الرسام والعروس
يتوجه الرسام نحو سلّم تناثرت على جانبيه أغراض مختلفة وبعض الملابس الوسخة، يصعد من الطابق الأرضي وهو يرتدي ملابسه المخصّصة للرسم والملطّخة بالألوان. أطفاله في الأسفل يلعبون وهم يحملون سندويجات أعدتها لهم الأمّ. كانوا حفاة وسخين وثيابهم ممزّقة. ورغم لوحات البؤس التي رسمتها الطبيعة في منزل الرسّام إلا أنه كان يرسم لوحات لا تمتّ للبؤس بصلة، ربما كان يرسم أحلامه، ولا أحد يرسم أحلامه بائسة.
كان يصعد السلّم وهو يلعن أطفاله الذين أفسدوا عليه نومة الظهيرة، على أنه في الحقيقة لم يكن نائما، فقد كان الحر شديدا جدا في ذلك الصيف العراقي الأصيل. كان يتقلّب على الفراش كأنه يتقلّب على الجمر، الكهرباء مقطوعة وعرقه لا ينقطع عن تصبّبه على وجهه ومن كل أنحاء جسده، في تلك الغرفة التي هي ساونا أكثر ممّا هي غرفة.
كان الأطفال يلعبون ويصرخون في باحة البيت، فكان ذلك سببا مناسبا وفرصة سانحة لتفريغ غيظه فيهم والتنفيس عن نفسه. «أولاد الكلب» صرخ بهم، ثم انهال عليهم يرميهم بكل النعل التي وجدها عند باب الغرفة. هرب الأطفال كأنهم أرانب، بعد أن نال بعضهم نعلا على رأسه أو على ظهره، واحتموا بأمّهم التي منعت الزوج عن الاستمرار في ضربهم. كان الأطفال يبكون وهو يستمر في اللعن. هدّأت الأم أطفالها وعرضت عليهم سندويجات من الطماطم والخيار لفّتها بيدها، ثم قالت لزوجها «لماذا لا تصعد وترسم لوحة ما لتنفّس عن غضبك؟ أليس هذا أفضل من رمي النعل على هؤلاء الأطفال؟». في الحقيقة كانت فكرة جيدة، طريقة مناسبة لقتل الوقت في تلك الظهيرة التي سكن فيها الوقت كما سكنت نسائم الهواء.
فكان يصعد السلّم بكسل حاملا بيده دولكة ماء بارد تطفو فوقه قطعة ثلج وهو يلعن ويسب، يقذف باللعنات المنتظمة على طرف لسانه على أولاده، على تلك الظهيرة وعلى الحرّ. كان أستوديو الرسم الخاص به عبارة عن غرفة في الطابق العلوي، مليئة بالأغراض المبعثرة هنا وهناك: أكياس معبأة بالملابس، قدور كبيرة وسوداء من شدة السخام، أوان قديمة، مدفأة ينام عليها الغبار، برميل نفط أزرق وأشياء أخرى.
تعبق في الغرفة رائحة التراب والعفن والأصباغ والنفط، وتفوح من كومودينو صغير وضع في إحدى الزوايا رائحة العرق. تتناثر على أرضيتها الإسمنتية الرصاصية بقع ألوان مختلفة. في ركن من الغرفة قرب الشباك ينتصب حامل خشبي قديم تعتليه لوحة عذراء ناصعة البياض، لم تلوّثها الألوان بعد. بينما صُفّت في ركن آخر مجموعة كبيرة من اللوحات غُطيت بقطع من النايلون وقد تراكمت فوقها طبقات الغبار. كانت تنتصب جنب الحامل الخشبي طاولة عليها علب الألوان، عصارات شبه فارغة ملطخة بألوانها، فرش مبعثرة وقطعة خشب لا يعرف لها لون لشدة ما مزج عليها من ألوان مختلفة.
أول ما توجهت إليه أنظاره حال دخوله مرسمه كان الكومودينو الصغير. أغلق باب الغرفة ثم توجّه صوب الكومودينو، وضع الدولكة فوقه ثم فرك يديه وأخرج من جيبه مفتاحا صغيرا فتح به الكومودينو. كان الكومودينو خزنته الصغيرة التي تحتوي على كنزه الكبير: بطل العرق.
وفي الحقيقة فقد سبب له بطل العرق هذا الكثير من المشاكل في البيت. كان يعود إلى بيته سكرانا يتطوّح وبيده البطل بما تبقى من العرق ملفوفا بكيس أسود، يغنّي بصوت عال في منتصف الليل، فتتشاجر معه زوجته قائلة «أليس من الأفضل أن تشتري ملابس لأولادك بدل هذا الخراء». فيجيبها بضحكة عالية لا غير، ثم يأمرها أن تجلب له الطعام، فكانت تقول له أن لا طعام لديها، فقد أكله الأطفال. فتثور ثائرته وقد سبب له العرق جوعا كيميائيا، ويتشاجر معها ويشبعها ضربا. تذهب في اليوم التالي إلى بيت أهلها وتخبر إخوتها بما جرى، فيشتد غيظهم ويمنعونها من العودة إلى بيتها أياما، فتبقى عندهم مع أطفالها.
يذهب هو متوسّلا، يعدهم أن هذا لن يتكرر مجددا، إلا أنه يتكرر دائما. حتى وصل الحال بإخوتها أن تشاجروا معه وأشبعوه ضربا، ولكن لا فائدة. ورغم حالة البؤس التي يعيشها فهو لم يترك أبدا خليله بطل العرق. كان يعمل حمّالا تارة وعامل بناء تارة أخرى، كان يمارس أيّ عمل يصادفه في سبيل توفير المال من أجل العائلة وزجاجة العرق. لم تجلب له شهادة تخرجه من كلية الفنون الجميلة التي كانت مؤطرة ومعلقة على الجدار وقد غطّاها الغبار، أيّ وظيفة. وحينما عاد يوما من الأيام ثملا، نظر إليها طويلا ثم أنزلها ورماها على أرضية الغرفة الإسمنتية فتهشم زجاجها، وراح يسحقها بقدميه في رقصة هستيرية.
كل ما جناه من الرسم هو بعض الدولارات التي كان يحصل عليها لقاء بيع إحدى لوحاته حينما لا يجد عملا، بعد أن يقدم شرحا طويلا عن المعاني الفنية التي تزخر بها لوحته. كان المشتري دائما ما يقابل ذلك الشرح بلا مبالاة وضجر، وهو يحسبه مجرّد ترويج للّوحة، وأن الرسّام يستجدي المال بطريقة فنية بائسة. في حين كان الرسام يقول إن لوحته تساوي الكثير، ولولا العوز لما باعها.
كان يقول في نفسه إنه فنان مظلوم، ولد في المكان الخطأ، ولو أن لوحاته سوّقت إلى أوروبا لتكالب عليها عشاق الفن ولأصبح شهيرا وثريا، ولكان بوسعه أن يحتسي أجود أنواع النبيذ. لكنه كان مجبرا على قبول الدولارات القليلة التي يتصدق بها مشترٍ ما، وقد نفد ما عنده من المال فلم يعد بوسعه حتى شراء زجاجة العرق. يأخذ المال، يتسوّق لعائلته بعض الطعام ولنفسه بعض العرق.
ها هو الآن أمام زجاجته الأثيرة التي أخرجها من الكومودينو مع كأسه أيضا. يكسر الثلج ويضعه في الكأس ثم يسكب العرق، بعد لحظات يتحول إلى اللون الحليبي الذي يسحره. يشرب الكأس الأوّل ثم الثاني والثالث، ينتشي وينسى البؤس والحرّ والزوجة والأطفال، يبتعد شيئا فشيئا عن العالم المحسوس كبحّار يبتعد عن الشاطئ. يتطوّح برفق باتجاه الحامل الخشبي، يقف أمام اللوحة العذراء. «أنت عروسي أيتها العذراء، سنقضي أنت وأنا أعذب الأوقات» يقول مخاطبا اللوحة. لكنه يغادرها ويتجه نحو الشباك، يستند على مقدمته وينظر في البعيد. يطل من نافذته من الطابق الثاني على السوق الشعبي للحيّ، لا يزال شبه فارغ في تلك الظهيرة الحارة.
يلوح في ذهنه خاطر غريب: أن يرسم لوحة لم يقدِم رسام من قبل على رسمها، ملحمة حقيقية تجسد واقعا لا يخطر على بال أحد، واقعا تهرب من رؤيته الأعين وتبتعد عن التفكير به العقول. قرر أن يرسم السوق في لحظة لم تخطر على بال أحد. كيف ذلك؟ فكّر في نفسه وقد تملّكه الرعب! لعله ثمل جدا ونال منه العرق حتى يفكر في شيء كهذا. لكنه ابتسم وقال في نفسه «بل سأرسمها، لوحة حية، لن ينساها الفن وسوف تخلدني أبد الدهر».
تناول فرشاته ولكنه بدل من أن يقف أمام لوحته العذراء وقف قبالة الشباك، أطل على ذلك السوق الشعبي وبدا يلوّح بفرشاته. كان يرتشف من كأسه ثم يلوّح بالفرشاة وهو يضحك، ولا يعرف إن كان يضحك من نفسه وجنونه أم من السوق ومَن فيه. بدأ يعمل على لوحته الافتراضية بدأب، يأخذ رشفة من الكأس ثم يعود للوحة. أول ما عمله هو أن خفف من وطأة الشمس، رسم الظل وهو يزحف شيئا فشيئا ليخيم على السوق، بعدها صار يرسم الأشخاص، يكثر منهم حتى صار السوق يغص بالمارة. عاد إلى الوراء وتأمل لوحته، كان إطارها الشباك ذاته.
انتعشت روحه وهو يتطوّح والكأس بيده وينظر إلى لوحته الحيّة. كان قد رسم المارة وهم يسيرون، وها هو الآن يراهم يسيرون فعلا! يا للهول، إنها لوحة حقيقية، لوحة لحياة حقيقة لن يرسم مثلها فنان قط، قال في نفسه. ثم عاد واقترب من الشباك وصار يفكّر، لا يزال ينقص اللوحة الكثير، ليس فيه سوى المارة، أين الباعة المتجولون؟ أين الحمالون؟ أين السيارات؟ ها، السيارات لا تدخل إلى السوق، تذكر. جعل يلوّح بفرشاته، رسم الباعة المتجولين، رسم الأشخاص وهم يعاملون من أجل شراء حاجيات مختلفة. ثم دأب بعد ذلك على رسم الحمالين، رسم حمالا وهو يحمل علبة كارتون على كتفه.
ثم تأمله قليلا وقال في نفسه: الحمال عادة لا يحمل علبة واحدة فقط! فجعل يرسم علبا أخرى على كتف ذلك الحمال، ثم تأمّله وهو ينوء بثقل علب الكارتون الكثيرة وقال: هذا جيد، ثم ارتشف جرعة من كأسه. جعل يلوّح بريشته كأنه مايسترو يقود فرقة موسيقية، يرسم الرجال والنساء وملابسهم بألوانها المختلفة، الشباب وهم يعاكسون الفتيات، الأطفال وهو يلعبون هنا وهناك. ثم تذكّر أن بعض الأطفال يعملون في بيع أكياس التسوق، فرسم بعضهم وهم يتوسّلون المارة لبيع أكياس سوداء أو صفراء. كان السوق في كامل حلّته، يغصّ بالمحال التجارية والباعة المتجولين والمارة والأطفال، كان يسمع صراخهم، يسمع مناداة الباعة على سلعهم ويسمع صراخ الأولاد وهم يلعبون، بل ويسمع حتى الكلمات التي يتفوّه بها الشبان حين معاكستهم للفتيات اللواتي يضحكن بخجل مصطنع.
رجع الرسام خطوتين إلى الوراء وتأمل لوحته: أيّ إبداع هذا، هتف. ولكن شيئا من الرعب قد خيّم على سحنته، ها قد اكتملت اللوحة ولم يعد هناك ما يجب إضافته سوى اللمسة الأخيرة. كانت اللمسة الأخيرة تحتاج إلى سيارة، لكنه يعلم أن السيارة لا تدخل إلى ذلك السوق فكيف له أن يفرضها على اللوحة! خطرت في ذهنه فكرة جهنمية، لا حاجة للسيارة، سيدخل عربة يجرّها حمار. دأب يرسم العربة، جعلها عربة كبيرة ثم رسم حمارا يجرها وشابا بملابس رثة يقودها. ها هي العربة الآن تسير وسط السوق ببطء من شدة الزحام. والآن جاءت المهمة الصعبة، وصل إلى اللحظة الحاسمة: كان السوق بكامل زينته، والعربة كانت تسير وسط الباعة والمحال والمارة.
عاد خطوة إلى الوراء، رفع يده إلى الأعلى بشكل مسرحي والفرشاة بيده وهو يحاول أن لا يتطوح، ضرب علامة X على العربة ثم رفع الفرشة من الأسفل إلى الأعلى. في تلك اللحظة انفجرت العربة انفجارا عظيما وتصاعدت منها النيران والدخان، كان الدخان أبيض أول الأمر، ما هذا، قال في نفسه، ثم صار يحرّك بالفرشاة حتى أصبح الدخان أسود. فجأة تفجرت النيران في السوق وكأنّ بركانا تفجّر، فتراجع الرسام إلى الوراء مرعوبا وقد خاف أن تطاله تلك الحمم. في تلك اللحظة خرجت اللوحة عن سيطرته، فصار يرى أشياء لم يرسمها تحدث أمامه: مثلا إن باب الحمام العمومي قد خُلع لحظة الانفجار وإذا برجل كان يتبوّل، قد هبّ واقفا من الرعب وأعضاءه التناسلية تتدلى تحت بطنه. كاد الرسام يضحك، ولكنه سارع بفرشاته ليلبس الرجل بنطاله، على أنه غيّر رأيه وتركه كما هو، أحسّ أن وجوده قد يضفي الكثير إلى اللوحة. صارت الأحداث تتوالى بسرعة وهو يحاول السيطرة على لوحته قدر المستطاع.
كانت العربة محملة بالكثير من المتفجّرات، فأكلت النيران كل السوق والأشخاص والبضائع أيضا. كان هناك أشخاص يحترقون مثل أعواد الثقاب، خامدين في أماكنهم والنار تلهب فوق أجسادهم، بينما آخرون تقطعوا إلى أوصال متناثرة. مثلا شاهد رجلا وقد انقسم إلى نصفين، فكان الصدر والرأس على أرض السوق، بينما النصف الآخر المكوّن من الحوض والقدمين قد ارتمى فوق الحمام العمومي. لكن أطرف وأغرب ما شاهده هو أن الشاب الذي كان يقود العربة وحماره لم يبق منهما سوى رأسيهما، كانا قرب بعض شبه غائصين في مجرى ماء آسن، وقد ارتسمت على شفتي الشاب ابتسامة بليدة. تناثرت أوصال الأطفال هنا وهناك أيضا، وكان أحدهم ينام تحت نيران الأكياس التي كان يود بيعها ليعيش، ولكن ها هي الآن تحرقه حتى صار فحما. شاهد أيضا رأس طفل مقطوع بوجه يشبه وجه ابنه الصغير، فتملّكه الرعب وقام على عجل بمسح الرأس من اللوحة.
تراجع الرسام خطوتين إلى الوراء ثم تأمل اللوحة وهي ترسم نفسها، فقال في نفسه: هذا جيّد، لن أغيّر الكثير فيها، ها هي تساعدني على نفسها. لكنه لما رأى سيارتي الإسعاف والإطفاء وهما تحاولان الوصول إلى مكان الانفجار قرر مسحهما، فرفع فرشاته ومحاهما من لوحته. ابتسم منتصرا ومنتشيا وقد أنقذ لوحته العظيمة. أطلّ من الشباك على مشهد الموت والرعب ذلك، فرأى شابا تلهب فيه النيران وهو يركض هائما على وجهه لا يعرف أين يذهب، كاد يبتعد عن إطار اللوحة، أي الشبّاك، فقام الرسام بتغير وضعيته وجعله يتمرّغ في التراب. بالقرب منه كانت هناك شابة احترقت عباءتها وثوبها وكانت النيران تأكل أفخاذها الطرية.
رفع الرسام كأسه عاليا أمام تلك اللوحة العظيمة وهتف: في صحتك يا لوحة العمر، سيخلدنا الدهر، أنت وأنا. رمى الفرشاة على الطاولة وأسند كأسه الذي لم يفارق يده طوال الوقت فوق الطاولة أيضا، ثم مدّ يديه وحمل لوحته الافتراضية ووضعها فوق اللوحة العذراء، والتي لم تعد عذراء بعد، حسبما كان يراها، فقد كساها الدم وتراكمت فوقها الأعضاء البشرية المقطعة. عاد إلى الشباك وأغلقه دون أن ينتبه إلى حقيقة ما يجري في السوق. جلس على الأرض، واتكأ على الحائط، مسح العرق عن وجهه.
أغمض عينيه وتبسم.