فضح العنف التربوي في الرواية العربية
يعرّف العنف من زاوية قانونية مدارها معيار الحق في استخدام العنف بأنه «استخدام الضغط أو القوة استخداما غير مشروع، أو غير مطابق للقانون من شأنه التأثير على إرادة فرد مّا».
ويعرفه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بقوله «العنف يتجه في مساره بوضوح أو بغموض، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى السيطرة على الآخر والهيمنة على مقدرات وجوده».
إنّ انتصاب العنف وجها أساسيّا من وجوه العلاقة بين الأنا والآخر، وبين الفرد والمجموعة، وبين الطبقة المستغِلة والطبقات المستغلَّة، يجعله شاملا لكل مجالات الحياة الإنسانية. لذلك تتنوّع أشكاله تنوّع مجالات الوجود الإنساني الفردي والجماعي، فنجد العنف الاجتماعي، والعنف الثقافي، والعنف السياسي، والعنف العسكري، والعنف الاقتصادي، والعنف الإعلامي، والعنف التربوي، والعنف الجنسي، والعنف المهني، والعنف الأسري، والعنف الرياضي، والعنف المدرسي، والعنف الديني.. وبذلك يبدو أنه من المستحيل الحديث عن مجتمعات إنسانية خالية من العنف، فهو ظاهرة ثابتة في تاريخ المجتمعات البشرية، لم تنج منها أيّ مجموعة كانت. ولعله لهذا السبب وصفت المدن الخالية من العنف التي رسم الفلاسفة ملامحها، بأنها مدن فاضلة لا وجود لها إلا في خيالات الفلاسفة.
العنف المادي
بيد أنّ كل ما ذكرنا من تفريعات يتشكل فيها العنف، إن هي إلا مظهر واحد فقط للعنف هو العنف المادي الذي يقوم على التعدي على كيان الآخر على نحو مّا من الأنحاء. ذلك أنّ للعنف وجها آخر تفطّن إليه الباحثون في المنتصف الثاني من القرن العشرين وتعمق في دراسته والتعريف به وتحليل آليّاته عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه «إعادة الإنتاج» (1970). فقد بيّن بورديو أنّ العنف الرمزي عنف غير فيزيائي، يتحقق بواسطة وسائل التربية وتلقين المعرفة، وتوارث الأعراف والتقاليد السائدة، ونشر الأيديولوجيا المهيمنة، وهو شكل لطيف هادئ من العنف يكاد لا يحسّ، وفوق ذلك فهو غير مرئيّ بالنسبة إلى ضحاياه أنفسهم. وفي هذا السياق انتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يول اهتماما كبيرا للأشكال المختلفة من العنف الرمزي، قاصرا اهتمامه على أشكال العنف المادي والاقتصادي. بل لقد أقام بورديو الحجّة على أنّ العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال الاقتصادي نفسه، وهو بالإضافة إلى ذلك فعّال يحقّق أهداف ممارسيه أكثر ممّا يستطيع تحقيقه العنف المادي أو البوليسي.
ومن أشدّ خصائص العنف الرمزي قوّةً ممارسته فعله في ضحاياه برضاهم وتواطئهم في أغلب الحالات. ولذلك فهم في الأعمّ لا يعون أنه عنف؛ فلا يشعرون كيف ينساقون إلى التسليم به في شكل بديهيات أو حتميّات تتسرّب إلى دواخلهم وأفكارهم وعاداتهم من خلال وسائل التربية والتنشئة الاجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع. ومن هذه الزاوية يمكن، حسب بورديو فهم الأساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء الآليات و الحيل التي يمرر من خلالها العنف الرمزي، والتي تسهّل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبأكثر فعالية، لا سيما أنّ الأرضية الميسّرة لذلك متوفّرة وهي التوافق بين البنيات الموضوعية السائدة في الواقع من جهة، والبنيات الذهنية الحاصلة على مستوى الفكر من جهة أخرى.
هذا العنف المجرد، لكن المتكرر بل المزمن واليومي أحياناً، يضرب الإنسان في أعمق أعماقه فيصيب نفسيّته ولا يدع له مجالا للتألم وإبلاغ أنينه، فيزيد على ألمه الصمتَ المطبق، فيسقط في الانكماش على النفس ويتهاوى نحو الانكفاء على الذات، فتُقتل فيه كلّ استعداداته للإبداع والاستقلال عن الآخرين وتحقيق الذات.
سعى الروائيون العرب إلى محاورة السائد من القيم والمواضعات والنظم الموجهة لهذه المنظومة، ومصادمتها، والسعي إلى قلقلتها وزحزحتها من دائرة المطلق إلى فضاء النسبيّ
العنف التربوي
وما من شكّ في أنّ العنف التربوي يعدّ من أبرز أشكال العنف المادي وأخطرها على تكوين الفرد النفسي والعقلي والاجتماعي. ذلك أنّ العنف التربوي هو أطول أنواع العنف المادي حضورا في حياة الإنسان، وأكثرها تمتعا بتجنّد المجتمع والدولة لتحقيقه على «أكمل وجه». زد على ذلك أنّ هذا العنف يبتدئ مع الإنسان منذ نعومة أظفاره مما يجعل آثاره أرسخ وأبعد غورا في كيان الفرد.
وقد أصبحت ظاهرة العنف التربوي موضوعاً مهماً يطرح بين الفاعلين في الحقل التربوي والحقل الاجتماعي والحقل النفسي، لما لهذه الظاهرة من تأثيرات سلبية في تكوين شخصية الإنسان وتكامل أبعادها، فهو يؤدّي إلى تشويه الشخصية عند الأطفال، ويساهم في تعطيل طاقات العقل والتفكير النقدي لديه.
ويذهب الظنّ بالبعض فور سماع مصطلح العنف التربوي أنه «العقاب البدني»، غير أنّ العقاب البدني ما هو إلا شكل من أشكال العنف التربوي فثمة شكل آخر من العنف التربوي يتخفى خلف الكثير من المواقف ويسيطر على العلاقة القائمة بين المعلم والمتعلّم. فلئن كان من الطبيعي أن تكون للمعلم مبدئيّا سلطة مّا على المتعلم يستمدها من موقعه مصدرا للمعرفة فيما المتعلم فاقد للمعرفة متلق لها، فإنّ هذه السلطة سرعان ما تنحرف عن إطارها التعليمي المباشر لتنقلب إلى علاقة تسلطية عميقة الجذور غير مرئية تستند إلى منظومة القيم التسلطية المهيمنة على المجتمع العربي والمتصلة بأنساق الثقافة، والأخلاق العامة، والسياسة، وعلاقات الرجل بالمرأة. فتتحول العملية التعليمية من مرافقة للطفل في مسيرة اكتساب المعرفة إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عنده، ويتخذ المعلم لنفسه طابعا من القداسة يحرص على إحاطة نفسه به ساعيا في ذلك إلى التماهي هو نفسه مع الثقافة السائدة، ويسقط في إقصاء الآخر، المتعلّم، رافضا كينونته في سبيل فرض كينونته هو أفقا وجوديا وحيدا أمام المتعلم لا سبيل له إلا الذوبان فيه.
ومما يزيد الأمر خطورة أنّ الرأي العام السائد يعتبر المعلّم القاسي المتجبر في قسمه الصارم أعلى درجات الصرامة هو المعلم الناجح في عمله، والأكثر إفادة للتلميذ. وما يجعل لهذا الرأي سلطة على أذهان الناس هو أنه يأتي ترجمانا عن المفاهيم التربوية والأخلاقية السائدة في المجتمع من جهة، ولأنه يخلق ضربا من التوافق بين التسلط التربوي في المدرسة والتسلط التربوي في الأسرة من جهة أخرى. فالسمة السائدة على مؤسساتنا التعليمية هي سمة السلطوية التي ورثها نظامنا التعليمي المدرسي عن النظام التربوي التقليدي في العائلة. وبذلك لا يزيد دور المعلم بلغة بورديو، عن أن يعيد إنتاج سلبيات التربية العائلية ويكرّس النظام التربوي المجرد المبثوث داخل أنساق متعالية على المعلم والمتعلم معا. ويكون ثمار ذلك كلّه عجز المدرسة عن أن تنهض بالدور الأصلي للعملية التربوية. فالهدف من التربية عملياً هو تحقيق النمو والتكامل والازدهار في شخصية الإنسان، وممّا لا شك فيه أنّ الطفل يتشكل وجدانياً وعقلياً وجسدياً في إطار الأسرة بالدرجة الأولى، وإن علماء النفس والتربية يجمعون على التأثير الحاسم للتربية في السنوات الأولى من عمر الطفل. وعلى هذا النحو تغدو المدارس التي تنفق الدول نصيبا وافرا من ميزانياتها على بنائها وتعهدها، مجرد معامل لإنتاج أفراد مشوّهين معقدين فاقدي الثقة في أنفسهم. وبدلا من تكوين أجيال المستقبل، تتحول مهمة المعلمين الفعلية إلى تهديم تلك الأجيال.
الرواية العربية والعنف التربوي
إنّ قارئ الرواية العربية منذ بداياتها البكر يلامس في كثير من النصوص احتكاكها بالمنظومة التربوية، ما اتصل منها بالمدرسة، وما تعلق منها بالأسرة خاصة. فقد سعى الروائيون العرب إلى محاورة السائد من القيم والمواضعات والنظم الموجهة لهذه المنظومة، ومصادمتها، والسعي إلى قلقلتها وزحزحتها من دائرة المطلق إلى فضاء النسبيّ.
لقد مثّلت التربية التقليديّة المدخل الذي نفذت منه الرواية العربية لنقد منظومة الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة والأخلاقيّة في المجتمع العربيّ، والتحريض على زحزحتها وتغييرها والتمرّد عليها. فعبر حديث الرواة عمّا تلقّوا في صباهم أو ما تلقّاه أبطالهم من تنشئة، تسلّلت النصوص إلى ما يكمن وراء طرائق التربية التقليديّة من بنى ثقافيّة وحضاريّة وقيميّة عميقة، صاغت الرؤية التقليديّة للوجود والقيم وعلاقة الفرد بجسده وبالمجتمع وحدّدت قائمة النواهي وبيّنت طرق التعامل مع الآخر. فكانت سخرية الرواة حينا وانتقادهم المرّ حينا آخر للتربية التقليديّة كما عرفوها أو عرفها أبطالهم، مجالا لإدانة منظومة قيميّة وثقافيّة أوسع، والدّعوة إلى إحداث تغيير جذريّ يمسّ الأفكار والمفاهيم والعلاقات السّائدة بين الأب وابنه، والمرأة والرجل، والمعلّم وتلميذه، والفرد والمجموعة.
ففي رواية «إبراهيم الكاتب» لإبراهيم عبدالقادر المازني مقاطع كثيرة حمل فيها حملة هوجاء على تخلف تربية البنت في المجتمع المصري في عشرينات القرن العشرين. فلا يزيد كل ما تتلقاه البنت من تربية على أن يكون إعدادا لها للزواج. وممّا يدلّ على نفوذ فكرة الزواج على المرأة استواء الأختين في الرواية سميحة المتعلّمة بإحدى المدارس الفرنسيّة مع أختها نجيّة الأميّة، في فهمهما للزواج ونظرتهما إلى الرجل. فرغم ما تلقّته هذه الفتاة من معارف حديثة، فإنّها في أعماق تكوينها الثقافيّ والنفسيّ، لا تختلف في شيء عن أختها. فمن أجل أن تظفر بزوج، عملت كلّ حيلة واتخذت كلّ سبيل ممكنة وغير ممكنة، فاختلفت إلى العرّافات تستجديهنّ زوجا وحاولت وسعها أن تتقرّب إلى إبراهيم. إنّ تصرّفات سميحة هذه، وإن كانت تبرهن على أنّ التعليم مهما كان حديثا مازال بعد عاجزا عن تغيير العقليّات الثابتة، ضعيف التأثير في بنية الشخصيّة، فإنّها تؤكّد كذلك أنّ الزواج بالنسبة إلى المرأة قضيّة حياة أو موت، من أجله ينبغي أن تصارع وتقاوم.
مثّلت التربية التقليديّة المدخل الذي نفذت منه الرواية العربية لنقد منظومة الأعراف والتقاليد الاجتماعيّة والأخلاقيّة في المجتمع العربيّ، والتحريض على زحزحتها وتغييرها والتمرّد عليها
على هذا النّحو ربط راوي «إبراهيم الكاتب» بين إحساس «شوشو» بالوحدة والعجز عن أن تبثّ لواعج قلبها وبين آداب التنشئة التقليديّة التي تمنع الفرد العربيّ رجلا كان أو امرأة من التعبير عن حقيقة مشاعره الحميمة، أو حتّى الاستماع إلى غيره يسترسل في البوح عمّا في دواخله من شوق للحبيب وتحرّق إليه. وولّد هذا اليأس من «الأذن الصّاغية» و»القلب المتعاطف» إحساسا متعاظما لدى «شوشو» بالوحدة والعزلة وصوّر لها وجودها بين الناس وكأنّها في جزيرة منعزلة وسرعان ما تعالى صدى هذا الشعور صرخة احتجاج مريرة: «لماذا خلقها الله في مصر؟ لماذا يضرب عليها هذا الشقاء ؟» (ص 182).
ولم يكن التجاء بطل رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، إلى باريس طلبا للعلم وحده بل لعلّ العلم لم يكن غير مبرّر للخروج عن الحدود، حدود الوطن وحدود الأعراف والتقاليد التي حكمت أن يعيش الرجل والمرأة كائنين منفصلا أحدهما عن الآخر، لا سبيل إلى أن يتلاقيا ويتعارفا معرفة طبيعيّة كاملة، فيظلّ جسداهما أبكمين وتظل روحاهما عمياوين. فرحلة البطل قبل أن تكون رحلة علم هي رحلة تحرّر روحيّ ونفسيّ وجسديّ.
إنّ الاحتجاج اليائس من حبيبة «إبراهيم الكاتب» على انتمائها إلى مجتمع يحرم الفرد حقه في التعبير عن ذاته بصدق، نجده في «الحيّ اللاتينيّ» لسهيل إدريس قد أضحى وسواسا يلحّ على البطل لمغادرة الوطن والتحرّر ممّا شبّ عليه في عائلته من آداب وقواعد سلوك، راضته على أن يطمس ذاته ويخفي حقيقته ليكون الشخص الذي يريد له أبوه وأمّه أن يكون. فكانت رحلته إلى فرنسا في بعد من أبعادها رحلة تحرّر من ربق القيود العائليّة وبحث عن الهويّة المستلبة واستعادة للذّات بعد أن ضاعت زمنا وهي تكرّر صورا لها مزيّفة. غير أنّ الرحيل عن الوطن لا يؤدّي لزاما إلى التخلّص من أثقال الماضي، فما يتربّى عليه المرء في طفولته الأولى، يظلّ راسبا في أعماق شخصيته، متشبّثا بوجدانه. لذلك وجد بطل «الحي اللاتيني» صعوبات كبيرة أوّل عهده بـ»باريس»، حتّى يطرح عنه شخصيّته القديمة ويدع ظهريّا ما أكسبته تربيته العائليّة من سلوك وطرائق في التصرّف مع الآخرين.
وقد ألحّ الرّاوي على البطل في مناسبات كثيرة ليتحرّر من طباعه «الشرقيّة» القديمة ويتخفّف ممّا اعتاده في وطنه من رصانة ووقار وتهيّب وحذر من الآخرين وكبح لنوازع الذّات ورغباتها. وجعل الراوي في تخلّص البطل من طباعه التي نشأ عليها شرطا أساسيّا لاقتحام غمار الحياة «الحقيقيّة» وجني ثمار تجربته في «باريس»، بل لقد ذهب أبعد من ذلك فاعتبر هذا الشرط أساسيّا لتجاوز البطل مرحلة الطفولة ودخول مرحلة الرجولة. ولعلّ في تشبيه الرّاوي البطل في رصانته وتهيّبه «بالطّفل في سنيّه الأولى» حكما عامّا على التربية التقليديّة في الوطن العربيّ، إذ فشلت في تهيئة الفرد العربيّ ليستقلّ عن السلطة العائليّة الأبويّة ويكون مواطنا ناضجا قادرا على التصرّف واتّخاذ قراراته الشخصيّة وفقا لما تمليه عليه الحريّة والمسؤوليّة. فكانت نتيجة هذا الفشل تعاقب أجيال لا عدّ لها من الرجال والنساء، حكمت عليهم العائلة والأعراف والتقاليد وآداب «الحشمة» أن يظلّوا طيلة أعمارهم «أطفالا أبديّين» يتعثّرون في خطاهم، مستندين إلى آباء حقيقيين حينا ورمزييّن حينا آخر، لا قوّة لهم على الشكّ والتفكير والرفض واتّخاذ القرار والفعل والخلق. فألقى كلّ ذلك بظلال سوداء على الحضارة العربيّة جمعاء، فساد العجز والتخلّف وتتالت الهزائم وطال زمن التّيه.
هذه القضيّة نفسها أثارها «بهاء» في رواية «أنا أحيا» لليلى بعلبكي، حين قارن بين تعامل الأب الأميركي مع ابنه وتعامل الأب العربيّ. فلدى تعبير «لينا فيّاض» ذات مرّة عن خوفها وهلعها من الفراغ، حدّثها «بهاء» عن زيارة له وجمع من صحبه إلى بيت أستاذهم الأميركي. وفي البيت وقف من خلال لوحة بسيطة معلقّة على حائط قاعة الجلوس على عظم الفارق الحضاريّ بين التربية التي يتلقّاها الطّفل الأميركي وتلك التي يتلقّاها الطّفل العربيّ: «(…) وفي صالون بيته -بيت الأستاذ- وقفنا ساخرين من إطار فنيّ رائع يلتفّ حول لوحة زجاجيّة، تخفي دولارا! ولاحظ الأستاذ أننّا نخبّئ في أعبابنا ضحكة ساخرة، فتقدّم منّا وعلى شفتيه هو ضحكة معتزّة، وأخبرنا أنّ الدولار هذا، هو ثمرة أتعاب ولده في عمل قام به أثناء العطلة الصيفيّة وهو في الحادية عشرة من عمره. ونظرنا بعضنا إلى بعض -نحن الشباب العربيّ- متسائلين! وفتشنا عن ثمرة أتعابنا في أطر حياتنا، وفتّشنا عن آبائنا، وفتّشنا عن فرديّتنا، في أسرتنا على الأقلّ. فإذا نحن مستعبدون! نحن عبيد لأبينا وأمّنا وإخوتنا وأقاربنا. وهذا الأميركي الذي يتقاضي أكثر من خمسة آلاف ليرة شهريّا، هذا الرّجل دفع ابنه إلى العمل وحرم ثمرة أتعابه، ورعى جهوده وتعليمه ليبدأ ابنه تحرّره: خطوة.. خطوة.. عن أهله» (ص 150). وكان لا بدّ بعد هذا الاستنتاج أن يعود «بهاء» إلى ذاته وأبيه ووطنه وثقافته فيقيم المقارنة الحضاريّة «صرصر أسنانه حنقا وعاد إلى الكلام… أمّا نحن، نحن الشباب العربيّ، فنظلّ طفيليّين، نعيش على كيس الوالد الرنّان، أو يعيش الوالد على دمائنا لأنّه هو أوجدنا. ويعتزّ الوالد عندنا بجبروته فيحكم القيد في أعناقنا. ونرضخ نحن لهذا القيد، لأنّنا لا نساوي شيئا في الوجود ونحن البعيدون عنه! وسكن»، ثم تابع وأنا ذاهلة «أمّا إذا حاول أحدنا أن يفطم حياته عن حياة أبيه، فهو عاقّ، متمرّد. هو لعين إلى الأبد! وهو أكثر من ذلك: هو مقتول طوال حياته، بصراعه. ووحدته. وألمه !» (ص-ص 150-151).
يرسم بهاء في هذه الفقرة الأخيرة من الشّاهد، صورة فظيعة لوجود الشابّ العربيّ. فوجوده كلّه لا يعدو أن يكون جزءا من وجود الأب وامتدادا له. فحتّى بعد أن يكبر الطّفل ويشتدّ عوده ويصير كهلا راشدا، فليس له يوما أن يقول «ها أنذا!» ويظلّ ما دام الأب حيّا، خاضعا لإرادته ورغباته، مطيعا أوامره، ملبيّا رغباته. وإن هو تمرّد على هذا الوضع، لاحقته اللعنة وحلّ به غضب الوالد والإله، وعاش منبوذا يشار إليه بالبنان.
وممّا لا شكّ فيه أن «للأب» هنا رموزا حضاريّة تتجاوز الأب والابن وما بينهما من علاقات دمويّة وروحيّة وعائليّة، لتصل إلى تخوم حضاريّة أبعد مدى، يجسّد فيها «الأب» منظومة سياسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة أكبر، يسودها الحكم الفرديّ والاستبداد بالرّأي، ورفض الاختلاف وقهر المعارضة، وتحريم كلّ مروق عن الإجماع، وسدّ كلّ المنافذ دون الفرد وتحقيق كيانه في حريّة واستقلال عن كلّ سلطة خارجيّة.
إنّ أهميّة حديث «بهاء» عن صلة الشابّ العربيّ بأبيه في سياق مقارنة هذه الصلة بعلاقة الأب الأميركي بابنه، لتتجلّى إذن في الإشارة إلى أنّ أسباب الهزيمة الحضاريّة ليست في العدّة والعتاد، وإنّما هي قبل ذلك طرائق في التربية والتنشئة عشّشت في وجدان الشباب العربيّ فأثمرت عجزا عن الفعل وشللا عن الخلق والمبادرة واحتقارا عميقا للذّات وتسليما قدريّا بكلّ سلطة خارجيّة.
لذلك فحين يتمرّد بطل الرواية على سلطة الأب ويكفر بتعاليم التربية التقليديّة، فإنّه إنّما يتمرّد على منظومة قيميّة وأخلاقيّة أكبر ويكفر بمواضعات وأعراف وتقاليد لم ير فيها غير تخلّف وعنف وهوان. ويكون موقفه بذلك رفضا للوضع الحضاريّ القائم ونشدانا لواقع آخر أكثر إنسانيّة وأقدر على تحقيق سعادة الفرد.
يحرص على إحاطة نفسه به ساعيا في ذلك إلى التماهي هو نفسه مع الثقافة السائدة، ويسقط في إقصاء الآخر، المتعلّم
ذلك ما أقدم عليه بطل «دار الباشا» للتونسي حسن نصر بتصميم ووعي. فبعد أن أطلعنا الرّاوي في مناسبات كثيرة على صور من عنف أبي البطل وتعامله الفظّ مع ابنه وفي الاسم الذي يحمله الأب «عبدالجبّار» من المعاني الثواني ما يؤكّد تسلّط هذه الشخصيّة واستبدادها، وبعد أن بيّن آثار تصرّفات الأب في نفسيّة الطّفل وما خلفّت في أعماقه حين غدا كهلا من تشوّهات وشروخ لا جبر لها، تدخّل البطل في آخر القسم الثالث من الرواية «النصف: زمن التيه»، ليختم مرحلة استذكار الطفولة بحدث تمرّده على الأب وخروجه من البيت العائليّ دون عودة. يقول البطل مبيّنا في البداية أسباب هذه الثورة «ضقت ذرعا بنفسي وبدت لي تفاهة حياتي، نظرت إلى أندادي، كيف هم يذهبون إلى المدارس، يحملون محافظهم في أيديهم، ويقرأون الكتب، ثمّ يخرجون جماعات جماعات. يتحدّثون ويتناقشون ويضحكون من أعماقهم فرحين، وأنا مكبّل في القيود بين الكتّاب والدكّان وحلقات الذّكر. حفظت القرآن عن ظهر قلب وأعدت حفظه حتّى تآكلت الألواح في يدي ونبتت أظلاف في كعاب قدمي من طول الجلوس على الحصير. حفيت أصابعي بطراوة الطّين، وأنا أمحو الألواح وأعيد كتابتها، بينما دار الباشا من حولي تكاد تضجّ بالمدارس. والمدارس توشك أن تأخذ بأعناق الناس، وتقتحم بيوتهم وعيونهم، تكاد تتعرّى لهم. ونظرت إلى نفسي. فوجدتني أمشي مضطربا وأنا أرتعد من الخوف، أنثني وأنكمش مثل ورقة بيضاء تحترق. والخوف يلاحقني، يتبعني إلى ما وراء الجدران، ينخر عظامي، يتسلّل إلى داخل فراشي عندما أدخل تحت الغطاء أو أكون وحيدا» (ص 142).
يبدو واضحا من هذا المقطع أنّ آلام البطل الفرديّة النّاجمة عن قساوة طفولته الأولى تخفي وراءها ثقافتين تتصارعان وتزاحم إحداهما الأخرى، وقد كانت ذات البطل مسرحا لذاك الصراع وهذا التزاحم. الثقافة الأولى هي الثقافة التقليديّة وأبرز مكوّناتها تعليم دينيّ قرآنيّ أهمّ مقوّماته التلقين والحفظ والتكرار والالتزام الصّارم بما سنّ وتقرّر منذ مئات السنين. أمّا الثقافة الثانية فحديثة النشأة وافدة، تحمل شذى من سحر الغرب وتقدّمه، يلمع منها بريق فاتن في مرح تلاميذ المدارس الحديثة وانطلاقهم وجمال هيئاتهم. الثقافة الثانية لا يعرفها البطل ولكنّه يراها أمام عينيه كالبرق الخلّب فيحلم بها ويرجوها وينشدها، أمّا الثقافة الأولى فقد تربّى عليها في البيت العائليّ ولقّن إيّاها في الكتّاب و»جامع الزيتونة» فاقترنت عنده بكلّ ما يدلّ على العقاب والضرب والحرمان وشظف العيش. وقد كان الأب «التمثال» الأقرب إلى البطل والأوضح له تجسيدا لهذه الثقافة. لذلك كان لا بدّ أن ينطلق التمرّد على الثقافة التقليديّة بإعلان العصيان على الأب.
ما وراء العنف التربوي
يتّضح لنا إذن أنّ التمرّد على التربية التقليديّة في «دار الباشا» شأنها شأن أغلب الروايات المدروسة، كان مدخلا للوصول إلى طرح قضايا اجتماعيّة وثقافيّة وحضاريّة تتجاوز التربية التقليديّة في حدّ ذاتها. فقد رأينا أنّ هذه المسألة سرعان ما تفرّعت في النصوص إلى مسائل أخرى تمثّل أركانا أساسيّة في منظومة القيم والأعراف الاجتماعيّة والأخلاقيّة من قبيل: منزلة الفرد في المجتمع العربيّ، والتضييق على الحريّة الفرديّة بدءا من الأب والعائلة فالمجتمع والأخلاق إلى الحاكم والسّلطة، والفصل بين الجنسين، والتشبّث بعادات ومواضعات بالية، وانتشار الجهل والتخلّف والنّفاق، وتفضيل العنف على الحوار والخرافة على العلم.
فإذا بالقارئ ينصت في أصوات الرواة صادعة بإدانة المنظومة التربويّة، إلى صدى خفيّ لأسئلة عميقة مدارها موقع الحضارة العربيّة اليوم بين الأمم والحضارات الأخرى، والعلاقة التي يجب أن تكون لنا بماضينا ومستقبلنا حتّى يكون لنا موقع في حاضرنا. إنّ إدانة منظومة التربية التقليديّة لا تبدو لنا منفصلة عن هذا الهمّ الحضاريّ الأكبر، بل إنّ وظيفتها الأساسيّة زرع القلق عند القرّاء واستغلال فضاء النصّ الروائي للبحث في قضايا الهويّة والأصالة والمعاصرة وعلاقتنا بالغرب، واستنهاض الهمم للتفكير في سبل التقدّم.
وعلى هذا النّحو يغدو نشدان الحريّة الفرديّة استعارة لتوق جماعيّ إلى التحرّر الحضاريّ، والانعتاق من إسار الماضي بقيوده الثقافيّة والأخلاقيّة، والقفز على الحاضر بتخلّفه وضعفه وهوانه.