يوميات عربية في نيكاراغوا
جوهانا
حين دخلت بيتي في مناغوا للمرة الأولى عام 2004، استقبلتني جوهانا -(مواليد 1976)- ببرود وحياديّة، فجوهانا معروفة بشخصيّتها الحادَّة، لكن بأمانتها وبشخصها الثقة. عملت جوهانا منذ الصغر في الأعمال المنزليّة، وكانت ترافق والدتها لبيت أحد الأقرباء العرب، ولذلك فهي على علم بتاريخ العائلة. وقد كانت تعمل عند عربيٍّ آخر سافرت عائلته واستقرّت في فلسطين، وقبل ذلك عملت لبعض الشباب غير المتزوجين ومنهم زوجي إلى أن تزوّج واستقرَّت معنا منذ زواجنا وحتَّى الآن.
يُقال إنَّه لا يوجد أسرار في مناغوا، والحقيقة ألّا أسرار في نيكاراغوا؛ فالناس هنا يتناقلون الكلام وينقلون الأحداث أوّلاً بأوَّل، جوهانا هي واحدةٌ من هؤلاء الناس الذين يعرفون الكثير ممّا يدور سواء في الضوء أو العتمة، أمّا لماذا، فلأنّ بإمكانها تكوين صداقات وكسب ثقة الآخرين في دقائق. على كلِّ حال، الأخبار هنا تتناقل دون الحاجة لثقة ومعرفة بالناس، فما أن يظفر أحدهم بأيِّ خبرٍ بسيط، حتّى ينشره بسرعة البرق. المثال الأكبر على ذلك هو القنوات التلفزيونيَّة التي تنقل المشاكل التي تدور بين الناس في الشارع. وليس بالأمر العجيب في نيكاراغوا أن يتصدَّر الأخبار الرئيسيَّة خبر عراك قام بين تاجريْن تُركيَّيْن (عربيَّين)، أو خبر الحذاء الذي اشترته سيِّدة من تاجر عربيٍّ ثمَّ عادت لاستبداله لكن وهي ترتديه، وحين رفض التاجر استبداله لأنَّها قد استخدمته، اتَّصلت بالتلفاز الذي جاء فوراً، وأصبح الخبر مثار جدلٍ في الشارع وحصل الحذاء على شهرةٍ في مناغوا كشهرة حذاء ساندريلا.
تعلَّمتُ كثيراً من الإسبانيَّة من خلال حديثي مع جوهانا، فقد كانت هي الشخص الوحيد الذي أقضي معه ساعات طوال، وحين التحقتُ بالجامعة الوطنية المستقلّة في مناغوا لدراسة الماجستير، تعرَّضت لعدّة مواقف محرجة وأنا أشرح في الفصل بكلماتٍ عاميَّة لا يُمكن استخدامها في وسط أكاديمي.
جوهانا كانت نافذتي على عالم نيكاراغوا الحقيقي، فمعظم النساء هنا يُشبهن جوهانا من ناحية الظروف والمستوى التعليمي والوضع الاجتماعي والاقتصادي والأيديولوجي.
في عيد الأموات مثلاً، كانت تذهب للمقبرة لزيارة جدَّتها وفي اليوم التالي كانت تحدّثني كيف سمعت صوتها وهي تتنهَّد، وكيف أنَّ قريبتها سمعت صوت والدتها وهي تُنادي عليها.
أظنُّ أنَّ شكلي المصدوم من أقاويلها كان يستهويها، ولذلك كانت تُسهب في شرحها. أمّا إذا استوقفتها وناقشتها في عقلانيَّة ما تقول، فقد كانت تتَّهمني بالسذاجة والحماقة، وأنَّني لا أعرف شيئاً ممّا يجري حولي.
وحينما كان زوجها يحتضر، كانت تتغيّب عن المنزل كثيراً حتّى توفّي بمرض السرطان، وأنا أواسيها قالت لي إنّها حذَّرته قبل أن يموت من أن يأتيَها في أحلامها لأنَّها لا تريد رؤية الأموات في المنام، وتودُّ أن تكمل حياتها بشكلٍ طبيعيٍّ.
وحين هممتُ بحلق رأس ابني قبل أن يتمَّ العامَّ الأوّل من عمره، قالت لي بلهجةٍ محذّرة إنَّ نطقه سيتأخّر كثيراً إذا ما حلقت له شعره في هذا العمر.
أمّا أيّام المطر فقد كانت تخبرني أنَّ الضفادع والسلاحف تنزل من السماء مع المطر، وليس لي أبداً أن أستنكر كلامها لأنَّها تصرُّ على أنَّ الضفادع لا تأتي إلّا مع المطر. وكنت قد قرأت مرّة عن مدينةٍ في الهندوراس تسقط عليها الأسماك مع المطر بسبب العواصف الشديدة التي تجرُّ معها السمك للأرض. وحين أقدّم لها تفسيراً علميّاً لظهور الضفادع وسماع نقيقها وقت سقوط الأمطار بسبب العواصف والرياح الشديدة التي تنقلها من مكانٍ إلى آخر، تهزُّ رأسها بغير اقتناع وكأنَّ رواية سقوط الضفادع مع المطر تبدو مثيرةً أكثر.
ولأنَّ يوم الأحد عطلتها الرسميّة، فإنَّ يوم الاثنين هو اليوم الذي تحكي لي فيه أكثر عن أحداث الحارة الصغيرة التي تسكنها، ومن ضمن الحكايات، كانت قصة الإنسان الذي يتحوّل قرداً في الليل.
تفتح جوهانا عينيها على اتساعهما، وتحلف بالعذراء أنّها شاهدت رجلاً معروفاً في حارتهم باحترافه السرقة، لكنّه في الليل يتحوّل لقردٍ يمتلئ جسده بالشعر وينمو له ذيل ويقفز من بيتٍ إلى آخر، وأنّها شاهدته بأمِّ عينها وهو يمشي على أحد أسقف البيوت، وكان ذيله واضحاً، لكنَّ أحداً لا يملك دليلاً ضدَّ الرجل الذي يتحوّل قرداً لأنّه يغيّر هيئته. أقول لها ربّما هو متنكّرٌ بزيِّ قردٍ ليخيف الناس أوّلاً ولكي لا يتعرّفوا إليه، فتكون إجابتها جاهزة، وهي أنَّ هذا الرجل يقوم بأعمال سحرٍ تحيلهُ قرداً ليتمكّن من أعمال السرقة، وتتابع أنّه ليس الوحيد الذي يمارس السحر من أجل السرقة، بل إنَّ هناك امرأةً قصيرة القامة يلجأ إليها الناس إذا ما يئسوا من علاج الأطباء، لكنَّ الأخيرة تتحوّل ليلاً لدجاجة، وأنّ بيتها مليءٌ بالدجاج الذي تسرقه من بيوت الناس في الليل.
وفي المكسيك وغواتيمالا -اللتيْن سآتي على ذكرهما لاحقاً-، سمعت أنَّ الناوال هو الشخص الذي يستطيع التحوُّل لحيوان، ويقوم بذلك مستخدماً السحر.
وبالعودة لجوهانا، فقد حدث مرَّة أن احتجتُ لعاملةٍ أخرى في البيت، لأنّني كنت أعملُ نهاراً ولم تكن جوهانا لترضى بتحمّل أعباء البيت وحدها، فاتّفقت مع عاملةٍ ترجع أصولها للأفريقيين الذين أحضرهم الإسبان كعبيد ومعظمهم يسكن الكوستا أتلانتيكا، وهي منطقة مطلّة على الساحل لكنّها تبعد 10 ساعات برّاً عن مناغوا، وأهلها يتحدّثون لغةً هي خليط ما بين الإسبانيّة والإنكليزيّة، ويسمُّون بالـ”ميسكيتو”.
كنت أرى أنّ جوهانا -ذات الطبيعة الحادّة-، لا تعجبها العاملة الجديدة، وتحاول تطفيشها بكلِّ الوسائل، حتّى تمكّنت من ذلك في يومٍ ما، حين جاءت لي بزجاجةٍ صغيرةٍ جدّاً وبها عصفور ميّت، والزجاجة مليئة برائحة غريبة وقويّة ونفّاذة، قالت لي: هذه المرأة تتعامل بالسحر، وإنَّ العصفور الذي في الزجاجة هو طائر الماكوا الذي يُستخدم في السحر لإنجاح علاقة حب. كانت جوهانا قد طلبت من العاملة الجديدة الذهاب للبقالة، وما إن انصرفت حتّى فتحت حقيبتها وفتّشتها ووجدت ما تريد تماماً، وحين أنَّبتُها على فعلتها، وبّختني بأنّني لا أعرف مصلحة ابني الصغير الذي بكى طوال الأمس بسبب هذه الرائحة القويّة التي تُصيب الكبير قبل الصغير بصداع.
ويعتقد الناس في نيكارغوا من مختلف المستويات الاجتماعيَّة أنَّ طائر الماكوا، -وهو أحد أنواع السنونو-، يبني عشَّهُ على رؤوس الجبال والأشجار العالية، مما يُتيح له امتصاص الطاقة الإيجابيَّة في الكون، ولذا فإن عطر الماكوا يثير الشهوة، وإن وضعه الشخص فإنه يغوي الجنس الآخر بسهولة.
ويعتقدون أنَّ هذا الطائر رمزٌ إيروتيكي يتجسَّد في الرجل والمرأة، وجناحاه العريضان يجمعان الكون، ويرمزان لضمّ المتحابّين، كما يرمز تغريده للإغراء. ولذا، فالناس يعتقدون أنَّ الشخص الذي يمسك به تتحقَّق رغباته. وعليهم أن يصرِّحوا برغباتهم قبل أن يقتلوه، ثمّ يشربون شراباً مختلطاً بشيءٍ من عشِّه.
السحر النيكاراغوي
السحر في نيكاراغوا كبلادنا العربيّة، مؤثّرٌ في عقول الناس وقد يحيلون بعض ما يحدث معهم إليه. لكنَّ الرمز الأكبر في السحر هنا، وما يتناقله الناس علناً هو إيمان بل وممارسة السحر والشعوذة من قبل روساريو موريّو، السيدة الأولى وزوجة الرئيس دانييل أورتيغا ورفيقته في دربه السياسي والنضالي.
قبل أن ينجح الساندينيستا باستعادة سدّة الحكم من جديد عام 2008، كنت أسمع عن إيمان موريّو بالسحر وإشرافها على دعوة سحرة من المكسيك في اجتماع معيّن يقام في نفس اليوم من كلّ عام. وحين فاز زوجها بالانتخابات، خرجت موريّو تحيّي الجماهير في الشارع، وكانت ترتدي سترةً تكشف عن ذراعيها، وبتلويحها للناس رافعةً ذراعيها، صوّرت الصحافة شَعرَ إبطيها الذي تركته دون حلاقة، إذ يُقال إنّها تتبع ديناً يحرّم عليها حلق شعر الإبطين، أو أنّ أعمال الشعوذة تتطلّب ذلك.
ورغم كل ما يقال عن دكتاتوريّة اليسار، فقد خرجت الصحف في اليوم التالي تتهكّم على هذا المشهد «المقزِّز»، وتتحدّث بتفصيل عن شعوذتها وسحرها اللذيْن يظهران من شكلها الخارجي، فهي أيضاً ترتدي خواتم وأساور غريبة الأشكال وكثيرة تظهرها فعلاً بمظهر الساحرة، وبعد ذلك امتلأت الصحف بكاريكاتيرات تصوّرها كساحرة، بل إنني شاهدت جزءاً من برنامج تلفزيوني يناقش موضوع سحرها. لكن موريّو لا تردّ على كل ما يقال، ولا تدافع ويبدو أنّها تمارس تقليعاتها بمنتهى الحريّة دون أن تقيّد نفسها بالمفهوم التقليدي للسيدة الأولى.
لوحة: سعد يكن
ولأنّ موريّو تحبُّ اللون الليلكي، فقد أصبحت الدوَّارات في الشوارع تلوّن بلونها المفضّل، ثمَّ اخترعت موريّو «تقليعةً” أخرى، وهي «شجرة الحياة”، إذ أمرت بنشر مجسَّمات على هيئة شجر مرسوم على شكل دوائر تشكّل شجرة، وأسمتها شجرة الحياة، معطيةً بعداً فلسفيّاً لفكرتها، وفعلاً امتلأت شوارع العاصمة بهذه الشجرة التي تضيء طوال الليل. أمّا المعارضة فأقامت الدنيا ولم تقعدها، محمّلة موريّو مسؤولية إهدار الطاقة الكهربائيّة لإرضاء تقليعاتها غريبة الأطوار. نسيت أن أقول أنّ موريّو هي في الأصل شاعرة.
الرحلة والأسماء
معظم العرب الذين هاجروا للقارَّة اللاتينيَّة كانوا يظنُّون أنَّ عالماً أكثر جمالاً وعدلاً بانتظارهم. فالمسيحيَّون العرب فرّوا من عنصريَّة الدولة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر وكذلك إخوانهم من المسلمين الذين عاشوا ظروفاً صعبة خلال حكمها، ثمَّ توالت المآسي باستعمار أوروبيٍّ جديد شمل معظم البلاد العربيَّة. حدَّثني المهاجرون هنا في نيكاراغوا، كيف أنَّ أجدادهم كانوا يعتقدون حين ركبوا السفينة أنَّهم ذاهبون إلى أميركا الشماليَّة، وأنَّ كثيراً منهم صُدم حين رأى ميناء كورينتو في نيكارغوا، كيف كان مهملاً وفي حالةٍ مزرية، في حين كان في مخيِّلتهم مدنٌ خياليّة مثل نيويورك.
وفي السلفادور أخبرتني سيدة من أصل فلسطيني كيف أنَّ عائلتها كانت تنوي السفر إلى تشيلي لكنَّ السفينة توقَّفت في السلفادور، فغادرت العائلة السفينة للتنزه قليلا، ولما عادت للميناء لمواصلة الرحلة كانت السفينة قد غادرت.
أمّا في كوستاريكا التي زرتها عام 2010، فقد أخبرني بعض العرب ذوو الأصول اللبنانيَّة أنَّ أجدادهم وصلوها على شكل موجات متتابعة بدءاً من العام 1887، وانخرطوا في الحياة الثقافية والاقتصادية والصّناعية، وكذلك الحال في باقي دول أميركا اللاتينيّة.
ومن اللافت للنَّظر، أنَّ أسماء العائلات العربيَّة في القارَّة اللاتينيَّة قد تغيَّر معظمها ليناسب طريقة النطق باللغة الإسبانيَّة. فاسمي خليل أو جورج تحوَّلا إلى خورخه، ومثقال أصبح ميغيل وسمعان أصبح سيمان.
وفي كوبا التي زرتها في يناير 2015، التقيت أفراداً من عائلة «ديريتشي”، أخبروني أنَّ أصل اسم العائلة هو «درويش”. وبعض العرب مثل صالح باسيل، وهو مهاجر فلسطيني، أقام في نيكاراغوا، فقد غيَّر اسمه إلى أنطونيو مرقص باسيل، كي لا يبدو غريباً في المكان الجديد الذي ارتحل إليه.
وثمَّةَ قصَّةٌ طريفةٌ يرويها العرب هنا في نيكاراغوا، لأنَّهم كثيراً ما يتذكّرونها حين يزورون مدينة ماسايا (إحدى مدن نيكاراغوا الرئيسية)، وهي عن المهاجر الفلسطيني عبدالله أبوسرِّيَّة الذي كان خلال تجواله في قرى ماسايا يقيم علاقات مع فتياتها مقابل قطعة من القماش. تلك العلاقات التي أثمرت عن ستين ابنا وابنة من نساء مختلفات. على أيّ حال، لم ألتق أحدا من أحفاده الذين يملأون ماسايا إلا وكان فخورا بأصله العربي حتى لو لم يعرف عن جده سوى اسمه فقط ومغامراته النسائية.
عُقاب
عقاب –(والاسمُ مستعارٌ)، هو أحد الشخصيَّات التي التقيتها مرّةً واحدةً في حياتي لكنَّي سمعتُ عنها الكثير.
جاء عقاب في أوائل التسعينات من القرن العشرين إلى نيكاراغوا، وقد وصل في وقتٍ كانت الأمور التجاريَّة ميسَّرة، لذلك فقد تحسَّنت أوضاعه الماليَّة بسرعة. لكنَّ تلك الأموال التي حصل عليها تبدَّدت بسرعة أمام ولعه بالنساء والحياة الليليّة التي تكلِّف كثيراً في نيكاراغوا.
عودته لقريته عقربا لم تكن لترضيَ شخصاً اعتاد حياةً أكثر انفتاحاً وبهجةُ، فقرَّر العودة إلى نيكاراغوا والعمل في محلٍّ صغيرٍ على البقاء حبيساً في قريته المحافظة.
ولأنَّ أمواله تبدَّدت، وزوجته أصرَّت على الطلاق منه، ولم يكن قادراً على الإنجاب، وفيما بعد أصابه التهاب في القولون، وفي نفس الوقت، يرى بعضَ أقربائه وقد فتح الله لهم في الرزق ويعيشون حياةً مستقرَّةً مع زوجاتهم وأولادهم، فقد أصابه شيءٌ من الغيرة أو الحسد، حتّى حدَّثَ هو عن نفسه أنَّه يخرجُ كلَّ يومٍ ليلاً إلى الباحة التي تتوسَّطً بيتهُ، إذ البيوت مبنيَّةُ على النظام الإسباني المستوحى أصلاً من النظام الأندلسي.
يخرج عقاب يوميّاً ليتحدَّث مع الله في صحن داره وبصوتٍ مرتفع، يسأله إن كان من العدالة أن يكون بلا أبناء ولا مال ولا صحَّة ولا زوجة، ويقترح عليه أن يمنحه شيئاً من هذه الأشياء المذكورة ليتمكَّن من البقاء على قيد الحياة. ثمَّ يتحوَّل لأفريقيا، ويتساءل لماذا يخلق الله الأفريقيين ثمَّ يمنع عنهم الطعام، كأنّما هو مهتمٌّ أساساً بأحوالهم هناك رغم أنّه لم يُعرف عنه مساعدته للآخرين.
كان جاره يصحو صباحاً فيلتقيان عند مدخليْ داريْهما وحين يسأله الجار النيكاراغوي عن الصوت العالي المنبعث من بيته مساءً، يردُّ عقاب بأنّه كان يتحدَّث مكالمةً دوليَّةً خارج البلاد.
يتذكَّرُ الناس هنا هذه الحكاية التي لم يمرَّ عليها الكثير من الوقت، لأنَّ شخصاً آخر في قريتهم عقربا تصرَّف ذات التَّصرّف في أواسط القرن العشرين، حين أصيب أبناؤه بأمراض، وفقد عائلته واحداً تلو الآخر، الأبناء ثمَّ الزوجة، ثمَّ نفق حماره وخسر محصوله التجاري فخرج إلى صحن بيته، ممسكاً بمفتاح البيت وملقياَ به للسماء قائلاً: يا الله، أخذت منِّي كلَّ شيءٍ ولم يبقَ غير البيت، هذا هو مفتاحه، هاكَ.
على أيِّ الأحوال، فقد عاد عقاب بعد ذلك لفلسطين، وتزوَّج وأنجب وورثَ شيئاً من ممتلكات والده، ويعيش حاليّاً حياةً مستقرَّة.
أمّا الشخص الآخر، فقد تزوّج من جديد وأنجب أيضاً وفي نيكاراغوا له أحفاد.
شوربة إحياء الأموات
ستختلف عليَّ الكثير من الأمور، ومن بينها المأكل. حدَّثتني الشاعرة سعاد مرقص فريج (مواليد 1946)، أنَّ جدَّتها بكت، حين وصلت السفينة بها إلى نيكاراغوا وطلبت طعاماً فأحضر لها زوجها خبز الذرة مع قطعة جبن. بكت حينها لأنَّها لم تُعجَب بطعم خبز الذرة وكانت تنتظر رغيفاً كبيراً من الخبز الذي اعتادت عليه في بلادها، غير أنَّ هذه الوجبة بالذات أصبحت عشاءها اليوميَّ باقي حياتها، ولم تكن لتستغنيَ أبداً عن خبز الذرة. أخبرتها أنَّني لا أستغربُ ذلك، إذ أنَّني لم أتذوَّق خبز الذرة إلَّا بعد خمس سنوات من إقامتي في نيكاراغوا.
وليس غريباً أن تشمَّ خلال زيارتك للسوق الشعبي صباحاً، رائحة شوي اللحم والدجاج، إذ يعتبر اللحم خصوصاً أحد عناصر الإفطار الأساسيَّة، وذلك يتوقَّف على عمل الأشخاص، وعلى قدرتهم الماديَّة، لكنَّ أغلب أصحاب الحرف التي تتطلَّبُ جهداً جسديّاً يتناولونه صباحاً.
الطبق الرئيسي في نيكاراغوا، والذي من الممكن أن يتناوله النيكاراغويون في وجباتهم الثلاثة، هو طبق الـ”غايّو بينتو”، وهو عبارة عن أرز وفاصوليا حمراء وبصل، وأنا أجده قريبا جدّاً لطبقٍ عربي هو المجدَّرة.
في كوبا، هناك طبق شبيه به إلّا أنَّ الفاصوليا سوداء، لكنَّ الاسم الذي يطلقونه عليه هو «أرز مورو”، ومن المعروف أنَّ مورو تعني عربي، أو «أسمر”.
أمَّا الطبق المنتشر في كثيرٍ من بلدان القارّة فله اسمٌ ظريف هو «إيقاظ الأموات”، وهو حساءٌ مكوَّنٌ من قطع من حيوانٍ زاحف هو (الحرذون)، وخضار وتوابل، يتناوله الناس صباحاً وخصوصاً إذا كانوا قد أكثروا من شرب الكحول ليلاً، إذا يُقال إنَّ هذا الطبق يُساعد في مدِّهم بالطاقة اللازمة.
وتبقى الذرة هي العامل المشترك في الكثيرٍ من الأطباق الرئيسيّة، ولذلك نجد في معظم المتاحف آلهةً للذرة معروضة في أركانها، إذ كانت الشعوب الأصليَّة وما زالت تقدِّسُ الذرة التي هي عماد حياتهم.
عيد الأموات
في الأول من نوفمبر من عام 2004، أمطرت السماء في غير موسم المطر. وستكون السماء أكثر كرماً في ذلك التاريخ من كلَّ عام، إذ لا تُخلف السماء وعدها بإنزال المطر منذ وصلتُ نيكاراغوا، في هذا اليوم أبداً.
إنّهُ عيد الأموات الذي يحتفي به اللاتينيون بعيداً عن اللون الأسود، وعن النحيب والعويل والبكاء، والتكدر والنكد.
فعيد الموتى في هذه القارة الملوّنة، هو فرصة للتقرب من الأموات والاحتفاء معهم بالحياة، وقد توارث أبناء القارة طقوس الاحتفالات عبر السنين من أسلافهم، فهم يعتقدون بأن إحياء هذين اليومين يمكِّنهم من الاجتماع بموتاهم من جديد.
ترجع أصول الاحتفال بهذا العيد إلى ثقافة السكان الأصليين القديمة، من أزتيك ومايا وبوريبيتشاس وناهوا وتوتوناكس، فخلال ثلاثة آلاف عام كانوا يقومون بطقوس معينة مخصصة لأسلافهم في هذا التاريخ. وكانت هذه الطقوس ترمز للموت والبعث الذي كان في فترة ما قبل الغزو يتمثل بجماجم الموتى. وكانت الآلهة ميكتيكاوسيلواتل المعروفة بـ”سيدة الموت”، تترأس هذه الاحتفالات التي خصصت للأطفال والأقارب المتوفين.
ولأن تلك الاحتفالات تحوي كثيراً من الهرطقات والممارسات الوثنية التي كانت تثير الخوف لدى الإسبان الغزاة في القرن الخامس عشر فقد غيروا تاريخ الاحتفال بها في محاولتهم تحويل دين السكان للمسيحية إلى بداية شهر نوفمبر الذي يتزامن مع الاحتفالات الكاثوليكية بعيد جميع القديسين وجميع الأرواح الذي يوافق الـ31 من أكتوبر من كلِّ عام.
تقام الاحتفالات في يومين، هما الأول والثاني من نوفمبر. يعتقد الناس أن اليوم الأول هو لعودة أرواح الأطفال للحياة، بينما يعود البالغون إليها في اليوم الثاني. وعلى مدار هذين اليومين، يتبع الناس طقوساً معينة تتمثل بتزيين المقابر والأضرحة بالأزهار والورود وإشعال الشموع والتحلّق حول قبر الميت.
جماجم بشرية مرسوم على وجهها ضحكات ساخرة وموسومة جبهاتها بأسماء الموتى أو الأحياء من باب الفكاهة، يصنعها السكان ويتبادلونها بينهم كهدايا. التجار في هذا اليوم، يتنافسون في بيع مجسمات الجماجم، التي تشترى جاهزة أو يعدِّها السكان بأنفسهم.
في عيد الموتى ليس للحزن مكان، مجسمات الهياكل العظمية تبدو مضحكة وليست مرعبة. الحلويات والسكاكر تصنع وتوزع على الأطفال الذين يجدون في هذا اليوم فرصة للفرح ويكبرون وفي رأسهم فكرة ممتعة عن الموت.
وبالرغم من أن المصادر تشير إلى أن المكسيك هي أول البلدان التي احتفلت به، إلا أن هذا العيد منتشر في معظم بلدان أميركا اللاتينية، وإن كانت طقوسه تختلف من بلد إلى آخر.
وبداية ننطلق من المكسيك، فبسبب قربها من الولايات المتحدة، أصبحت المدينة تحتفل أيضا بعيد الهالوين الذي سرعان ما تحول إلى عيدٍ شعبيٍّ، مع احتفاظ عيد الموتى بمكانته كواحد من أهم الأعياد التي يحتفل بها المكسيكيون، وخصوصا في القرى والمدن الأصغر التي تتبع التقاليد بالاحتفاء به مع لمسات حداثية طفيفة.
في المدن والقرى المكسيكية، يتبع السكان المحليُّون تقاليد معينة، فهم يتوجهون إلى المقابر، يزيّنونها، مستخدمين زهور السيمبازوتشيتلي، برتقالية اللون. وفي كل بيت ينصبون مذبحاً، يضعون به صور من غادروا الحياة، ويحيطونه بالأطعمة والمشروبات لأنهم يعتقدون أنَّ أمواتهم سوف يأتون ليلاً ليشمُّوا روائح طعامهم وشرابهم المفضَّل في حياتهم الدنيوية.
وإضافةً إلى تلك الطقوس، يُصنع خبز يسمّى «خبز الموت”، يتذوق منه الجميع ساعة العشاء. ومن المألوف أن تُعدَّ الحلويات والسكاكر على شكل جماجمَ تهدى للأصدقاء، وعلى جباه الجماجم يكتبون اسم الصديق. فالجماجم إذن هي جزء من الهدايا، أحيانا قد تخط عليها أبيات من الشعر تروي بطريقة مضحكة مشاهد لقاء الموت مع الأصدقاء أو مع السياسيين.
في ولاية تشياباس المكسيكية، مقبرة شهيرة تقام فيها الاحتفالات بعيد الموتى، وهي مقبرة رومييرو، التي تقع على تلَّة. أغلب زوار المقبرة هم من شعب التسوتسيل مايا، الذين يسكنون منطقة الشامولا. تنصب في المقبرة صلبانٌ ارتفاع الواحد منها يبلغ الخمسة أمتار، وهي صلبانٌ لا يعود أصلها للديانة المسيحية، بل لفترة ما قبل الغزو، حيث تمثِّل هذه الصلبان شجرة الحياة، والحياة ذاتها بفروعها في مستويات السماء الثلاثة عشر، وجذورها تمثل المستويات الثلاثة عشر للآخرة، ولهذا فالصلبان مدهونة بلون فيروزي هو لون الحياة. الصلبان تواجه الشمس، لتبدو الأزهار باللون البرتقالي الجميل عند ظهور أول خيوط الشمس.
ولاعتقادهم بأن الميت يعود ليلاً لبيته، فإنهم يهيّئون له طريقاً هو عبارة عن ممر زُيِّن جانباه بنبات الصنوبر ويضاء بالشموع، كي يستدل الأموات على بيوتهم ليلا.
لوحة: سمير طرابيشي
ومن الأغاني التي يغنيها السكان الأصليون في ذلك اليوم:
الآباء الميتون/الأمهات الميتات/أرخوا قسمات وجوهكم/افتحوا أعينكم/تعالوا كي تستريح قلوبكم/تعالوا كي يستريح دمكم/ها قد جاء عيدكم/تعالوا تناولوا طعامكم/تعالوا أضيئوا طريقكم/لنذهب لبيتنا/لنأكل معاً/لنشرب الماء سويّاً/ ها قد أكلتم شيئاً قليلاً/قِطعاً صغيرة/ مشروب الذرة/خبز الذرة/وشربتم جرعات من الجعة/كي تبقى أعينكم مفتوحة/ فلن نرى بعضنا بعد الآن/لقد مضى الوقت الذي كنا نأكل فيه معاً/على مفرش الأرض.
في غواتيمالا، يعتقد السكان الأصليون أن الأرواح الطيِّبة تخرج من مقابرها وتظهر في أماكن معيّنة. ولهذا فإنهم ينصبون مذبحا لميّتهم في البيت، ويتركون به كأساً من المياه وشمعة وصورة فوتوغرافية. وقبل الاحتفال بأيام، يزينون المقابر وينظفونها. ومن العادات المتوارثة أن تُزيّن المقابر بوردة تسمى زهرة الموت. وهذه لونها أصفر، وهي تنبت في هذا الوقت من السنة. أما أشجار السرو فيزينون بها المنازل وأماكن اجتماعهم لإحياء الاحتفالات العائلية والحميمية الخاصة التي لا بد أن تحوي مأدبة كبيرة.
الكثير من السكان يقولون إنهم في ذلك اليوم يرون أرواح أمواتهم ويسمعون أصواتا غريبة تدل على وجودهم.
في المناطق الريفية في البيرو، يعتقد البيروفيُّون أنَّ الميت يعود للحياة كي يستمتع بالمذبح المجهز له داخل البيت، والمحاط بعدة أشياء كان يحبُّها في حياته. في المذبح توضع صورة له، شموع وأزهار يحملونها في اليوم التالي إلى المقبرة. أما الهدايا فتكون من المأكولات التي يحبُّها الميت أو أي شيء كان مُهمّا له في حياته. والعادة أن تبقى الأعطيات طوال الليل بجانب القبر، كي يتمكن الميت من الاستمتاع بها وحده. وفي اليوم التالي، يقيمون صلاةً عليها، وعند الانتهاء منها تجتمع العائلة لتناول العشاء سويّا. بفرح وسرور، يلتقي أهل المتوفى في المقبرة، ثم ينتقلون إلى بيته، يتناولون القهوة سويّا، فيما تدور أحاديثهم حول المواقف الجميلة والفرحة في حياة الميت.
في الهندوراس وكوستاريكا وكولومبيا، يأخذ هذا اليوم شكلاً دينيا، إذ يحمل الناس أكاليل وسعفا لتزيين القبور وتكريم الموتى. لكنَّ الصلاة تقام في الكنائس.
في الإكوادور، يقام احتفال حقيقي، تجتمع فيه العائلة. يجهّز الناس الأطعمة التقليدية ومن ضمنها الخبز الذي يُصنع على شكل أطفال، أما بعض السكان المحليين فإنهم يقيمون المأدبة فوق القبر نفسه. فهم يعتقدون أن الميت يعود كل عام ولذا فعليهم تحضير طبقه المفضل. فلا يمدُّون أيديهم إلى الطعام إلَّا بعد فترة بسيطة، يقدِّرون فيها أن الميت تناول طعامه ثم يبدأون في الأكل. كما أنهم يحضرون أسلحة الميت أو يلعبون لعبة تعتمد على الحظ، وبناءً على نتائجها يُصدرون قرارات مهمة في حياتهم.
في نيكاراغوا، يتعامل النيكاراغويون مع هذا اليوم بصرامة أكثر، فهم يحتفلون به في المقابر، لكنهم وبدلاً من ترك الهدايا والعودة في اليوم التالي، فهم يبيتون ليلاً مع موتاهم.
في مقبرة تشيننديغا، التي تبعد 150 كيلومترا عن مناغوا، هناك قبران مهملان، قبران لا ألوان لهما، قبران وحيدان وغريبان وموحشان، محاطان بالقاذورات، هما لعربيّان هاجرا من فلسطين إلى نيكاراغوا، مروراً بكولومبيا، أحدهما امتطى بغلاً من كولومبيا حتى وصل نيكاراغوا منهكا من التعب والمرض، فمات فورا ودفن فيها، والثاني عاش بها أعواما دون أن يحظى بعائلة. لا ورود على قبريهما في عيد الموتى. لا أمطار تصل القبرين. الورود والأزهار والبهجة والألوان الفاقعة هي من نصيب أولئك الذين آمنوا بها في حياتهم.
الموت رحلة مع الأسلاف
كلُّ الأشياء التي رأيتها وسمعتها وقرأتها عن الموت لدى هذه الشعوب تختلف عن رؤيتنا له. أعتقد أنّ الموت في ثقافتنا يوحي بالخوف والرعب، أو على الأقلّ هكذا تربّيت. مرَّة زرت محلَّ الأقمشة الذي يعمل به زوجي، ولاقتني امرأةٌ في الخمسين من العمر، اسمها تيريسا، وهي -كغيرها من النساء، لا تهتم بتقدّم العمر، وتحرص دوماً على الظهور بشكلٍ أنيق رغم دخلها المنخفض. قيل لي بعد تلك الزيارة، أنَّ لتيريسا ابناً توفِّيَ قبل عامٍ أو اثنين وهو في ريعان شبابه في حادثِ سيّارة.
توقَّفت عند ذلك كثيراً، لأتأمّل كيف يبقى تأثير الموت والحزن مؤقّتاً هنا، بينما تبقى نساؤنا في حدادٍ طويل إذا مررن بظرفٍ فظيعٍ كهذا. تذكَّرتً الكثيرات ممّن فقدن أبناءهنَّ في حوادث مشابهة ولم تفلح السنين في تضميد جراحهنَّ، -وأرى أنَّ هذا أمرٌ طبيعي-، وأجد أنَّه من الصعب أن تتجاوز النسوة في بلادنا حوادث مؤلمة كهذه، وأن ينتصرن للحياة، بل كنت أراهنَّ يبكين في الأفراح لأنَّ الفقيد ليس بينهنَّ، وحين مات جدّي رحمه الله، جعلت العائلة من العيد الأوَّل بعد وفاته مناسبةً لتجديد الحداد.
وعن الموت لدى المايا، قرأت مرّة في صحيفة «لا خورناذا” المكسيكيَّة أنَّ تلك الشعوب تعاملت مع الموت على أنه رحلة يقوم بها الأفراد للانتقال إلى مكان آخر من الحياة. وكانت تلك الرحلة تبدأ من جنوب الأرض ومن العالم السفلي ثم تصعد إلى مكانٍ ما فوق الماء متَّجهة نحو الشمال حيث كانوا يحتفون بها، حسب ما قال المتخصِّص في أبحاث عن شعوب المايا «ألفونسو موراليس كليفلاند”.
في البداية، يموت الشخص «موتا رسميا”، لكن الأمر لا يتوقَّف على انقطاع النفس والدفن، بل إن ثلاثة نقوش حجرية أثبتت أن ثمّة حياة تنتظر الميت، إذ يظهر فيها (النقوش) شخص مرَّ بذلك المكان وهو يمارس طقوسه، يرقص وينقش على حجر مقدَّس، بعد أن مات.
يقول كليفلاند «هذا يدلُّنا على وجود حياة أخرى، فهؤلاء الناس لم تنته حياتهم في قبورهم، بل إنهم قد تبعوا، أو دخلوا حياة مختلفة، حيث سيجتمعون مع جميع أسلافهم وأجدادهم.
ولهذا فعبادة الموت لا تعني عبادة الجمجمة، بل هي عبادة الناس الذين ما زالوا على قيد الحياة في مكان ما في الشمال، ومن الممكن إعادتهم إلى الأرض وسؤالهم”.
في مواقع المايا مثل ياشيلان وُجدت نقوش تُظهر أسياداً حاكمين وكهنة يمارسون طقوساً ينزفون خلال ممارستها، ينغزون أنفسهم من أجل تقديم الدماء للأسلاف والآلهة بهدف التواصل معهم.
لقد وجد المايا طريقة لفك غموض وأسرار الموت على طريقتهم، ففي حين يردِّد الكثيرون جهلهم بما سيحدث بعد الموت، لأنَّ لا أحد ذهب إليه وعاد ليقص الحكايا، تجد أن ذلك الشعب يستدعي أسلافه ويسألهم عن الرحلة التي قاموا بها. فها هي امرأة تظهر في رسم جداري يتضح أنها زوجة أحد الأسياد الرئيسيين في هذا المكان، نرى حبلا شوكيّاَ يمرُّ من خلال ثقب في لسانها، دون أن تسمح طريقة تمريره بتدفق الدم ولا بتجلّطه. نراها في مشهد آخر من النقش وهي تحرق الحبل مع ورق اللحاء، ومن الدخان المتصاعد يتشكَّل ثعبانان، كأنهما طيفان يظهران في خطمها. يعني الطيف الأول ظهور إله الحرب، أما الثاني فهو شكل أحد أجداد السيدة، وبهذه الطريقة، يتم استدعاء وجلب الأسلاف -الذين مروا بتلك الحياة واستطاعوا الاجتماع بالعائلة-، إلى عالمنا.
أما رجالهم، فقد كانوا يثقبون أعضاءهم الخاصة، مستخدمين إبرا من زجاج بركاني أو من شوكة المانتارايا، ويتبعون ذلك بترتيل تعويذة تسمح بعودة الأسلاف من أجل سؤالهم.
في وقتنا الحاضر، تؤمن الجماعات التي تنحدر من أصول المايا، (كاللاكاندونيين الذين يعيشون على الحدود المكسيكية الغواتيمالية، وخصوصا في ولاية تشياباس)، أن أمواتهم ليسوا سوى نجوم، أناس تراهم يدخّنون السيجار ولذلك فهم يلمعون. إنهم ببساطة يعتقدون أنهم ما زالوا على قيد الحياة، في رحلة مع الأسلاف.
كليفلاند علَّق على ذلك قائلا «وخلاصة القول إنَّ لديهم فصلاً بين الحياة المادية والملموسة والقابلة للقياس وبين ما هو تام، أي بين ما هو غير ملموس».
ثمَّة مفهومٌ فلسفيٌّ عميقٌ للموت عند المايا نجده في طريقة الدفن وهو مستوحى من الأرض والطبيعة الزراعية التي اشتهرت بها تلك الشعوب، التي اعتبرت الذرة نباتاً مقدَّسا. فعند زراعة بذور الذرة فإنها تمتصُّ المياه وتبدأ في النمو، أي أنها تبدأ حياة جديدة من خلال تشكيل أنبوب، وهذا الأنبوب سيكون النبتة الجديدة التي تنتج الثمرة. ولهذا فشعوب المايا تُسمِّي الخليفة أو الوارث للعرش بالـ”تشوك” وهي ذات الكلمة التي يستخدمونها للبرعم أو الفسيل.
فالبذرة هي شيء ميت، لكنها تعطي حياة، ولهذا نجد تمثالا لـ”باكال” بتنورة تحمل نبات الذرة وشكل العاصفة رمزا لاجتماع الماء مع البذور ومنحهما استمرارية الحياة.
لننتقل مع كليفلاند إلى قبر الحاكم «باكال” وتابوته في المنطقة الأثرية في بالينكي المكسيكية، فسنجد أنه يحوي عظامه وجلده فقط، على اعتبار أنه سيولد من جديد في خليفته.
وكما يحدث في نبات الذرة، سنكتشف أن أنبوبا يخرج من قبر باكال ويرتفع في الهرم المكسيكي ويستمر بالارتفاع حتى يصل المكان الذي يوجد فيه ابنه وخليفته في الحكم «كانبالام”.