النقدي والمؤدلج.. المؤسسة التعليمية والوعي المجتمعي
في مصر التي بدأت نهضتها الحديثة مع حكم محمد على نجد التعليم مدخلا رئيسيا لتحقيق النهضة والسند الأول لمحمد علي باشا «في بناء دولة مصر الحديثة (فأقام ) نظاما تعليميا حديثا مغايرا ومناقضا لنظام التعليم الديني الذي كان سائدا في مصر خلال الفترات السابقة عليه « (1) غير أن الارتباط الوثيق بين التعليم وتوجهات النظام الحاكم وأحيانا طموحات الحاكم الشخصية قد بدأت مع هذا المشروع النهضوي المبكر فنجد التعليم -في هذه الفترة- خادما لأحلام محمد علي التوسعية ومن هنا بدأ الاهتمام بالعلوم العسكرية وما يدعمها من مجالات أخرى ويتضح هذا الأمر بجلاء في البعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا حيث غلب عليها العنصر غير المصري والاهتمام الكبير بفنون الحرب والهندسة «فبعثة عام 1826 التي تألفت في معظمها من الأتراك والأرمن مع أقلية من المصريين -من بينهم إمام البعثة الشيخ رفاعة الطهطاوي -كانت تتكون في جوهرها من الأعيان وأتباعهم ومن بين 44 طالبا كان ستة فقط يدرسون القانون والإدارة وعلوم السياسة أما الآخرون فقد تخصصوا جميعا في علوم وفنون الحرب والهندسة.. أما بالنسبة لعام 1844 فإن أكبر بعثة -الأرقام تتراوح بين 65 و70طالبا- سافرت إلى فرنسا وكان أعضاؤها من شباب أسرة الوالي -ومن ثم جاءت تسمية ‘بعثة الأنجال’ التي أطلقها علي مبارك- وأبناء بعض كبار رجال الدولة وألمع تلاميذ التعليم الحديث وكان الهدف ذا دلالة فهي بعثة عسكرية بالدرجة الأولى» (2).
ويهمنا -في الاقتباس السابق- تأكيد درجة الاهتمام الكبيرة بالعلوم العسكرية واختيار شباب أسرة الوالي وأبناء بعض رجال الدولة لدراستها حتى تكون القوة العسكرية متمركزة في أسرة الوالي وحاشيته. وهكذا يمكن القول إن النهضة التي أرادها محمد علي كانت في القلب منها نهضة عسكرية مما غلب الجانب المادي على المجالات الفكرية والروحية.
لقد أراد محمد علي أن يأخذ ثمار الحضارة الغربية دون أن يستعير ما قامت عليه من مبادئ وقيم تؤكد حقوق الإنسان المصري السياسية والاجتماعية والفكرية، وفى هذا يقول د. حسين فوزي «إن ما شهدناه في نهضة محمد علي لم يكن يمثل غير الحضارة المادية.. فمصر لم تتطور عقليا ولا فكريا في محاذاة تلك الانقلابات العمرانية التي حققتها حضارة أوروبا بمصر منذ عهد محمد علي وما فتئت الصور المادية للحضارة الغربية هي المتغلبة تسبق بمراحل طويلة الحالة العقلية والشعورية لبلاد وادي النيل» (3).
على أن أهم ما اتصف به التعليم في هذه المرحلة هو أنه كان موجها لتطوير جهاز الدولة دون أن يكون له امتداد على بنية المجتمع ذاته حتى أصبحنا أمام ثنائية مازالت موجودة إلى الآن وهى ثنائية: حداثة جهاز الدولة وتخلف المجتمع. وظلت الرغبة في تطوير المجتمع والنهوض بمختلف طبقاته هم المفكرون بالدرجة الأولى وقد دعمت ثورة 1919 هذا التوجه ففي أعقابها وبعد تحقيق الاستقلال المشروط «نص دستور 1923 على أن التعليم الأولي مجاني وهذا أول نص على مجانية التعليم في الدستور المصري، وفى سنة 1950 وفى ظل تولى طه حسين لوزارة المعارف العمومية تقررت مجانية التعليم الثانوي»(4).
كما تم إنشاء جامعتي فؤاد الأول -القاهرة الآن- وجامعة فاروق الأول -الإسكندرية حاليا- وقد صاحب ذلك «اتجاه متزايد لتعزيز دور الجامعة في المجتمع وإرساء تقاليد الحرية الأكاديمية والعقلانية والتنوير.. وعلى الرغم من كل ذلك فقد كان الفقر وجمود النظام الطبقي وتشوه البناء الاقتصادي لصالح الزراعة التقليدية والاقتصاد ما حال دون خلق فرص عمل متجددة لاستيعاب الأعداد المتزايدة من المعلمين، كل ذلك قد حال دون أن يلعب التعليم الدور المرجو منه في تطوير الديمقراطية والمجتمع» (5). ولعل رواية «القاهرة 30» لنجيب محفوظ تكون خير تمثيل لهذه الحالة، كما أن الحرية الأكاديمية كثيرا ما حوربت وأضير أصحابها ويظل ما حدث مع طه حسين بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» شاهدا شهيرا على ذلك.
ومع ثورة يوليو أصبح التعليم الجامعي مجانيا عام 1961 وازداد عدد المدارس والجامعات زيادة مطردة كبيرة وهى مظاهر إيجابية دون شك إلا أنها اتسمت بتوجهات النظام السياسي الشمولي الذي سعى لتأميم كل شيء وتدجينه ليكون مروجا لأفكار العهد الجديد فأصبح هدف التعليم الأساسي «هو الحشد الأيديولوجي خلف النظام والقيادة السياسية.. والإعداد المهني والفني للموظفين اللازمين لمؤسسات الدولة وإدارتها وخططها التنموية واختفت تماما قضية العلاقة بين التعليم والديمقراطية بعد أن اختفت الديمقراطية نفسها»(6).
مع ثورة يوليو أصبح التعليم الجامعي مجانيا عام 1961 وازداد عدد المدارس والجامعات زيادة مطردة كبيرة وهى مظاهر إيجابية دون شك إلا أنها اتسمت بتوجهات النظام السياسي الشمولي الذي سعى لتأميم كل شيء وتدجينه
ومع سبعينات القرن العشرين بتحولاتها الجذرية على المستوى السياسي -الصلح مع الكيان الصهيوني- والاجتماعي -تفاقم الفروق الطبقية داخل المجتمع- والاقتصادي المتمثل في سياسة الانفتاح ولا شك أن رواية مثل «يوم قتل الزعيم» لنجيب محفوظ تعد تصويرا سرديا لهذا الانقلاب القيمي في سلوكيات المجتمع والذي يعد انعكاسا لانقلاب التوجهات السياسية على ثوابت المرحلة الناصرية، ومع هذه التحولات ارتبط التعليم بالرؤية البرغماتية النفعية فظهر ما يسمى بكليات القمة لا لشيء سوى أنها تدر دخولا مادية عالية وشاعت ظاهرة الدروس الخصوصية وفقدت المدرسة – بدرجة كبيرة- لدورها التعليمي والتربوي وأصبحت أقرب إلى مكان لعقد الامتحانات واستخراج الشهادات. وكان من الطبيعي أن يتدنى المستوى التعليمي ويتزايد عدد المتسربين من التعليم. وبإيجاز أصبح التعليم صورة من الواقع الجديد وانعكاسا لتوجهات السلطة القائمة وهو ما يفسر انتشار المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية التي تقدم خدمة تعليمية أعلى لأبناء الطبقة الطفيلية الجديدة، وهو ما مكن خريجي هذه الجامعات من احتكار سوق العمل وأصبح خريجو الجامعات الحكومية «سلعة غير مرغوب فيها» فتفاقمت البطالة وأصبح التعليم فاقدا لدوره المعهود في الحراك الاجتماعي ومن ثم تكاثر التعليم الأجنبي فأصبح لدينا ثماني عشرة جامعة أجنبية وخاصة من بينها ست جامعات أجنبية: بريطانية وكندية وفرنسية وألمانية وكندية ويابانية وفى الطريق جامعتان إيطالية وأسبانية.
إن هذه الأنظمة المتباينة التي تضم التعليم الحكومي والخاص والأجنبي والأزهري ليست دليل ثراء بل دليل على توزع التعليم على الطبقات الاجتماعية بحيث أصبح لكل طبقة تعليمها طبقا لدرجة ثرائها، الأمر الذي أفقد التعليم دوره التقليدي في تكوين ثقافة مشتركة بين أبناء الوطن الواحد مما يهدد -بالتبعية- تماسك الهوية الجامعة، ناهيك عن تهديد قيمة العدالة الاجتماعية وإشاعة أفكار تتناقض مع الثوابت الوطنية والتاريخية.
فقد جاء في أحد كتب المدرسة الأميركية بالمعادى فقرة تقول «إن إسرائيل هي التي انتصرت في حرب أكتوبر على مصر ومنحت أرض سيناء لمصر لأنها طيبة القلب» وقد نفت وزارة التربية والتعليم إشرافها على هذه المدارس الأجنبية وأنها -أي هذه المدارس- تابعة لوزارة الخارجية وبناء على ذلك يمكن القول مع ألتوسير إن «المدرسة كمؤسسة تقدم في آن واحد المعرفة والقيم والثقافة التي تبثها وتضفى عليها علاوة على ذلك طابع وصفة الشرعية ومن هنا فليست المدرسة كمؤسسة اجتماعية مجرد وسيط محايد لنشر المعرفة والقيم والثقافة -الأيديولوجيا- أو مكان يتم فيه الاتصال ما بين المعرفة والطلاب بل هي فوق ذلك كله تعبير عن الأيديولوجيا السائدة والمكونة لبنية النظام السياسي وإحدى الأدوات الهامة لنشرها والتبشير بها» (7).
ولا تقوم المدرسة بتدجين الوعي عن طريق التلقين والاستظهار فحسب بل على العنف وهذا ما أكده أحد التربويين المبرزين في مرحلة الستينيات من القرن الماضي وهو أبو الفتوح رضوان حين قال إن «العلاقات السائدة في مدارسنا علاقات تسلطية تحكمية إذلالية ولا موضع فيها إلا لقانون العقوبات الذي يبيح الضرب والشتم وعرك الأذن» (8).
وجدير بالذكر أن هذا العنف لا يتم إلا في المدارس الحكومية مدارس الفقراء لأنها -أي هذه المدارس وكما يقول د. أبو الفتوح رضوان أيضا – «خرجت من عهود الاستبداد والإقطاع والأرستقراطية (ولهذا) فإن كثيرا من الشروط غير متوفر فيها ومن خصائص التعليم الابتدائي في جميع الدول أنه من مستحدثات القوى الشعبية ومن نتائج تنور الرأي العام وسيادة الروح الديمقراطية، وأنه قاومته الملوك والأرستقراطيات فلا غرابة إذن في أن شروط التعليم الشعبي الديمقراطي الجيد ليست متوافرة في مدارس هذا التعليم في مصر» (9).
ولا شك في أن هذه الطريقة القائمة على العنف والقهر والتربية التسلطية «تكوّن أفرادا خاضعين أو ناقمين.. والتربية التساهلية تكوّن أفرادا لامسؤولين» (10). إن المناهج التعليمية ليست –فحسب- مصدرا للمعلومات بل أداة للهيمنة وتشكيل أنماط الوعي ويرجع ذلك إلى اتساع مفهوم المنهج الدراسي فهو ليس «الكتاب المدرسي المقرر فحسب بل إن هذا المنهج من المفروض أن يشمل مجمل الأنشطة والتجارب والمعارف والاتجاهات والأفكار التي تدور حول علم معين من العلوم ومن هنا فإن الكتاب المدرسي هو أحد مفردات ذلك المنهج وليس هو نفسه المنهج « (11).
ومع ذلك يظل الكتاب المدرسي في القلب من المنهج لهذا كان الاهتمام البالغ به وبما يحويه من معلومات وقد اتضح هذا بصورة جلية بعد ثورة يناير المصرية، فمع تغير توجهات السلطة تم حذف درس في مادة اللغة العربية للصف الأول الابتدائي يحمل عنوان «ثورة العصافير» ويحكى بأسلوب يناسب الأطفال قصة رجل يسجن مجموعة من العصافير ويمنع عنهم الطعام حتى ثاروا في وجهه «ارحل ارحل»، والإسقاط السياسي في هذه القصة واضح لهذا تم حذفها كما تم حذف اسم محمد البرادعي من قائمة المصريين الحاصلين على جائزة نوبل ودرس «فلسفة الثورات نموذج تطبيقي ثورة 25 يناير» المقرر على الصف الثالث الثانوي، ودرس «الثورة الحقيقية» المقرر على الصف الأول الثانوي، وهكذا ظلت المناهج التعليمية تابعة لتوجهات السلطة السياسية تماما كما كانت منذ محمد علي إلى الآن. أضف إلى ذلك تمجيد بعض الشخصيات التاريخية والسكوت عن بعضها وكأنها لم تكن، وأشهر مثال على ذلك عدم ذكر اللواء محمد نجيب الذي حكم مصر عامين من 1953 الى 1954، ومصطفى النحاس زعيم الوفد في المرحلة الملكية، بل تم وصف هذه المرحلة كلها بالعصر البائد وإغفال ما بها من إيجابيات. ناهيك عن غياب الوعي النقدي عموما وتكوين رؤية ذاتية يسعى الطالب لتكوينها حول الأحداث والشخصيات التاريخية.
وإذا كانت السلطة تدرك أهمية التعليم في توجيه الرأي العام وتشكيل وعيه طبقا لأيديولوجيتها فإن التيارات السياسية على اختلافها لا تغفل هذا الدور لهذا اهتمت جماعة الإخوان المسلمين بالتعليم وكانت لها مدارسها، والأمر نفسه ينطبق على الأقباط الذين قدموا في مدارسهم خدمة تعليمية متقدمة تضمن التميز لأبنائهم، كما سعى حزب مثل حزب النور إلى تقديم توصياته حول إصلاح التعليم من وجهة نظره.
وهكذا نستطيع القول إن أشد أزمات التعليم ما يمكن أن نسميه بتسييس الوعي وما يلزم ذلك من «حشو عقول الأطفال بكمّ متزايد من المعلومات، وعليهم تلقيها وحفظها دون أي مشاركة منهم في البحث عنها ودون أي جهد في تنمية القدرات العقلية من فهم وتحليل وتفكير وحل للمشكلات وتنمية للإبداع « (12).
ويبقى السؤال المحوري من الذي يؤثر في الآخر: القائمون على صناعة المنهج أم السلطة السياسية أم المجتمع؟
أشد أزمات التعليم ما يمكن أن نسميه بتسييس الوعي وما يلزم ذلك من «حشو عقول الأطفال بكمّ متزايد من المعلومات، وعليهم تلقيها وحفظها دون أي مشاركة منهم في البحث عنها ودون أي جهد في تنمية القدرات العقلية من فهم وتحليل وتفكير
الحقيقة أن التأثير -هنا- لا يسير في خط مستقيم «من… إلى» بل هي علاقات تأثير متبادلة تبدأ من السلطة إلى المؤسسة التعليمية إلى المجتمع وأحيانا كثيرة يكون المجتمع نفسه هو الأكثر تأثيرا. فحتى هذه اللحظة تعجز المؤسسة التعليمية في مصر عن إلغاء مادة التربية الدينية مستبدلة بها كتابا عن القيم والأخلاق يدرسه كل الطلاب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم بوصف ذلك مدخلا لبناء دولة حديثة تعترف بحقوق المواطنة التي تقوم على حرية الاعتقاد واحترام عقائد الآخرين وعدم التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو الوضع الاجتماعي.
ويرجع الخوف من اتخاذ هذه الخطوة إلى سلطة المجتمع حيث تخشى المؤسسة نفسها من المزايدة عليها باسم الدين هذا في حالة قناعة بعض مسؤولي المؤسسة وهو أمر نادر للغاية، فقد حدث في وزارة التربية والتعليم المصرية أيام د. حسين كامل بهاءالدين أن تم تأليف كتاب «القيم والأخلاق» للمسلمين والأقباط على السواء فأشيع أن ذلك تمهيد لإلغاء مادة التربية الدينية وظل مسؤولو الوزارة ينفون هذا ويؤكدون استمرار التربية الدينية الإسلامية والمسيحية ورغم ذلك تم إلغاء المادة تحت هذا الضغط المجتمعي. ومؤخرا طرح بعض نواب البرلمان المصري إلغاء مادة التربية الدينية فتدخل الأزهر وأكد أن هذا الإلغاء سوف يساعد على انتشار العنف والإرهاب، والحقيقة أن الأزهر يلعب دورا كبيرا مؤثرا ليس فقط بوصفه مؤسسة تعليمية مسؤولة عن تشكيل وعي الملايين من الطلاب بل يلعب دورا مؤثرا في رقابته للشأن الثقافي وما يصدر من كتب فكرية وإبداعية. ويكفى أن نشير إلى أنه كان وراء إقالة وزير الثقافة المصري د. جابر عصفور لطرحه رؤية مدنية حديثة تحترم الإسلام ولا تتعارض معه. أقيل وزير الثقافة رغم ذهابه إلى الأزهر واعتذاره بأوامر من السلطة أو بإيعاز منها.
ومناهج الأزهر تحتاج لحديث آخر لأنها تنتمي إلى فقه العصور الوسطى في رؤيته للأخر وللمرأة وللإبداع ولحرية التفكير، ويظهر ذلك في مصادرة الكتب ومنع تداولها ومن ذلك كتب محمد سعيدالعشماوى، ومنع استضافة سيد القمني في التلفزيون، وانطلاق شرارة المظاهرات -التى وقع فيها بعض القتلى ضد رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر- من الأزهر بعد نشرها في الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة ووقوف الأزهر -والشيخ محمد الغزالى تحديدا وهو الذى يوصف بالإسلامي المعتدل- ضد رواية «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ ومنع طباعتها في مصر، وفى فترة مبكرة نسبيا تم فصل طه حسين من الجامعة وإحالته للقضاء بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» كما سبقت الإشارة، وتم فصل على عبدالرازق من وظيفته بسبب كتابه «الإسلام وأصول الحكم «.
إنني أسوق هذه الأحداث كلها لكي أدلل على أن واضعي المناهج التعليمية لا يعملون بمعزل عن المناخ العام وضغوطات السلطات المختلفة: السلطة السياسية-سلطة المؤسسات الأخرى خاصة الدينية-سلطة التيارات السياسية والمجتمع بشكل عام. فكيف يمكن الخروج من هذه الدائرة؟
إن أول ما ينبغي اتخاذه في هذا السياق هو تحرير التعليم من السياسة وأن تسند المناهج التعليمية إلى علماء تربويين مستقلين وغير خاضعين لأي اعتبارات سياسية، وأن يكون العلم وتربية النشء هدفهم الأول والأخير.
الخطوة الثانية هي العمل على أن تكون المدرسة مكانا جاذبا لا طاردا من خلال تفعيل الأنشطة المتنوعة التي تشبع ميول التلاميذ مع ضرورة منع العنف حتى على مستوى العنف اللفظي، و»الاستعاضة عن الكتاب المدرسي الجاف والعقيم بدليل صغير الحجم يوضح ما هي الأحداث والمفاهيم والقوانين والتجارب والأنشطة التي ينبغي للتلميذ أن يلم ببعضها في أعوام الدراسة المختلفة، كما يشمل هذا الدليل بعض الأوعية المعرفية لهذا العلم أو ذاك كالمراجع الأساسية والمكتبات والمتاحف المتخصصة والأفلام التسجيلية أو الدرامية المفيدة في بعض الحالات» (13).
بالإضافة إلى الاطلاع على تجارب الدول المتقدمة في مجال التربية والتعليم والاستفادة منها وليس نقلها دون تهيئة المناخ الملائم والعناصر الضرورية لتفعيلها. وتفعيل الأنشطة وتحويل المادة العلمية إلى مادة معيشة يستلزم -بالضرورة- تنويع مصادر المعرفة بحيث لا يكون المعلم هو المصدر الوحيد للمعرفة، ومن هنا يتعلم الطالب كيفية البحث عن المعلومة وتكوين رؤية خاصة لما يتوصل إليه من معلومات ويختفي ما يمكن أن نسميه بالتعليم الموازي الذي يفرض فيه المعلم رؤيته على الطالب وهي رؤية مضادة -أحيانا- لما يتعلمه ومن أمثلة ذلك أن بعض المعلمين يتهمون طه حسين بالكفر في الوقت الذي يدرسون فيه كتابه الشهير «الأيام».
إن تدفق المعلومات وتنوع مصادر المعرفة سوف تختفي معه ظاهرة هذا التعليم الموازي، بل إن ما نعيشه من مظاهر العولمة أفقد الدولة الوطنية سلطتها التي كانت شبه مطلقة في تشكيل الوعي العام، وهو ما يستلزم تغيير مفهوم التعليم وتطويره الذي لم يعد -أو هكذا ينبغي أن يكون- «مسؤولية وزير التعليم أو وزارة التربية وليس مهمة خاصة يقوم بها التربويون فحسب، وإنما صار عملا قوميا تشارك فيه جميع الهيئات والقنوات الشرعية والأفراد ويعكس آمال الرأي العام وطموحاته ورغباته» (14).
إن التعليم بأساليبه التقليدية القديمة القائمة على التلقين والاستظهار والتعامل مع المعلومات بوصفها حقائق مطلقة يشكل -أي هذا التعليم بتلك المواصفات- بنية وعي متطرف أو مهيأ للتطرف لأنه يقوم على الإجراءات التالية:
وضع المادة التعليمية على شكل حقائق تقريرية.
عرض المادة على أنها قضايا مسلم بصحتها ونهائيتها.
تقييد فكر الطالب باستيعاب ما قدم له.
المادة التعليمية حقائق ومفاهيم ومعلومات للتحصيل.
عرض المادة على شكل موضوعات منفصلة.
عرض أمثلة قليلة لا تسمح بالتجريد.
تتضمن المادة جزئيات وتفريعات غير منظمة.
اللغة المستخدمة توحي بالاستبداد (افعل ولا تفعل).
فرض التبعية وخلع القدسية على بعض الأفكار والأشخاص.
التدريبات تركز على التذكر والتعرف والحفظ.
الأسئلة لا تحقق حوارا بين المتعلمين وبينهم وبين المعلم.
المادة المعروضة غير معللة ولا مفسرة.
خلو الأسئلة من الموازنات وإعمال الفكر واستخدام التدريبات التلقينية وإهمال البحث عن العلاقات بين القضايا.
ينبغي تخليص التعليم من إطار العصر الشمولي القائم على الصوت الواحد والحقيقة الواحدة والتابع لإرشادات الزعماء الملهمين إلى إطار عصر العولمة والثورة المعلوماتية وتعدد الرؤى والمشاركات الفعالة في بناء المجتمعات المدنية الحديثة
البعد عن الدعوة للتعلم الذاتي واحترام الآخر وتعدد الرؤى.
خلو الأسئلة من إتاحة الفرص لاستخدام الخيال وتعدد الإجابات.
نماذج الأسئلة التي تقدم للطلاب تكرس الحفظ والتلقين وتقتل الابتكار وترسخ في عقول الطلاب مفهوم الحقيقة المطلقة « (15).
إن تراجع التعليم يرجع إلى تعامل أغلب الحكومات العربية معه على أنه نوع من التفضل على أبناء الشعب بوصف وزارات التربية والتعليم وزارات غير منتجة متناسين أن الاستثمار في بناء المواطن الفعال هو المقدمة الحتمية لأيّ استثمار آخر، وأنه لا نهضة في أيّ مجال بغير النهضة التعليمية أولا، وفى هذا يقول الكاتب أحمد بهجت في مقال له «يمكن القول إنه حين صار التعليم كالدم يجرى في عروق اليابانيين قفزت اليابان قفزتها الصناعية الهائلة»(16). ويكفى أن نقول إن اليابان «قد رصدت للبحث العلمي من الأموال ما يعادل ميزانية مصر»(17). ينبغي أن نترجم شعار «التعليم حق لكل مواطن كالماء والهواء» و»التعليم هدف قومي» إلى إجراءات ملموسة في أرض الواقع، وأن يتغير هدف التعليم من تدجين الطالب وتحويله إلى آلة تكرر ما تسمع إلى إنسان فعال مشارك صاحب رأي مستقل يسعى إلى اكتساب المعرفة بنفسه.
بإيجاز ينبغي تخليص التعليم من إطار العصر الشمولي القائم على الصوت الواحد والحقيقة الواحدة والتابع لإرشادات الزعماء الملهمين إلى إطار عصر العولمة والثورة المعلوماتية وتعدد الرؤى والمشاركات الفعالة في بناء المجتمعات المدنية الحديثة وهو هدف يتطلب بناء ما يسميه د. حسين بهاءالدين بمدرسة المستقبل وهي مدرسة بلا أسوار ليس بالمعنى المادي بل بمعنى انفتاحها على غيرها من المؤسسات دون أن تفقد استقلاليتها ومتصلة بنبض الرأي العام والثقافة والإعلام «مدرسة متصلة بمؤسسات الحكم المحلي، مدرسة تضرب بأنشطتها في أعماق المجتمع» (18). وهذا يستلزم أيضا تغيير دور المعلم تغييرا جذريا ليصبح وسيطا بين الطالب ومصادر المعرفة، فنحن في حاجة إلى معلمين تكون مهمتهم الأساسية هي «حشد طاقات طلابهم واستثارة حماسهم وإثارة فضولهم ومرافقتهم وإرشادهم في سياحة عقلية عبر كل الحواجز والسدود وفوق كل المشاكل والعقبات داخل وخارج المدرسة في إطار الحاضر وآفاقه الرحبة وفي آفاق المستقبل واحتمالاته الهائلة»(19).
بهذه الاعتبارات التي سقناها تصبح المعرفة أفقا مفتوحا وفي حال من التطور الدائم وتنتفي آليات تشكيل الوعي النهائي والمطلق والمنغلق على ذاته.
الهوامش:
1- «ديمقراطية التعليم والثقافة – رؤية نقدية « د. شبل بدران بحث ضمن كتاب أبحاث الدورة التاسعة عشرة لمؤتمر أدباء مصر «الإصلاح من منظور ثقافي» الأقصر 2004.
2- «التعليم في مصر» د. سعيد إسماعيل علي ص 20 كتاب الهلال نوفمبر 1995.
3- نقلا عن السابق ص 41.
4- «المنتج التعليمي والأمية الثقافية» د. كمال مغيث بحث ضمن كتاب أبحاث الدورة الثلاثين لمؤتمر أدباء مصر «نحو مؤسسة فاعلة ثقافيا» أسوان 2015.
5- السابق ص 233.
6- السابق ص 234.
7- «ديمقراطية التعليم…» مرجع سابق.
8- «الأهداف والمستويات في التربية والتعليم» د. أبو الفتوح رضوان وآخرون ص 16 مطبعة وزارة التربية والتعليم.
9- السابق ص 16.
10- «ديمقراطية التعليم…» ص 222 مرجع سابق.
11- «المنتج التعليمي….» مرجع سابق.
12- «المناهج الدراسية بين النظرية والتطبيق» د. حسن شحاتة ص 249 مكتبة الدار العربية للكتاب 1998.
13- «المنتج التعليمي…» مرجع سابق.
14- «المناهج الدراسية….» ص 247 مرجع سابق.
15- السابق ص 250.
16- نقلا عن «التعليم المعاصر – قضاياه التربوية والفنية» د. خالد الزواوي ص 104 مؤسسة طيبة للنشر والتوزيع 2001.
17- السابق ص 104.
18- «الوطنية في عالم بلا هوية – تحديات العولمة» د. حسين كامل بهاء الدين ص127 الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000.
19- السابق ص 129.