ارتعاشات ذاكرة
لم ألق حجراً في البركة،
لم ألق البركة في حجرٍ،
حجراً في البركة لم ألق
ولكن بدا الأمر هكذا.
أنا شاعر في ميليشيا الثقافة الآن، حاورت وكتبت وتشاجرت وتحملت همَّ الشعر في أكف الفكر وتلافيف المعرفة، في لحظات كثيرة حين أستيقظُ من النوم أجد الكتب والقراءة والكتابة هي الشاغل الأساسي في حياتي اليومية، كلّما نظرتُ إلى مكتبتي أزداد ألماً كوني أحتاج مزيداً من الوقت كي اقرأها بحنية، كان أبي (رحمه الله)، يسألني:
- لماذا تخرج إلى العمل مبكراً؟
لا يمكنني إخباره بأني اقرأ بأوقات فراغي في محلّنا خشية تحسسه وعدم جعلي أواظب على شغلي في السوق:
- بابا أنا اقرأ في المحل، لا تشغل بالك بي.
بدأت شفتا أبي بالارتعاش، تململ من الموقف، أحسست أنه شعلة ملتهبة من الداخل، لكنني عالجت الموقف بسرعة قصوى:
لا عليك، في أوقات الصباح فقط، بدل أن أغتاب أحدا أو أن أتكلم مع فرد ما بشأن مواضيع غير مجدية، أواصل انعزالي وشهيتي القرائية، عندها بدأت سحنة أبي المتجهمة بالخفوت قليلاً قليلاً:
- راح تجيب إلك العين، كذا نطق بكمد ثم صمت.
كان ذلك وأنا في مرحلة السادس الابتدائي، كنّا نقطن في دور شتى للإيجار، وبعد جهد جهيد وجد أبي داراً لنا في «عكد المفتي» وهو زقاق ضيق في إحدى الحارات القديمة لمدينة الحلة التي ولدت فيها، إلا أن سعر إيجار ذلك البيت باهظ الثمن، صاحب الدار كان من سكنة بغداد اسمه الحاج يوسف ويقطن في «حي الدورة» وهو أحد أحياء محافظة بغداد ويقع جنوب شرق المحافظة وهذا المكان أصبح فيما بعد مرتعاً للتجمعات الإرهابية والقتل على الهوية وشهد هذا المكان إزهاقا كثيراً لأرواح الأبرياء، كان يأتي إلينا في كل رأس شهر ليستلم مبلغ الإيجار.
حين شرعت معلمتنا للغة العربية بإعطائنا نصوصاً شعرية كنت أتلذذ في حفظها، وما أن وصلنا إلى قصيدة «موطني» لشاعرها الفلسطيني إبراهيم طوقان والتي لم تفارق ذاكرتي مطلقاً، حيث كنتُ أترنم بها أيّما وقت، لا أعرف من هو هذا الشاعر ولا السبب الذي دفعني لحفظ هذه القصيدة إلا أنني كنت أضع نفسي وأشاهد اسمي مكتوباً إلى جوار هذا الشاعر الفذ.
بدأت فترة المراجعة لأتهيأ لامتحان البكالوريا سيء الصيت طبعاً.
ضعيفاً في مادة الرياضيات كنتُ، جلب لي والدي ملزمة «الأعرجي» لأتعلم منها الحلول وكنت أستغلها أسوأ استغلال إذ بدأت أنقل منها الأسئلة التي أُختبر بها وهي الأشهر في حينها وجاء توجهي لها لاستعانة أساتذة المدرسة بها بشكل كبير، أخذت شقيقتي بتدريسي في هذه المادة أيضاً أنا وأقاربها من زوجها كنّا في نفس العمر، بقي لديهم أسبوعان، ثم بدأ الجلد الامتحاني، في واقع الأمر أنا أحب القراءة فقط لا أحب أن يقوم شخص بامتحاني، أحس في الأمر مسألة غير طبيعية، وبعد فترة حين بدأت قراءتي تنضج أكثر علمت أن رأياً لأحد المفكرين لا يحظرني الآن ما معناه لا أحب الامتحانات مطلقاً لا أحب حفظ المواد لأنها تتكلس في رأسي.
أنا الآن مكمل في مادة الرياضيات، أجهدت نفسها إحدى المعلمات وبعد مضي فترة علمت أنها معلمة لمادة التربية الفنية كي تساعدني لأنجح، طلبت من زميلي أن يردَّ لي السؤال وبالتالي كان خطأ فادحاً أني انصعت إليه وما وجدتُ نفسي إلا مكملاً في تلك المادة الملعونة، وضع لي أبي مدرّساً خصوصياً في مادة الرياضيات كان مواظباً بالحضور يومياً إلى دارنا وكنت والدتي تضع له عصيراً كي يبذل مجهوداً أكثر وحين أكملت كورس القراءة الخصوصية، قرر أبي ألاّ يذهب للعمل في يوم توزيع النتائج وذهبنا معاً لمعرفة النتيجة كان يشعر بفرح لا مثيل له وكأن النتيجة يعلمها مسبقاً كان لا يمشي على الأرض بل يحلق في الفضاء.
- بابا بطاقة الدخول ما جبته وياي.
- أركض بسرعة جيبه راح أنتظرك.
كان هذا الموقف أمام مرقد في منطقة åالتعيسò وهي إحدى محلات مدينتي حيث سكنّا فيها أيضاً لمدة 12 سنة وصاحبها يدعى السيد إبراهيم، وحين لفَّ أبي وجهه إلى الناحية الأخرى، وقفت عند هذا السيد ودعوته أن أخرج من هذه المرحلة ناجحاً وأني سأتبرع له بمصروف يومي كاملاً، كنت أعرف أماكن المنطقة جيداً، هرعت إلى بيتنا لأجلب البطاقة التي نسيتها هناك ثم عدتُ مسرعاً، ومن بعيدٍ لوحت له بالبطاقة المنتظرة إلا أنه كان منكسراً محنيَّ الظهر شرعت كالعادة بقراءة سورة الفاتحة وإهدائها إلى وجهاء الله وحين دنوت منه أحسست أن الأرض فتحت جحيمها على والدي وتكالبت المواقف عليه، ثم همست بشيء من الارتعاش:
- هاااااااااا بشّر؟
لوّح برأسه يميناً وشمالاً وبعدم رضىً منه أجابني:
- راااااااااااااااااااااااااااااااسب.
شاعر من العراق
* هذا الرجل استشهد في شارع المكتبات حيث نزل للتسوق، بعد إن انفجر عليه حزام ناسف فتت أوصاله إلى قطع صغيرة، كان شرهاً من حيث المادة.