الليلة الأخيرة كما ترويها ماري
12 يوليو 1926
عجزتْ ماري عن النَّوم في تلكَ الليلةِ، والفجرُ يشقُّ طريقَهُ عبرَ تَدرًّجاتٍ لونيَّةٍ تُغرقُ عينَيْها بفَيضٍ مِنَ الضِّياءِ. فتحتْ عينَيْها ببطءٍ وصُعوبةٍ، مع ثمالةِ كَوابيسَ أيقظتْها مراتٍ، فيما كانتْ مَوجاتُ الرِّياحِ تُغيِّرُ مِن صَفيرِها وأنغامِها، مُنذرةً بالرَّعدِ والبَرقِ والفَيضان. كان الوقتُ مزيجًا مِن خُيوطٍ بيضاءَ وسوداءَ، مَخاضٌ عسيرٌ لولادةِ صباحٍ جديد، زادَ مِن شُكوكِ ماري لكنَّها تذكَّرتْ أنَّ سيِّدتَها الخاتون قد أوصتْ بإِيقاظِها عندَ الفجْر. ثمَّةَ خوفٌ انتابَها لا تعرفُ مَصدرَه، سارعتْ إلى الصَّلاةِ والدُّعاءِ والمُناجاةِ، تبادلتْ بعضَ الكلماتِ القصيرةِ معها قبلَ أن تَأوِي إلى سريرِها، لكنَّها تساءلَتْ مع نفسِها:
ما الخطْبُ يا إلهي؟! لماذا كلماتُ الخاتون مُتشائِمَة؟
حاولتْ ماري أن تُخمِدَ في نفسِها صورتَها الحزينةَ دُون جدوَى، صورةُ تِمثالٍ شَمعِي وسطَ فناءِ الغُرفةِ، رُبَّما بسببِ عدمِ وضْعِ المَساحيقِ والأصْباغِ، ومِمَّا زادَ في قلقِها ذلكَ الصَّمتُ الثَّقيلُ الذي خيَّمَ على المَنزِلِ، لا صوتَ يُسمعُ سوى خريرِ نهرِ دِجلة يتَناهى إلى سمعِها، قالتْ ماري، مُخاطبَةً نفسَها. هل مِن المَعقُولِ أن يحدثَ مَكروهٌ للخاتون، في تلك الليلة؟ أيَّامُها الأخيرةُ بدُونِ صَخبٍ، لا لقاءاتٍ على الشاي مع المَلك، ولا تقاريرَ سِياسيَّةً إلى التَّاجِ البريطاني، ولا استدعاءاتِ المَندوبِ السَّامي هنري دوبس، ولا شُيوخُ العشائِرِ والقبائِلِ عندَ بابِ منزلِها، ما الذي يحدثُ بحقِّ السماء؟ أغمضتْ الخاتونُ عينَيْها في فِراشِها، وغمرَها السُّكونُ والهُدوءُ، وعيناها تَبرُقان في الظَّلامِ كعيَنْي قطٍّ مُتردِّدْ.
الملائكَةُ تعُدُّ الزَّمنَ، ونحن مُجبَرون على انتِظارِه. هكذا خاطبَتْ صورةَ مَرْيمَ المُعلّقةَ على الجِدار.
يا إلهي! هل يُطلُّ ذلك الفجرُ ونتناولُ أستكاناتِ الشاي معًا؟
رُبَّما تَرى فجرًا آخرَ، لماذا آوتْ الخاتونُ إلى فِراشِها باكرًا، ولم تخرجْ إلى الشُّرفَة، ولم تطلبْ أستكانةَ الشاي المُعتادَة؟ لماذا ظلَّتْ نائِمةً لا تتحرَّكُ، ولم تستيقظْ لتَناولِ كأسَ ماءٍ باردٍ يُرطّبُ فمَها الجافَّ بحرارةِ الصَّيف. أسئلةٌ لا نفعَ مِنْ طرحِها، وتتذكَّرُ آخرَ كلماتِها: يا ماري، هل رأيتِ خُيوطَ الفجرِ البيضاءَ والرَّماديَّةَ والزرقاءَ تغوصُ في مياهِ دِجلة؟
نعم يا خاتون.
مَنْ يرَ هذا المنظرَ يحتضنْ العالَمَ بكِلتا يدَيْه.
سمعتِ هذا الكلامَ، يا خاتون؟
مَنْ قالَ ذلك؟
أحدُ مُلوكِ الأرْمن.
جميلٌ أن يتحدَّثَ المُلوكُ عن الفجْر.
تقاسمتْ العزلةَ ولُقمةَ العيشِ، والألمَ مع ماري.
يا ليتَكِ تَسهرين كي نرى الفجرَ معًا، وألوانَه مِن الأبيضِ إلى الرَّمادي إلى الأزرقِ، وما بينَهما مِنْ ألوان أعجزُ عن وصفِها، ولا تُسعفُني القواميسُ لمعرفتِها. لا طريقَ أمامِي سوى الغوصِ في تدرُّجاتِ ألوانِ بغداد اللامُتناهيَة: رمادي فاتحٌ، رمادي قاتمٌ، رمادي أزرقُ، رمادي أحمرُ. هل يوجدُ رسَّامٌ يصلُ إلى عبقريَّةِ الربّْ؟ أسألُ رُوحي مرَّةً أُخرى عن الألوانِ وأتابعُ تدُّرجاتِها يا أبِي. أنتُم لا تعرفُون هذه الألوانَ في ضبابِ لندن.
يخيِّمُ صمتٌ ثقيلٌ على بيتِها في تلك الليلة.
وأنتِ، يا ماري، تُمارسين واجباتِكِ ببراعةٍ وكفاءةٍ، أنتِ كنزٌ، تُبهجُكِ الأشياءُ الصَّغيرةُ، وتَجعلين البيتَ أكثرَ فَرحًا بحُضورِك، تَبعثين السِّحرَ في أرجائِه، في الشُّروقِ والغُروبِ، هل هو الذَّكاءُ الأرمَنِيّ الذي حاولَ الأتراكُ خنقَهُ؟
تنهدّتْ ماري بحُزن:
أتمنَّى أن تَكوني بأحسنِ حالٍ يا خاتون.
ثم أسندتْ ماري رأسَها إلى وسادتِها وبدأتْ تتذكَّر: لم تكُنْ الخاتونُ هكذا قبلَ سنواتٍ، فهي الآنَ حينَ تَستيقظُ في الصَّباحِ، تهرعُ إلى حديقتِها السّريّةِ في الهواءِ الطَّلقِ، تُصلِّي إلى شمسِ بغدادَ السَّاطعَة، ووجهُها مليءٌ بالأملِ، تنتصِبُ على الشُّرفةِ كأنَّها تخاطبُ جُمهورًا ينتظرُ كلماتِها، لا شيءَ سوى الكلماتِ، في بُرجِها هنا، ولا تُريدُ مُقابَلَة أحدٍ: العزلةُ جنّةُ الإنسان. إنَّهم يُقدّسونَني ولكنَّهم لا يُحبُّونني، دجلة رفيقِي في الجَريانِ والتفكيرِ والتأمُّلِ. لَطالَما كرهتُ الدُّمى التي تدورُ مِنْ حولِي، بعُيونٍ زُجاجيَّةٍ مُقرفةٍ، يُفزعُني الحُبُّ والفجْر.
في تلك الليلةِ، خلدتْ إلى النَّومِ، وإلى جانبِها علبةُ أدويتِها، وتكلَّمتْ معِي بغَرابَة: ماري، حاوِلِي أن تَجدِي أحدًا يَعتنِي بكَلبِي.
لوحة: علاء الأيوبي
عمرُك طويلٌ. يا خاتون.
لكنَّ النَّائِمَ كالميْتِ، يا ماري.
نومُ العَوافي.
أيقِظيني عندَ الفجرِ ولا تَنسِي استكانةَ الشاي العِراقي.
تُصبحين على خيْر، خاتون. أيقِظيني عندَ الفجْر. كانتْ آخرَ كلماتِها. علّقتْ على جُدرانِ غُرفتِها صُورَ مُقتنيَاتٍ ثمينةٍ، وأصرَّتْ على تَدشِينِ المُتحفِ في الأيَّاِم المُقبلَة. وقفتْ أمامَ خزانَةِ ثيابِها وهي تتهيَّأُ لمُقابلَةِ المَلكِ كما لو أنَّها ستُقابلُه لآخرِ مرَّة.
ماري…
نعمْ خاتون.
ماذا أرتدِي اليومَ للقاءِ الملك؟
هذا الثوبُ الحَريريّ الذي أرسلَهُ لكِ والدُكِ؟
هل أنتِ مُتأكِّدة أنَّهُ جَميل.
نعم يا خاتون، جميلٌ ويَليقُ برشاقتِكِ، ولكنْ ألا يَبدُو الثوبُ الأحمرُ مُتنافرًا مع الجاكيتْ الأسود؟
كلّا يا ماري. الأسودُ يتزاوجُ مع الأحمر، هل تَعرفين أنَّ الأحمرَ والأسود َعنوانُ رِواية سْتنْدال؟
رواية؟
نعم. قِصَّة..
لماذا لا تَضعين المَساحيقَ، يا خاتون؟
اللقاءُ رسْميٌّ يا ماري، والمَساحيقُ في نظرِكُم أنتُم العراقيّين تُنقصُ مِنْ وَقارِ المرأة.
ثم نظرتْ إلى الفَساتينِ الفارسيَّةِ، المُبهرَجَةِ مع الياقوتِ المَصقُول، المُخصَّصةِ للحفلاتِ التي هجرتْها في أيَّامِها الأخيرة.
ماري.
نعمْ خاتون.
هل يمكنُ أن تُشغِّلي أسطُوانَةَ موزارتْ على الغرامافون؟
موسيقى موزارتْ على إيقاعِ جَريانِ نهرِ دجلة في انهمارِ ضوءِ القمرِ وانعكاساتِه، تُرافقُه مرارةٌ، صدأٌ، وخيبةٌ، مرَّ طيفُ مُستشارِ الملك، كُورنواليس مرورًا سريعًا في ذهنِها، رجلٌ ألقتْهُ الإمبراطوريَّةُ في طريقِها كما هو الحالُ مع هنري وريتشارد، دارتْ في حلقةٍ من الرِّجالِ الرسميّين، ما بينَ الحربِ والدبلوماسيَّة، الأمرُ مُختلفٌ مع هذا الرَّجلِ، لكنَّ نُفوذَها يتراجعُ بخيبةِ أملٍ وإحباطِ شديدَيْن. هنري دوبس، المَندوبُ السَّامي الجديد، لم يُبدِ حماسًا لأفكارِها، عدا بعضِ مُجاملاتِ دعواتِ العشاء. والحالةُ نفسها مع الملكِ الذي تخلَّى عن طلبِ مَشورتِها السِّياسيَّة، بل عبَّرَ عن ضيقِه من مُحاولاتِ دسِّ أنفِها في الأُمورِ العُليا، دُون أن يقطعَ معها تَناولَ الشاي أو لَعبَ البريدجْ من حينٍ إلى آخر. عزلةٌ تنخرُ رُوحَها شيئًا فشيئًا، أطبقتْ عليها كليًا. واختفتْ مِنْ حياتِها كتابةُ اليوميَّاتِ والرسائِلِ. وفي هذا الأفقِ المُكلَّلِ بالسَّوادِ الحالكِ، برقَ آخرُ عملٍ لها في إِنشاءِ مُتحفِ بغدادَ الذي افتتحَهُ الملكُ، لكنَّها لم تلبثْ أن عادتْ إلى حياةِ العُزلةِ والاكتئابِ، مع وُرودِ أخبارٍ عن تَدهوُرِ صحَّةِ والدِها، لم تذهبْ إلى بريطانيا: لديَّ انطباعٌ قويٌّ بأنَّ الأُمورَ تصلُ إلى نهايتِها، ولا شيءَ مُؤكَّدٌ عمَّا سأفعلُه بعدَ ذلك. لا أحدَ ينتظرُني في دارِ الاعتمادِ البريطاني ولا في دائرةِ المَندوبِ السَّامي، ولا في أيِّ مكانٍ آخر.
الكتابةُ مثل الرقص
داخَ المُؤرِّخون في أمرِ الرَّاحلةِ ردحًا مِن الزَّمن. تخوَّفَ البريطانيُّون مِنْ قرارِ الخاتون بتَنصيبِها مَلكًا غريبًا على العِراقيّين. هنري دوبس قالً بخُبث: العِراقيّون أنبياءٌ ومُتسكِّعون، مُقيمون ومُهاجرون، مُنافقون وشُجعان، أشدَّاءُ ومُستَرْخون، فُحولٌ ومُخنَّثون، مُتنبِّئون وخُرافيّون، علماءُ ومُشعوِذون..
ضحكَ الأفنديَّة في مَقاهي بغداد على هذا الكلام، وهم يتساءلون: هل سيُلاقي هنري دوبس الطَّاعون العِراقي مثلَ الجِنرال ستانلي مود؟ بينما أقسمَ رجالٌ آخَرون أن يقصِمُوا ظهرَ هذا الوغدِ اللّعينِ الذي تجرَّأَ على شتْمِهم. ولكي يحافظَ على قبرِ الخاتون، عيَّنَ حارسًا عليه، يستلمُ راتبَه بالجُنيه الإسترلينِي لا بالدّينارِ العِراقي، واعتبَرَ مقبرةَ الإنجليزِ جزءًا مِن الأراضِي البريطانيَّة. وهذا ما بعثَ الخوفَ في نُفوسِ العابثين ونابشي القبور، وخفَّفَ مِن حماستِهم في الانتقامِ مِن الموتى الإنجليزِ رغمَ إيمانِ العِراقيّين بتَقديسِ الموتى، ووضعِهم في مَنازلَ رفيعةٍ كما فعلتْ آلهتَهم.
لم ينتهِ الجدلُ الذي أثارتْه الخاتون في مَقاهي بغداد برَحيلِها: لا العُّثمانيون المُنهزمون ولا الإنجليزُ المُنتصرون. كلاهُما لم ينجحوا في تهذيبِ أرواحِ العِراقيين، وتعاملوا مع الخاتون كَساحرَةِ كلماتٍ في سردِ حياتِهم فيما توغَّلَ عُشّاقُها مِن المُؤرِّخين وكُتّابِ السيَرِ والشُّعراءِ في عمقِ حياتِها أكثرَ فأكثر، وحرصُوا على زيارةِ قبرِها، حاملين أكاليل الزُّهورِ، تتنازعُهم فكرةُ الغِيرَةِ والنِّفاقِ، الصَّمتُ والثرثرةُ، وهم يصبُّون جامَ غضبِهم على الإمبراطوريَّةِ التي لا تَغيبُ عنها الشمْس. كانوا يَقفون خَجلين مِنْ عباراتِها البليغةِ، وأدَبِها الرَّاقيَ، وكلماتِها الرّصينة، ودبلوماسيّتِها الشفَّافة. ظلَّ الرقصُ على إيقاعِ الإمبراطوريَّة يرنّ في آذانِهم، وهم يُوارونَها التُّراب، مِنْ دُون أن يُدركوا أنَّهم يشيدون قبرًا خالدًا وسطَ الخرائِبِ، حيثُ لا تتجرَّأ أيُّ حكومةٍ مهما أُوتيتْ مِن القوَّة أن تتصرَّفَ بأرضِ المقبرة. وحارسُها الأبدي ابنُ منصور، المسيحيّ الساخرُ مِنْ كلِّ شيءٍ، استلمَ وظيفتَه على أنغامِ النشيدِ الوطنِيّ البريطانيّ وترديدِ القسَمِ «يا ربّْ احفظْ ملكتَنا»، وقالَ لهم ساخرًا: إنَّه يرفضُ الجنسيَّةَ البريطانيّة وليس بحاجةٍ إليها. جِنسيَّتي تمتدُّ إلى سبعةِ آلافِ سنة؟ أيُّها الأحمقُ، هل يوجدُ شخصٌ على الأرضِ يرفضُ الجنسيَّة البريطانيّة؟ هكذا كان مَنصور يفتخرُ بأبيِه ويعتبرُه بطلاً كلَّما ذَكرُه الآخرون. وهو الذي قامَ بتَرميمِ قبرِ الخاتون، وحافظَ على شاهدتِه الأصليَّة، وهو يتذكَّرُ: أثناءَ مرورِ بيرسي لورين، سفير بريطانيا لدى إيران في بغداد، أقامَ المَندوبُ السَّامي على شرفِه حفلةَ عشاءٍ عامرةَ، وقدَّمتْ فيها الراقصاتُ الرُّوسيَّاتُ عروضًا ساحرةً مِنْ حركاتِ الجسدِ الرَّشيقةِ جعلتْ الحاضرين يرقصون في مَقاعدِهم: تفرَّجنا عليهنَّ، وهُنَّ يلوينَ خُصورَهنَّ ببراعةٍ ومَهارةٍ خلبتْ أرواحَ المُتفرِّجين، وحرَّرتْ أجسادَهم مِن الخُمولِ والكَسل، سحرتْهم الأشكالُ الهندسيَّةُ البارعةُ مِن الأجسادِ الأُنثويَّة، فيما انزوت العِراقيَّاتُ وراءَ العباءاتِ السَّوداء. انبهرتْ عيْنا الخاتون بذلك الألقِ الأُنثوي الرُّوسي، ورُبَّما كانت تلك آخرَ مرَّة تشهدُ فيه حفلةً كهذه، ولم تُسعفْها خُطى الحياةِ إلى مثلِ تلك الحفلات. لم تكتبْ شيئًا في تلك الليلة، بل آوتْ إلى فراشِها بكلّ سَكينةٍ وطمأنينة، الكتابةُ مثلُ الرَّقصِ، كلاهما يَصهرُ الأعماقَ، ويُفجِّرُ الكُتلَ الجامدةَ في الجسدِ مثلَ يُنبوعٍ مُتفجِّرٍ أو فَيضانٍ هادرٍ، ولطالَما تساءلتْ الخاتون: ماذا تَعني الكتابة؟ أليست مُراقصةَ الكلماتِ وإزالةَ وَقارِها الكاذبِ ونفضَ الغُبارِ عن قواميسِها؟ لم تتركْ الخاتون أيَّ وصيَّةٍ سوى أقوالٍ مثلَ: احذروا لعنةَ التاريخ، المُنتصرُ فقيرٌ بخيالِه، والمَهزومُ غنيٌّ بأسرارِه. لكنَّ عزاءَها الأخيرَ، كما قالَ مُستشارُ الملكِ، أنَّها دُفنتْ في بَغداد، في مَدفنِ العُظماء، البانتِيون الرُّوماني الذي يُخلِّدُ المَوتى ويمنحُهم الروحَ الأُسطوريَّة التي يبحثُ عنها الأحياءُ والأمواتُ. ولا تزالُ الخاتونُ تُبصرُ مِنْ قبرِها نُصبَ الحريَّة، جِداريَّةَ فائق حسن، نُصبَ الطَّيارين، وحانَةَ الرافدَيْن، وغيرَها، فيما يَنحني المارَّةُ عندَ أسوارِ المقبرةِ البريطانيَّة في ساحةِ الطَّيران، احترامًا لما أنجزتْهُ: اختيارُ الملكِ، تَأسيسُ المُتحفِ، إنشاءُ مكتبةِ السَّلام، كتابةُ الدُّستور، وغيرُها مِن المَهامِّ، نوعٌ مِنْ برجِ بابِل، زقُّورةٌ رُوحيَّةٌ يتسلَّقُ طوابقَها ومُدرَّجاتِها العراقيُّون بالعُكّازاتِ، يأمَلون الوُصولِ إلى مكانٍ ما ولكنْ عبثًا، يَدورون حولَ أنفسِهم في لعنةِ البلْبلَة التي شتَّتَتْهم في أصقاعِ الأرضِ، بحثًا عن طُمأنينةٍ زائفةٍ، وهم يبكون الآنَ على قبرِها الرُّخامي ويتضرَّعون إلى السيِّدةِ المُبجلَّة. في تلك اللحظةِ، أعلنتْ إذاعةُ بَغداد أنَّ الملكَ أصدرَ أمرًا مِنْ خارجِ البلادِ إلى نائبِه الأمير عليّ بتنظيمِ جنازةٍ عسكريةٍ للخاتون، ولَفِّ جُثمانها بالعلَمِ العِراقي، ونقلِها في سيارةٍ مَكشوفةٍ إلى المَقبرةِ البريطانيَّة، بمُرافقةِ أركانِ العائلةِ المَلكيَّة ومُمثليّ الحُكومةِ البريطانيَّة وأفنديَّةِ بغدادَ الَّذين راحُوا يتدافعون لحملِ نعشِها إلى مَثواها الأخير، ويقدِّمون اعتذارَهم الباطِنيّ لها: الخاتون احترمتْ آلهتَنا وكُنوزَنا، وكافحتْ لُصوصَ الآثارِ مِن الفرنسيّين والألْمان. هل هي المرأةُ الرَبُّ؟ نحن الوحيدون الذين نمتلكُ آلهةً إناثٍ فيما كلُّ آلهةِ الغَربِ مِن الذًّكور. مَنْ الذي يتذكَّرُ ذلك؟ الفلاسفُةُ وحدهم. بينما استعادَ المُشيِّعُون تَفاصيلَ حياتِها بعدَ عودتِهم مِنَ مَراسمِ الدَّفنِ كما لو أنَّهم استيقظوا على صَحوةِ كتابةِ سيرتِها، ووَجدوا أنفسَهم عاجزين عن ذلك، التاريخُ المُوازي لحياتِها مليءٌ بالأسرارِ والألغازِ والطَّلاسِمِ، سيرةٌ لا تشبهُ سيرةَ النساء.
قبلَ ثلاثةِ أيَّامٍ فقط، كانتْ تتهيَّأُ للاحتفالِ بعيدِ ميلادِها الثامنِ والخمسين. بكتْ ماري، وهي ترتِّبُ أكاليلَ الزُّهورِ التي وفَدتْ إلى منزِلها مِنْ كلِّ مكان، وضعتْها في إحدى زوايا غرفتِها، وهي تتحسَّرُ وتتنهَّدُ وتردِّدُ في نفسِها: كان لَيكونُ يومًا استثنائيًا لا يُنسى في حديقةِ منزلِها، لم نكنْ ننتظرُ أكاليلَ الموتِ، والخاتونُ تنظرُ إليها مِنْ وراءِ قبرِها. وما بين النَّومِ واليقظةِ، تُبصرُ الخاتونُ البساتينَ الخضراءَ الكثيفةَ التي انتشرتْ على ضفافِ دِجلة، تخيَّلتْ أيامَها الماضيةَ بحنينٍ جارفٍ، رغمَ تقلُّصِ حدودِ مَملكتِها، وتاقَ قلبُها إلى مُنتجعاتِ الآلهَة، والسَّراديبِ المُظلمة، بصُحبةِ أدواتِ زينتِها الطِّينيَّة، ومَساحيقِها الحَجَريَّة، وأمشاطِها العاجيَّة. وفي استرخائِها على سريرِها، هامتْ في رأسِها فكرةٌ تسمعُ أصداءَها الآن: نحن نصنعُ المُلوكَ لتلكَ الشُّعوبِ، وهي نائِمةٌ. جُرحٌ ظلَّ في ذاكرةِ العِراقيّين. ولكي تخفِّفَ مِن عبارتِها القاسية، أضافتْ: لا سُلطان بعدَ جَلجامِش وآشورَ بانيبال وهارون الرشيد… حكمُوهم أكثرَ مِنْ أن تحكمَهُم آلهتُهم. كان هناك مَنْ يراقبُها ويدوِّنُ: وقفتْ على شرفةِ بيتِها مَليئةً بالأوهامِ، مثلَ مُحاربٍ مَهزوم، تعدِّلُ قُبَّعتَها، وتسألُ خادمتَها ماري: هل يمكنُ أن أتناولَ أستكانةً مِن الشَّاي العِراقي في الشُّرفة؟
كانَ جسدُها الأُنثَوي الذي تخاطبُه في المرآةِ في تلك الَّليلةِ يَذوي ويذبُلُ أمامَ عقلِها، ثم رفعتْ حفنةً مِنْ تُرابِ حديقتِها، ونثرتْهُ في الهواءِ: هل سوفَ يكونُ مُستقبلُ البلدِ مثلَ هذا النُّثار؟ بدأتْ الشجرةُ في حديقةِ منزلِها بالانحناءِ، التوى جذعُها، وجفَّتْ أغصانُها، ولا تزالُ النُّجومُ تُزيِّنُ سماءَ بَغداد: لم أفقدْ بوصلَتي بعدُ، تجذبُني نزهةُ التجوُّلِ بين أرجاءِ المَملكة، وعَزائي أن تَمدَّني حكمةُ أساطيرِ البلدِ وآلهتِها بالأمَل، وتُنقذَني مِن اليأسِ والإحباط. هذا هو الشَّرقُ، التجلِّي، وسطَ اليَنابيعِ، بين روائحِ الجنَّة. مِنْ هُنا مرَّ البنَّاؤون الأُسطوريُّون، وتَركوا خرائطَهم، شيفرةَ اللُغاتِ وألغازَ المَوتى. ولطالَما خدعتْني طُمأنينةُ لُغتي وتركتْني للمَتاهة، في صَحراءِ النحَّاتين المُغامرين، الذين يَصنعُون التَّماثيلَ مِن الرِّمال. لم أعدْ أهتَمُّ بالمُؤامراتِ التي تُحاكُ ضدِّي، فكلُّ شيءٍ انتهى الآن، وقريبًا سنُصبحُ لُعبةً في إِغواءِ التاريخ، وتَبقى مَملكتِي بحاجةٍ إلى المُوسيقيّين والنحَّاتين والفَلَكيّين ليَسبرُوا أعماقَها ومَسالِكِها؟أضحكُ في سرِّي لصُورتي التي يصفُّها أفنديَّةُ بغدادَ: شعرُها النُّحاسيُّ اللَونِ، وعيناها العَسليَّتان المَائِلتان إلى الزُّرقة، وبشرتُها البرَّاقةُ البيضاءُ، المَوشومةُ بنقاطِ النَّمشِ الصَّغيرةِ، وأنفُها المُدبَّبُ الطويلُ، وقامتُها المُتوسِّطةُ، وبَقايا أُنوثةٍ ذابلةٍ، ورغبةٌ مُلحَّةٌ في مُعاندةِ الحياة. المُعجزةُ التي ظلَّتْ تُحدِّقُ في شجرةِ الضِّياء، وتفترشُ ظلَّها على الأرض. تسألُني المرآةُ: لماذا هذا الشُّحوبُ والاصفرارُ؟ فيما تنظرُ إليَّ البَغداديَّاتُ بانبهار، وهُنَّ يُخفينَ أُنوثتَهنَّ تحتَ عَباءاتِهنَّ السَّودِ، ويَتظلَّلنَ في أزِقَّةِ بغدادَ الضَّيقةِ، ويُردِّدنَ: ماذا تفعلُ الخاتونُ عندَنا؟ ولحِسابِ مَنْ تَعملُ؟ إنَّني أعملُ لحِسابِي وليسَ لحِسابِ أحدٍ. قليلون يعرفون ذلك. لا أجدُ مَنْ يُصغي لإجابَتِي في هذا الصَّمتِ الرَّهيب. ولطالَما وجدتُه جذابًا ومُتألقًا، ومُنزويًا مِثلي في رُكنِه الهادئ. نحن مَوجودان معًا، الصَّمتُ وأنا، يتربَّصُ بنا القمرُ باحثًا عن أسرارِنا، وهو يردِّدً: هذه المرأةُ الضَّالةُ التي تركتْ أهلَها واختارتْ أن تكونَ ابنةَ الصَّحراء، بحثًا عن القمرِ التَّائِهِ في السَّماء. قد أبدُو تلكَ التعيسةَ التي تُردِّدُ أغنيتَها الحزينةَ، ولا أحدَ يصدِّقُ حزنَها، قد يقرعُ ناقوسِي دقاتِّه الأخيرةَ. مَنْ يدري؟ وهُناك على الدَّوامِ مَنْ يفتَتِنُ بأحاديثي بعدَ حين، وفي ذلك عَزائي. ما من حُرٍّ يَستهوي الرَّذيلةَ والخَطيئةَ إلا الوُضَعاء. قالتْ البَغداديَّاتُ: لم تلبسْ الخاتونُ العباءَةَ السَّوداءَ أبدًا. رُبَّما ستكونُ أكثر إغراءً وأُنوثةً، جمرةٌ مُشتعلةٌ تغلِّفُ أجسادَهنَّ باللهبِ. في أيِّ يومٍ نحن؟ لم يُسعفْ ذاكرتَها ذلك التقويمُ المُعلَّقُ على الجدار. فيما طلبَ مِنها عُشَّاقُها أن تُخبرَهم عن مُستقبلِ أولادِهم الحائرين في ظلِّ الإمبراطوريَّةِ الجديدةِ بعدَ أن ودَّعوا الإمبراطوريَّةَ القديمةَ. لا يَبخلُ العراقيُّون بطلبِ النصيحَةِ، ولا يجدُ الغربُ طريقَه إليهم إلّا عبرَ الآلامِ والآثامِ، يتكاثرُ الأعداءُ مِنْ حولي كما يتكاثرون حولَ المَلك، ويتجسَّسُون على حُصونِ قلعتي، تَجسَّسُوا عليَّ بما فيه الكفايةُ، رَشُوا حُراسَ بواباتِها مِنْ أجلِ الدُّخولِ إليها، والعبثِ بمقدراتِها، تمامًا كما عَبثوا بقلاعِ الملكِ وحُصونِه، واندسُّوا في حلكةِ الليلِ إلى مَخدعِه، وهدَّدُوه بالقتلِ إذا لم يرحلْ عن البلادِ، ويتركْ لهم العرشَ. ها أنا أتركُ لهم عرشِي، إلى هؤلاء الذين يرتدون الأقنعةَ، ويتماهون معها. وإذا ما عرفنا طبائعَ العُشَّاقِ، لن يكونَ صعبًا أن نفهمَ ضعفَهم، حتى لو كانوا مُزوَّدين ببوصلتِهم في الصَّحراء، فكيفَ لي إنقاذُ إمبراطوريَّتي مِن الهلاكِ والأعداءُ يَحومون حولَها؟ ورُحتُ أستغرقُ في العملِ ليلَ نهار، وأدفنُ نفسِي في خرائطِهم الخفيَّةِ، ومُجابهةِ ما يفكِّرون به. كنتُ أعثرُ على خرائطِهم في أعماقِ الأرواحِ ومَجاري الأنهارِ ومَغاراتِ الكلماتِ وحرارةِ الشَّمسِ. وفي هذا البحثِ اللامُجدي، كنتُ أسألُ المِعماريّين عن مَعنى وجودِنا على هذه الأرض بدون أبراجِ المَعرفة؟ لا أحدَ يمتلكُ الإجابةَ، حتى لو وجَّهتُ أسئلَتي إلى السَّحرةِ والمُشعوِذين. لكنَّ عزائي أنَّني أعرفُ عظَمةَ الحُبِّ وسُموَّه في الأشجارِ التي تنبتُ في رُؤوسِ العُشَّاق، مثلَ عُشبةٍ تنبتُ بين حِجارتَيْن مُعلقتَيْن في قمَّةِ الجبلِ، تتغذَّى على قَطراتِ النَّدى الليلي وتتنفسُ العواصفَ. وعندَما تنقضي الأزمنةُ، تسقطُ مِن المكانِ الشَّاهق، ويتحوَّلُ كلُّ شيءٍ إلى نُثارٍ وسَديم في أرواحِ الرَّاكبين عربةَ الحُبِّ المَجنونة، ويشمُّون أريجَ الجُوري والقُرُنفلِ واليَاسَمين، وينظرون بفرحٍ وابتهاجٍ إلى ألوانٍها البرَّاقةِ، كلَّ ذلك في طريقِه إلى الاختفاء: لا تَمزُجي بين الحُبِّ والنَّشوة، رُبَّما العاشقُ هو الوحيدُ الذي يموتُ مِن أجلِ مَملكتِه. هكذا أُوهمُ نفسي بأنَّ الحُبَّ الحقيقي ما هو إلّا ذلك الضوءُ الذي يملأُ عينَيْ العاشقِ، فيضطَّرَ إلى إغماضِ عينيْه خجلاً. وأتساءلُ في سرِّي: مَنْ الذي انتصرَ في الصَّحراءِ الحُبُّ أم الإرادة؟ يتدفَّقُ نهرُ دجلة مِثلما كان في بدءِ التاريخ، وكم تمنَّيتُ أن أكونَ رسَّامةً في تلك اللحظةِ لأخلّدَ بريشتي تلكَ المناظرَ البغداديَّةَ في لوحاتٍ زيتيَّةٍ تصلحُ لتعليقِها في مُتحفِ لندن لكنَّ عبقريَّةَ الرَّسمِ لم تكنْ لتُسعفُني لتخليدِ ما تحلمُ به هذه المدينةُ. ما الذي يُحرِّكَ خيالَنا أهو الحُبُّ أم الجُنونُ أم الطَّيشُ أم الرَّغبةُ في انتزاعِ قبرٍ في الأرض؟
لوحة: علاء الأيوبي
وجه قناعٍ مِن البرونز
تنامُ وتَصحُو مِن إغفاءَتِها الحالمَة، وتَستسلمُ إلى نومٍ عميقٍ، فيما ينسابُ صوتُ ماري ناعمًا ورقيقًا في أُذنِها، تستيقظِ على بَقايا حلمٍ عالقٍ في رأسِها. في ليلةِ الثاني عشرَ مِن يُوليو أخذتْ الخاتونُ حمَّامَها اللَيلي المُعتادَ، وقالتْ لخادمتِها ماري: أَيقظِيني عندَ الفجْر. وذهبتْ إلى النَّوم. رأتْ ماري حلمًا فيه مَلائكةٌ، ذاتُ أجنحةٍ مُلوَّنة، تزورُ الخاتون ليلاً وقتَ اعتادتْ سيّدتُها أن تستيقظَ عندَ الفجرِ وتَتنزَّهَ في الحديقة، سارعتْ إلى إيقاظِها، ولكنَّها تردَّدَتْ في اللحظةِ الأخيرة، ولم تُعرْ أهميَّةً لعُلبةِ الحُبوبِ المُنِّومة، المَركونَةِ بجوارِ سريرِها، جالتْ بنظراتِها حولَ الغرفةِ كأنَّها تريدُ أن تعرفَ تلكَ الجَلبةَ التي أحدثَها خروجُ شيءٍ ما مِنْ نافذةِ غرفةِ نومِها المَفتوحةِ مثلَ اصطدامِ جسمٍ بالسَّتائر، وتساءلتْ: هل كانتْ الملائكةُ تنتظرُها عندَ الفجر؟
في تلك الليلةِ، حلمتُ بأنَّ الخاتونَ عاجزةٌ عن الاستيقاظِ مِن النَّومِ، فصرختُ: خاتون.. خاتون، خاتون.. وركضتُ إلى خارجِ الدَّارِ، أستنجدُ بالمارَّةِ في الطريقِ، لكنَّني سرعانَ ما هرعتُ إلى غُرفةِ الخاتون، فوجدتُها غارقةً في نومٍ عميقٍ، فعدتُ إلى فراشِي، مِنْ دُون أن أُوقظَها عندَ الفجْر، كما أوصتْني لأنَّ لا شيءَ يَنتظرُها في الخارجِ، ولا مَوعدَ لها إلّا الّلهُمَّ مع الفجرِ. كان وجهُها أكثرَ بَياضًا كأنَّه يرغبُ في التوحُّدِ مع لونِ الفجرِ، هذا المزيجُ العجيبُ مِن الأبيضِ والرَّمادي والأزرقِ الذي طالما تحدثتْ إليَّ عنه ساعاتٍ طويلةَ أيَّامَ كان القمرُ يسطعُ فوقَ رُؤوسِنا، ويجعلُنا نَغوصُ في أحاديثَ لا تَنتهي إلّا مع بُزوغِ الفجر. ولم تكُفّ الخاتون عن أن تقولَ لي: ارقُصي يا ماري. لا تَخجلي مِن الرَّقص، فهو هبَةٌ ربَّانيّةٌ، قد تتعلَّمُ الأقدامُ الخطواتِ، لكنَّ الرُّوحَ هي التي ترقُص.
هل تَعلمين أنَّ الأرمَنيَّ أفضلُ مَنْ يُراقصُ المرأة؟
أليستْ جريمةً أن يُبيدَ العالمُ شعبًا يعبدُ الرَّقص؟
عندَما يسمعُ الأرمَنيُّ المُوسيقى، يبدأُ جسدُه بالتنمُّلِ، ثم يهُبُّ مِن مكانِه ليَرقُصَ.
أحيّيكِ يا ماري، هُناك على الدَّوامِ، مُهندسٌ كبيرٌ وراءَ كلِّ رقْصاتِنا، يحرِّكُ جذوةَ الشَّجرةِ التي تَجدينهَا واقفةً في الحديقةِ بأغصانِها في وجهِ الرِّياحِ بصبرٍ وعَناد. السَّعادةُ، يا ماري، ثمرةٌ يجبُ أن نَتذوَّقَها قبلَ أن تفسدَ، نحن يا ماري، في نهايةِ المَطافِ مَخلوقاتٌ لا تستطيعُ تحدِّي الرَّغباتِ، لكنَّني تجرَّأتُ وفعلتُ ذلك والآنَ أدفعُ ثمنَ ذلك، ما نفعلُه الآنَ ندفعُ ثمنَه غدًا. أنا مُجرَّدُ امرأةٍ عابرةٍ في سَديمِ وادي الرافدَيْن.
السَّعادةُ هي الحُبُّ يا خاتون؟
ضحكتْ الخاتونُ بألمٍ.
كلٌّ منًّا يحملُ حبَّه في قدرِه.
تقودُنا الحكمةُ الأرمَنيَّةُ إلى الصَّبرِ أو إلى الانتحار.
الأرمَنُ شعبٌ حكيمٌ بالفِطرة.
ألا تَملِّين مِن القراءةِ والكتابةِ، يا خاتون؟
الكلماتُ ساحرةٌ، يا ماري.
أنا لا أقرأُ لكنَّني أنظرُ إلى النُّجوم.
النُّجومُ هي التي تَقرأ.
انبلجَ الفجرُ لكنَّ وجهَ الخاتون ظلَّ كما هو لم يتغيَّرْ مثلَ وجهِ قناعٍ مِن البرُونز، كأنَّها على مَوعدٍ مع آلِهةِ وادي الرافدَيْن، وهي تَهذي في الحُمَّى: لا أعودُ إلى لندن، بغدادُ تغمرُني بشيءٍ لا أعرفُه.
تساءلتْ ماري:
هل كانتْ الخاتونُ ترغبُ بالطَّيرانِ فوقَ الغُيومِ عندَ الفجر؟ الرُّوحُ لا تخرجُ مِن الجسدِ مِنْ دُون ضَجيج.
حضرَ الطبيبُ دَنلوب، وأنا أراقبُ مَصيرَ الخاتون في مَلامحِ وجهِه، وهو يخرجُ مِنْ غُرفتِها، وأنا أصرخُ: دُكتور، دُكتور، أرجوكَ طمئِنِّي.. صمتَ ولم يتكلمْ، فانفجرتُ بالبُكاءِ. ثم سألَني:
هل كانتْ علبةُ الأقراصِ المُنوِّمة مليئةً؟
أجلْ. دُكتور.
رفضَ الطبيبُ تشريحَ جُثتِها، قائلاً: لا أريدُ أن أُشرِّطَ عذريَّةَ هذا الجسَد.
وخيَّمَ الوُجومُ على أزِقَّةِ بغداد ودرُوبِها في ذلك اليوم. بَرَقَ الموتُ بومضتِه المُفاجِئَة. العُظماءُ يُودِّعون الحياةَ عندَ الفجرِ على الدَّوام.
اكتظَّتْ ساحةُ الطَّيرانِ بالسيَّاراتِ والعرباتِ، تُرافقُها فرقةٌ عسكريَّةٌ مِن الحرسِ البريطانيّ، ونخبةٌ مِن الشَّخصيَّاتِ، بينَهم المَندوبُ السَّامي هنري دوبس، جاؤوا لمُرافقةِ الخاتون إلى مَثواها الأخيرِ. لم يبتهجْ أحدٌ برحيلِها لأنَّها أخذتْ جزءًا مِنْ أرواحِهم معها، حتى الذين كانوا يُناصبونها العداءَ. وقفوا يَنظرُون إلى رأسِها المَكشوفِ في النَّعشِ المُسجَّى، مِنْ بينِهم مُستشارُ الملكِ كينهان كورنواليس، مُردِّدًا: ماتتْ شمعةُ البلاط. برحيلِها، ذهبَ طعمُ قِبابِ بغدادَ الذَّهبيَّة، استعرضَ جُنودُ الإمبراطوريَّة الموتَ بكلِّ بهاءٍ وخُشوع. والمُشيِّعون مِنْ كبارِ مُوظَّفي البلاطِ والمُستشارين والقادةِ أنزلُوا نعشَها بحِبالٍ إلى حُفرةِ القبرِ، يلفُّ وجوهَهُم الحزنُ. وأخذَ الضَّريحُ الصَّخريُّ وهو يتشكَّلُ طابوقةً إِثرَ أخرى، يبعثُ القَشعريرَةَ في أرواحِ يَتامى السيِّدةِ المُبجَّلة.
أينَ تعلَّمتْ هذه المرأةُ النَّحيلةُ مُحاكاةَ المُلوكِ والسَّلاطين والتحكُّمَ بالسُّلطة؟
هكذا تساءلَ المُشيِّعُون.
آه.. طفلةُ الإمبراطوريَّةِ المُدلّلةُ تحملُ قِيمَها إلى قبرِها. فيما سخرَ البعضُ مُخترقًا رهبةَ الموت.
كانتْ تصلحُ أن تكونَ راقصةَ بَالِيهْ أكثرَ مِنْ أن تكونَ سِكرتيرةً شرقيَّةً للمَندوبِ السَّامي!
في اليومِ التَّالي للدَّفنِ، تبرَّعَ الأفندية بتَشييدِ قبرِها بالطَّابوقِ الذَّهبي الذي راحَ يتلألأُ كصفحةِ المَرايا المُتموِّجةِ مع شُعاعِ الشَّمس. طوى الجميعً آلامَهم وعادُوا مِن المقبرةِ التي سرعانَ ما حملَتْ اسَمها في قلبِ بغداد. وعلى الضفَّةِ الأُخرى مِن المَقبرة، كانتْ الآلِهةُ تحتفلُ برحيلِها إلى العالمِ السُّفلي، بتماثيلِها وآثارِها وكُنوزِها، التي أزالتْ عنها غُبارَ الزمن، ووضعتْها في مُتحفِها الصَّغيرِ، أبراجٌ عاليةٌ ومَعابدُ مَأهولةٌ، مثلَ شبحٍ أو طيفٍ تتنزَّهُ بينها بجسدِها النَّحيلِ، وتَسريحةِ شَعرِها، وثيابِها الباريسيَّةِ، وكعبِ حذائِها العَالي، وسطَ ابتهالاتِ الرَّاهباتِ العِراقيَّاتِ.. في تلكَ الأثناءِ، هرعَ الحاجْ ناجي باضطرابٍ إلى المقبرةِ، ليُلقي النظرةَ الأخيرةَ على صديقتِه الوفيَّةِ. تبادَلَ الحديث مع المَندوبِ السَّامي.
كنَّا نفكِّرُ بنقلِ نعشِها إلى العاصمةِ البريطانيَّة.
لا يستطيعُ أحدٌ أن يقفَ ضدَّ وصيَّتِها.
أنْتَ على حقّ.
لتنَمْ قريرةَ العينِ وسطَ أيقوناتِ بَغداد.