهيل والتحريض تنشط في عملها لاستقطاب المزيد من الأتباع، ونشر أفكارها مستفيدة من حالة الثراء المادي الذي بدأت تعيشه منذ سبعينات القرن الماضي، في استغلال وسائل التواصل الحديثة والميديا في نشر أفكارها، مستخدمة بلاغة الخطاب ومخاطبة العواطف في التأثير في المتلقي واجتذابه. ولم يتوقف سلوك هذه الجماعات عند محاولة تصفية ما تبقّى من فكر النهضة والحداثة بحجة استعادة الهوية الإسلامية، والدفاع عنها، بل حاولت نشر ثقافة الجهل ومحاربة العلم وقيم العصر الجديدة باعتبار أنها خطر يتهدد هذه الهوية الثقافية ويسعى إلى تغريبنا وتحولينا إلى تابعين لثقافة الكفر.
إن تكريس علاقة التبعية التي اعتمدها أصحاب هذا الفكر مع مريديهم وأتباعهم، وتزييف وعيهم وتجريده من أي حس تاريخي، قد ساهم في تغذية الفكر المتطرف الذي لا يعترف حتى بالمسلم المختلف عن فكر هذه الجماعة أو تلك. وكان لمعاداة فكر الحداثة وقيم الحرية والديمقراطية، بدعوى أنها قيم تهدف إلى تغريبنا وإبعادنا عن قيمنا العربية والإسلامية الأصيلة دور مساند جعلهم ضحية هذا الفكر وأسرى لمقولاته. إن هذا كله قد ساهم إلى حد كبير في تغييب الفكر والانفتاح على قيم العصر وثقافته، وتكريس سلطة الشيخ وثقافة المغالاة والكراهية بدلا من سلطة العقل والمعرفة، وقد ساهمت عوامل موضوعية عديدة في تعزيز هذا الخطاب، واستقطابه لقطاعات مهمة من هذا الجيل، الباحث عن هوية ومستقبل لائق في واقع مترد، يضج بأزماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسة، حتى بات أشبه بكابوس تتعاون سلطة الداخل والخارج على تأبيده، وجعله قدرا يحكم حياته، ما زاد من نقمة هذا الجيل ووفر الأرضية المناسبة لظهور التطرف ومشاعر الكراهية للآخر والمغالاة.