نهاية مطبخ
ـ
ثم هبطت قطرةٌ سابعة، على إثرها حبلُ ماءٍ شرع بالهطول.
قالت الحفرة: أنت خلقتني.
أجاب صنبور الماء: لم أخلق شيئاً.. المرضُ، ذلك الكائن اللعين هو الذي خلقك.
ـ 2 ـ
طفلٌ له مزاجٌ سلبيّ، وفراغاتٌ بين أسنانه، أرهق الانتظارُ روحه.
زوجٌ بعينين جاحظتين وبنصف ذقنٍ ونصف سيجارة.
زوجةٌ كوردة أصابها الذبول بوجهٍ شاحب، يؤرّقها نهدها شبه الطازج لقلَّةِ استخدامه، شبحٌ لا مرئيّ يجلس بصمتٍ في تلك الزاوية، وهو يصغي بكل خلاياه، ولا شيء يجيده سوى الإصغاء.
الثلاثة تجمّدت أجسادهم مقابل شاشة التلفاز، يترقبون بشوق بثَّ حلقةٍ جديدة من المسلسل الدراميّ اليوميّ.. نشرة أخبارِ هذا المساء كانت طويلةً للغاية، فمساحتها قد التهمت وقتَ بثِّ المسلسل اليوميّ.. نشرة هذا المساء، تغطي زيارة رئيس البلاد لرئيسٍ في بلادٍ بعيدة.
الزوج يعبث بعلبةِ التبغ، يحصي سجائره.. يطمئن، فيشعل أخرى.
الزوجة تصنع كأساً من شاي ثقيل، تضعه لزوجها جانب صحنِ السجائر.. ترجع حيث تجلس مكانها كما كانت.. تتأمّل في فراغ الجدار. فشلَت كأسُ الشاي الثقيل، مثلَ كل محاولاتها السابقة، بأن تُذكِّر زوجها بوجود شيء -في هذه الغرفة- اسمه زوجة!
الطفلُ يصل دمه حتى رأس أنفه، يستدير رأسه لينظرَ بحنقٍ إلى ساعة الجدار.
عند الزاوية شبحٌ لا مرئيّ يلوكه المللُ وكأنّه قطعة اللبان المفضلة عنده، يناجي اللهَ في سرِّه كمتسولٍ، أن يحدث شيئا ما في هذه الغرفة يستحقُّ الكتابة.
ـ 3 ـ
ـ أبارك لكِ.. أنت الآن خارج حدود المطبخ!
بفرحٍ تنظر كأس الشاي الصغيرة لصحن السجائر.. بفرحٍ ينظر إليها..
ـ 4 ـ
نهضَت داخلَ ذاكرته صورٌ من احتفالات الأسبوع الماضي، أسبوعٌ كان ممتعاً له ولبقيّة التلاميذ.
صباحاً مدرسةٌ دون دروس، فقط اللهوُ في باحة المدرسة على صدى الأغنيات الوطنيّة، ومساءً الركض بصخبٍ بين الحشود في ساحة المدينة.
بائع اللافتاتِ -كما ظنّه- أعطاه واحدةً ولم يسأله ثمنها، رفعها سعيداً بعد أن فشل بإدراك معناها.
كان يتذكر عندما نظرَ إلى الشاشة مجدداً، داخلها لا يزال رئيسُ البلاد يشرحُ لصديقه، صورة بلا صوت.
الطفلُ يتمنّى من الصديق أن يفهم بسرعة، من أجل المسلسل الدراميّ. لكنّه سرعان ما يئس، فالشرح مستمرٌ منذ ساعةٍ ونصف، ويبدو أنّ هذا الصديقَ لا يستوعب بسرعة.. تماماً مثلَ خالدَ في صفّه. عندئذٍ استدارَ إلى والدهِ وسأله بغيظ:
ـ الأسبوع الماضي.. هل وضعتَ اسم الرئيس داخل الصندوق؟
تساءل بحنق.
كانت هذه السيجارةَ الأولى في حياته، يقذفها وربعها الأخير لم يحترق بعد.
ساعدُ الأب ترتفع بقبضةٍ مشدودة.
ـ نعم.. نعم.. نعم…
مثل آلةٍ، تعلو القبضة، تنخفض.. تعلو، تنخفض.. الزوجة تراقب بريبةٍ طفلاً يجلسُ قربها، بزاوية عينها.. سؤالٌ من حيرة نبت داخل رأسها:
ـ أين شاهدتُ هذا الطفلَ قبل الآن؟
ـ أريد أن أنام.
تمتمَ بغضبٍ ثم استلقى هذا الطفلُ جانب الجدار، على مستطيلٍ من الإسفنج، ليتدثَّر بلحافٍ شبهِ متهرئ.
البرودة ترجع إلى ملامحه فيرجع الزوجُ ليحصي ثانيةً عددَ سجائر علبته، يمتعضُ.. أصابعه تلتقطُ عن الأرض مؤخرةَ السيجارةِ المقذوفة، وبلا اعتذارٍ يشعلها ثانيةً، وهو يصغي بعمقٍ لتلك الصور الصامتةِ في نشرة الأخبار.
شبحُ الزاوية اللامرئي -يكادُ يبكي- هو أيضاً يصغي منتظراً شيئاً لم يحدث بعد ليكتبه.
ـ 5 ـ
مرضٌ لا يملك اسماً، ذات يوم انتصب على مستطيل المجلى، تخيّلها بهدوء ثم همس «كوني». فبُعثت الحفرة حيّة ترزق، عندئذٍ قبّلها المرض قبلةً مقدّسة، مباركاً بها ولادتها على يديه!
وبثيابٍ عسكريّة صار المرضُ يتجوّل في أرجاء المطبخ، مانحاً كلَّ الأشياء الموجودةِ فيه وعداً بالغرق.
كل الأشياء كانت إذا سمعت وعودَ المرض بالغرق، تمنحه تصفيقاً حارَّاً.
ـ 6 ـ
ـ مضت ساعتان من الشرح، الرئيسُ لم يُشعل حتى الآن سيجارة!
الزوجةُ هكذا باحت لقلبها، ثمّ أرسلت نظرة عشقٍ عبرَ سحائب الدخان من عينيها إلى شاشة التلفاز. هناك حيثُ الرئيسُ منهمكٌ بلا سجائر في الشرح لصديقه ذلك.
تخطيط: حسين جمعان
سيجارةٌ تطل برأسها من علبة التبغ، الزوجُ لم ينتبه لها.. الزوجة تراقب بغيرةٍ هذه السيجارة.. السيجارة تضحك، الزوج لم يسمع شيئاً، الزوجة سمعت تلك الضحكاتِ التي أغاظتها كثيراً. السيجارة تُخرج لسانها من فمها وتحرّكه أمام الزوجة، ثم تهمسُ لها بثقة:
ـ إنّه مغرمٌ بي.. أنت لا يحبُّك، سيتركك قريباً.. لقد تزوجني وسنعيش مع بعضنا إلى الأبد.
كلمة (الأبد) أرّقت روحها، الزوجة تحاول ألاّ تُصدِّق كلامَ السيجارة، صار الشكُّ يركلها بين جهاتها، وهو يلهو بتقطيع أعصابها.
الزوج عيناه الباردتان مصلوبتان على الشاشة، الزوجة تنهض لتمشي حتى الخزانة بحثاً عن يقين، تأخذ عن الرفّ دفترَ العائلة.. تقلّب صفحاته القديمة. على الصفحة الأولى تقرأ اسم زوجها، على الثانية تقرأ اسمها. فتعجبها موسيقى حروفِ اسمها، اسمُها الذي لم تسمعه في هذه الغرفة منذ زمن طويل.
في الصفحة الثالثة تشاهد اسم السيجارة، ترجع منكسرةً، لتجلس وثمّةَ حزنٌ يفوحُ من روحها المهجورة، ثمّ تعلّق عينيها فوق الفراغ الممتدِّ على الجدار، محاولةً تجاهل صدى ضحكاتِ السجائر.
صوتُ بكاءٍ خافت، يصدر عن شبحٍ لامرئيٍّ في تلك الزاوية من الغرفة.
ـ 7 ـ
لبعض الأشياء صفة الأبديّة:
الله، الشيطان، المرض، وهذا التصفيق.
ولأشياء أخرى صفة الموت:
حاسة البصر، المطبخ، هذه القصّة وصاحبها.
ـ 8 ـ
لأوّل مرّة في حياته، يخلق له قدره هذا الكمينَ المحكم، سيسقط خلال الصورتين، خطأ لم يقترب منه لسنواتٍ، ومثلَ الكثيرين يحذّرُ من هكذا أخطاء قد لا تمرُّ على خير.. هذا الخطأ -وبين صورتين- سيقترفُه الآن عن غيرِ قصد.
هناك.. داخلَ شاشة التلفاز، يظهر كتفُ رئيس البلاد من الخلف وهو يصافح بحرارةٍ صديقه رئيسَ البلاد الأخرى.
الزوج ظنّ أنّ الفرصةَ مناسبة، فتثاءبَ بفمٍ فتحه على آخره وكان النعاس قد أرهق عينيه، فجأةً يغلقه إثرَ تحوّل الصورة عن الكتف إلى وجه الرئيس.. يصرخ قلبه فزعاً:
ـ أنا آسف.
شبحٌ لامرئي عند الزاوية -كاد ينتحرَ منذ ثوان- سمعَ وشاهد التثاؤب فقط.. ناسياً كلَّ علاماتِ الترقيم، بدأ يكتب بفرح.
ـ 9 ـ
شابٌّ يملك جسداً رشيقاً يرتدي ثياباً زاهية، له ذاتُ وجه الطفل ذي الفراغات بين أسنانه. يتسلى بالتهام رغيفٍ مصنوعٍ من الشكولاتة خلال قيادته لسيارةٍ فارهة. يحلو له العبثُ بمكابحها عند كل منعطف، ثمّ تتوقفُ السيارة أخيراً أمام مركزٍ للاقتراع، أحدهم يفتح له الباب، فيترجلُ بكثيرٍ من الهيبة.
داخل المركز يأخذ ورقة انتخابٍ، وبطرفِ قميصه يمسح آثار الشكولاتة عن فمه. يتريّث فلا يضع الورقة داخل ثقب صندوق الأوراق، يفتحها مخالفاً بهذا قانونَ تجديد البيعة.
يمسك قلماً ليرسم بهدوءٍ إشارة ضربٍ على اسم رئيس البلاد، ثم يكتب عليها اسم المسلسل الدراميِّ اليوميّ.
ـ 10 ـ
داخل المطبخ ردّدتِ الجدران صدى ارتطام قطرة ماء، هطلت عن الصنبور إلى أرض المجلى.. صنبور الماء.
«تهطل قطرة ثانية».
يعاني من..
«تهطُّل قطرة ثالثة».
مرضٍ كثير البشاعة..
«قطرة رابعة».
منذ زمنٍ طويل..
«قطرة خامسة».
لهذا تكوّنت أسفله..
«سادسة».
حفرة عميقة..
«سابعة».
إنّه يحتاج لـ…
صنبور الماء ينفجر بالبكاء، أشياء المطبخ كلّها تدخلُ في الغرق، متسلِّحةً بالتصفيق.
ـ 11 ـ
بمجمل طاقاتي العقليّة والجسديّة، فقط أستثني حاسةَ البصر. الآن.. هذه القصّة أخطُّها، إثرَ انقضاء زمنٍ -أوسعَ من حياتي- منذ أن ظهر المرض داخل مناخِ المطبخ.
لا تسألني كيف سينتهي هذا المرض، لا أعرف.. لن أكون أبديّ الوجود.
لا تسألني كيف بدأ هذا المرض، لا أعرف.. كاتبٌ حديثٌ للقصصِ أنا.
يمكن، كاتبٌ قديمٌ للقصص أن يعرف، وأيضاً.. قد لا يعرف.
ـ 12 ـ
شيءٌ ما.. يشبه طفلاً، لديه فراغاتٌ بين أسنانه، نائماً فوق الإسفنج. على فمه ترفرف ابتسامةٌ هادئة.
شيءٌ ما.. يشبه زوجاً بنصفِ ذقنٍ، يشعل سيجارةً لا يعرفُ رقمها سوى الله.
شيءٌ ما.. يشبه زوجةً، تتوغّل عيناها الصامتتان في فراغ الجدار، تتخيّل نهدَها يمارس حقّه في الحياة.
شبحٌ لا مرئي واقفٌ عند الزاوية، ينوي الرحيل متأبّطاً أوراقه الثلاث.
على الأولى: شرح أسباب التثاؤب في حضرةِ الصورة.
على الثانية: كتبَ ذلك الحلمَ الملوّث بالشكولاتة.
على الثالثة: رسمُ حجم ابتسامة هذا الطفلِ المشاغب.
ثمّ مشى سعيداً بضع خطواتٍ.
عندئذٍ -وصدفةً- تعرقل بصحن السجائر، فسقط.
لينكسر الشبح اللامرئي إلى جزأين:
الجزء الأوّل تدحرج حتى دخل في رأس الزوجة.
الجزء الثاني تدحرج حتى دخل في رأس الزوج.