كيف كتبت \'مياه متصحّرة\'
في الأوّل من أيار 2013 قدّمتُ الرواية القديمة التي ذكرتها قبل قليل إلى إحدى دور النشر، فوافقتْ الدار لكنّ رقيب تلك البلاد تعرّض لها، فطلب منّي الناشر إجراء تعديلات على مقاس الرقيب. وبعد أن حاولت إجراء «مساومة» التعديل تعرّضتْ الرواية للتغييرات. وحين بعثتُها للناشر مرة أخرى طُلب مني إجراء مزيد من التعديلات.
وبعد إجراء المزيد من التعديلات وإرسال النص إلى الناشر، بقيتْ مراسلاتي الإلكترونية له وتلفوناتي بلا جواب.
إبان ذلك الصمت كنتُ أستسلم لغواية عقلي الإخراجي الدراماتورغي. وكان من نتائج استسلامي أنّي أحلتُ النص أكواما من «الخردة»، أو مواد دراماتورغية أوليّة هدفها التحضير لعرض مسرحي تكون شخصيته المحورية ممثلة عراقية يسارية تصبح صلعاء على إثر إصابتها بمرض الغدة الدرقية فتُرغم نفسها على ارتداء حجاب أو وشاح بعد أن كانتْ طليقة الشعر.
وبعد تسعة أشهر، عندما انتهتْ القصة الرقابية باستسلامي لصمت الناشر، أخضعتُ أكوام الخردة، أو المواد الدراماتورغية الأولية، لعملية توليف تستفيد من الأعراف المسرحية. وكأنّ العملية كانت انتقاما من صمت الناشر. أو كأنّها شعور بأنّ الناشر لم يعجبه العمل.
هكذا انخلقتْ أمامي مشاهد أفقية ذات قوس توتر ولكنها مشاهد مستقلة عن بعضها البعض.
استغرقتُ في العمل واستبدلت ميكانيزماتي السردية وكومبيوتري ومخططاتي على الورق بطباعة تلك الأكوام، ومن ثم قراءتها بطرق أنثوية مرتجلة وبصوت عال كمثل ممثلةٍ في بروفة مسرحية.
اعتمادا على آليات الدراماتورغي وأساليب تحوّل النص المسرحي الخام من المستوى المكتوب إلى المستوى البصري المجسّد تأسستْ سياقات جديدة وثيمات ومعالجات. طفقتُ أكتب بصوت الممثلة الصلعاء وبحركاتها الجسدية التجريدية، وأضفتُ لها تأويلات طقوسية وماكيتات سينوغرافية، وصرتُ أجابه السرد بالفعل المسرحي الحيوي، فاكتشفتُ ذات أسبوع أن حالة كتابتي إنما هي (بروفة مسرحية متقدمة تحتاج أن أضعها في فضاء للعرض). فشخوصها الافتراضيون يسكنون الكلمات والتراكيب اللغوية، وفضاءاتها الكيبورد، والمسودات المطبوعة التي تتعرض للتنقيح والتغيير والتمزيق، ورأيت أنني، كعادتي المسرحية التي عرفها البلجيك عني، غائرٌ في عملية تشبه دودة تُحاط بشرنقة تتحوّل إلى فراشة. كنت أعي أنّني مشغول بتحوّل كيمياوي سيبعث مسارات وهياكل وسياقات نوعية جديدة، لكنّني لم أكن أعرف أنّي أكتب نصّا روائيا جديدا. كنتُ أظنّها مسرحية مكان عرضها هو فضاءات الكتاب.
هكذا إذن.. كما يفعل نحات بمواده الأوّلية، تحوّلتْ أكوام النصوص المفككة إلى طين، وتحوّل صوتي الأنثوي إلى معولٍ والكومبيوتر إلى فضاء وأصابعي إلى أيادٍ تنحت إبان ضربها على الكيبورد.
شُيّدتْ أسماء، اتّخذتْ لنفسها أماكن، وضعتْ نفسها في سياقات، وابتكرتْ مسارات المحتوى.. ثمّ أصابني الشعور وكأنني أقوم بعملية تمثيل بجثة! أو كأنني أجمع أشلاءً بشرية وألصقها ببعضها البعض كالكولاج.
هدّني الرعب من هذه الفكرة فتركت العمل.
بعد أشهر توفّي صديقي التاريخي بشكل مفاجئ وصادم: الفنان التشكيلي والشاعر العراقي محمد سيد جبار المعروف تحت اسم حمادي أصابته جلطة دماغية تسبّبتْ لي بأكبر صدمة موت في حياتي، أنا الذي عشتُ بعض تلك الأهوال الموجودة في متن روايتي.
ذهبت مع صديقي المصور العراقي كريم إبراهيم لزيارة حمادي في غرفة العناية الفائقة في مدينة «خينت» (Ghent)، فلم أصدق الطبيب حين قال إنه ميت سريريا، وإنهم ينتظرون من يأتي من أسرته للتوقيع على «أوراق مفارقة الحياة». ذلك أني رأيتُ صدره يعلو ويهبط ولم أربط ذلك الصعود والهبوط بآلات التنفس الاصطناعي وتلك الأمصال والأدوات المخيفة. صرتُ أحثّه على اليقظة ورحتُ أتعامل معه وكأنّه يأبى الصحو حتى ظنّ الطاقم الطبي أني جننتْ.
بعد مغادرة غرفة العناية الفائقة أصاب صديقي كريم إبراهيم الخوف من العودة لوحده إلى منزله في بروكسيل فاقترحتُ عليه أن نذهب معا إلى بيتي في مدينة «أنتورب» (Antwerp).
فجر اليوم التالي رنّ تلفون صديقي كريم فقيل له إن الطبيب قرّر رفع أجهزة التنفس الاصطناعي عن صديق عمرنا.
ذهبنا إلى غرفة في مستودع الموتى وألقينا عليه النظرة الأخيرة، وهي النظرة التي ستظل ترافقني ما حييت والتي هي الهيكل الخفي لهذه الرواية.
لقد كان حمادي ممدّدا مغمض العينين وكأنه عازفٌ عن فتحهما غضبا منّي. كنت واقفا بالقرب من يده اليسرى التي بدتْ وكأنّها تتضخّم وتتأهبّ لتصفعني.
تلك الصورة خلّفتْ فيّ إحساسا غامضا بالذنب رافقني ستة أشهر.
حلّ هاجس الموت بديلا عن الطعام والشراب والقراءة والتمارين المسرحية والكتابة.
لم أكن خائفا من الموت.
كنت مشغولا فقط بقضايا عملية تخص ما بعد موتي، كمثل ماذا ستفعل ابنتي الصغرى إذا استيقظت صباحا ووجدتني فاقدا للحياة. أو ما هو مصير البيت الذي أملكه وكيف سيتم توزيع الميراث بين أبنائي المولودين من أكثر من امرأة. ما هو مصير مخطوطاتي الكثيرة الموزعة بين الكومبيوتر والصناديق؟ من يحمي أرشيف الفيديو لأعمالي المسرحية التي أعتبرها أهم من النصوص المدوّنة؟
طلبتُ من الجيران أن يطرقوا بابي إذا لم يشاهدوني ليومين، وكان سبب ذلك خوفي أن تنبعث رائحة جثتي الميتة وتقضّ مضاجعهم. طلبت من صديقي الشاعر ماجد مطرود أن يتصل بي تلفونيا كل صباح لكي يتأكد أني مازلت على قيد الحياة. طبعتُ نسخا كثيرة من مفتاح بيتي ووزّعت تلك النسخ.
من حزيران 2014 حتى بداية كانون الثاني من عام 2015 كنتُ أحيا ميّتا.
كلما وضعت رأسي على الوسادة كنت متأكدا أنني «لن أستيقظ غدا»، وكنتُ أشنّ حربا فاشلة تبغي انتصار اليقظة على النوم.
هاجس أنني «لن أستيقظ غدا»، وهاجس الإحساس غير المفهوم بالذنب تجاه صديقي حمادي جعلاني ذات منتصف ليل أغادر موتي الحيّ في السرير وأجابه من جديد أوصال ذلك المشروع الذي أشعرني وكأنني أجمع أشلاءً بشرية وألصقها ببعضها البعض كالكولاج.
تزوّدتُ بالتجارب الطبيّة للموت السريري، ورؤى النفق الحلزوني، واصطحبتُ أصدقائي الموتى، وبعض الأحياء ودخلت النفق بنفسي. وضعتُ سوق خضار شعبي بغدادي، أو زنزانة في بستان، وتركتُ الشخصية الروائية الرئيسية تموت بقصف عشوائي أميركي أو بسيف مجاهد سلفيّ جزّ رأسها وراح يصلي.
غيّرتُ الشخصية الروائية للمرة الألف ولم أكن راضيا، حتى قررتُ ذات لحظة لا أمل أن أقدم على عملية مازوخية: أن أحوّل بطل الرواية الميت إلى حازم كمال الدين. أن أتحدث عن واقعة موتي!
نعم.
أنا هو بطل الرواية الميت الذي يرى أشلاءه تتناثر أو رأسه يتدحرج بعيدا عن جسده.
أنا الذي يتأمّل روحه يمتصّها نفقٌ، ويرى نورا في نهاية النفق كما يرى ذلك معظم من مرّ بتجارب الموت السريرية.
هكذا إذن أبحرَ الميتُ حازم كمال الدين، مقتفيا آثار جيمس جويس في عملية كتابة يولسيس، جاعلا من نفسه بطلا ميتا في رواية حيّة.
لقد شيّدتُ في «مياه متصحّرة» ما يشيّده المهندسون المعماريون الذي يبنون معمارا جديدا على هياكل قديمة فيصبح المبنى مزيجا من القديم والجديد، الأمر الذي يحدث كثيرا في مدينتي البلجيكية الجميلة: أنتورب.
بعد أن أُنجز المعمار السردي بحمّى عمل وصلت أحيانا 12 ساعة في اليوم صرت أتساءل: هل هذا ممكن؟
هل توجد تجربة سردية سابقة في هذا المجال؟
فرحتُ أنقّب فيما فعله المبدعون على مرّ التاريخ بنصوص مثل فاوست لكريستوفر مارلو وجوته وبول فاليري، وما فعله مبدعون بنص أوديب (لسوفوكليس، أو لسينيكا Seneca)، ومثل مئات التجارب في تأليف هاملت وروميو وجولييت.
ثم اقتربتُ من تجاربي المسرحية التي تتوالد فيها النصوص من أرحام بعضها البعض.
فقد كتبتُ مسرحية «دمية المساء» عام 1992، واستفدتُ أو أعدت كتابتها بطريقة مختلفة تماما تحت اسم «زرقة الرماد» عام 1995 ثم كتبتها مرة ثالثة بطريقة تتنكر للكتابتين السابقتين عام 1998 تحت اسم «ساعات الصفر». لمن يقارن النص الأول بالنص الأخير سيستعصي عليه العثور على الوشائج المشتركة إلا باعتبارها شذرات توقظ في الفرد «الديجا فو»، لكنه «ديجا فو» غير قائم على شكل واضح. إنه شكلٌ من أشكال تأليف ذاتٍ جديدة عبر التنويع على ذوات أخرى.
أرسلتُ المخطوطة لصديقي الناشر جهاد أبو حشيش لكي أتخلّص من حمّى الكتابة.
وإذ كنتُ أعاني من ضياع الثقة بالنفس والحاجة إلى من يعيدها إليّ والخوف من سماع رأي صادم بالنص أعدتُ قراءة المخطوطة بعين نقدية أشدّ صرامة من عين الناشر، فوجدتُ الكثير مما يقتضي التعديل والحذف وأسفتُ على إرسالي لتلك المخطوطة.
وحين استلمتُ ملاحظاته دمجتُ ما وجدته ضروريا مع ملاحظاتي وبعثتُ بالمخطوطة الثانية إلى صديق حميم لي. قارئ وليس أديبا. لكنه قارئ لا يجامل. أبدى صديقي الكثير من الملاحظات الصائبة التي تفوت على الكاتب باعتبارها بديهيات، فعدّلتُ المخطوطة الثانية وأرسلتها لصديقي ماجد مطرود الذي لم يجاملني بدوره.
أنجزت المخطوطة الثالثة وأرسلتها إلى الناشر الذي طلب مني نشر الرواية، لكنني كنتُ مرة أخرى في قطار الكتابة السريع، أنتقل من محطة إلى أخرى حتى أنجزتُ مخطوطة رابعة بعثتها إلى صديقي الناقد العراقي عبدالكريم كاظم.
باختصار: حين بعثتُ النسخة الخامسة لصديقي الناشر أبلغني أنه سينشرها وقال إنّ عليّ التوقف عن هستيريا كتابة «مياه متصحّرة».