سجن ويكفيلد الإنكليزي
في المخيّم المؤقّت في بلدة ويكفيلد، بقيت قرابة أسبوعين، تفاجأت بالمبنى المقابل. كان سجن ويكفيلد الرهيب مقابل المخيّم.
حين اكتشفت أنّ السجن يربض على بعد أمتار قليلة من غرفتي لم أستطع النوم إلّا لماماً، كنت أفيق بين الساعة والأخرى متوجّساً، تساءلت كثيراً في نفسي هل من المصادفة اختيار هذا الفندق الكبير مقابل السجن الضخم ليكون عتبة مؤقّتة للاجئين في رحلة لجوئهم في بريطانيا، وما إن كان ذلك لدفعهم إلى التحفّظ في بداية حياتهم الجديدة، وترويعهم من رعب السجن المخيّم على المخيّم نفسه.
بدت المنطقة المحيطة بالسجن والمخيّم هادئة تماماً، لم أستطع منع نفسي من التفكير في حكايات المسجونين ومآسيهم وأنا القادم من بلاد كان سجوناً مفتوحة على العدم، سجوناً محاطة بأسوار من الخوف والرعب والترويع والجنون، تقهر الإنسان وتدمي روحه.
تذكّرت ليالي قضيتها في سجن القطعة العسكريّة أثناء خدمتي الإلزاميّة، كان قائد الكتيبة أمر بسجني، وهناك كان القهر والإذلال على أشدّه، كان السعي منصبّا على إشعار السجين أنّه ليس إلّا شيئاً للتسلية والتعذيب، وأنّه سيمضي حياته كلّها في مستنقع الذلّ ذاك، وبرغم أنّ السجّانين كانوا من العساكر الذين يعتبرون زملاء في الخدمة الإلزاميّة، إلّا أنّهم كانوا يتحوّلون إلى وحوش بمجرّد أن يتمّ إغلاق الأبواب علينا في السجن.
كانت تجربة فظيعة، برغم أنّها لم تتجاوز بضع ليالٍ، إلّا أنّني أشعر بالعار حين أستعيدها، أشعر بالعار لانتمائي بطريقة ما إلى أولئك الجلّادين الذين تجرّدوا من إنسانيّتهم وأصبحوا أدوات للقمع والتنكيل.
استرجعت كثيراً من سرديّات السجون ويوميّات أدباء تعرّضوا لهذه التجربة الوحشيّة القاسية، كنت أتأمّل الجدار الشاهق المزروع بكاميرات المراقبة، أحاول تخيّل ما وراءه فأرتعب لمجرّد تصوّر أن يتماهى مع صور الواقع والذاكرة التي أحتفظ بها عن سجون بلدي الشهيرة بوحشيّتها وسفالتها وإجرامها.
أحاول تهدئة مشاعر نقمتي وغضبي، أهرب إلى المكتبة التي أجد فيها راحتي وملاذي، أهدّئ أعصابي هناك، أجلس بين رفوف الكتب أتأمّل حاضري وماضيّ، وأتخيّل صوراً متناقضة للمستقبل. هل بدأت خيباتي حينها؟ هل كان المخيّم عتبة للخيبة ومعبراً إلى سجن اللجوء وزنزانة الاغتراب؟
لم أرد لنفسي أن أكون سجين أيّ كابوس أو رعب أو واقع، حاولت تخطّي ذاك التوجّس الذي خلّفه جدار السجن في روحي، وأربكني وزعزع أماني المتوهّم، أعادني بطريقة ما إلى أرض الواقع بعيداً عن أوهام الانتقال إلى فردوس متخيّل.
يضع السجن حدّاً للوهم ويعشّش في الذاكرة بحضوره الدائم، فذكريات الأيّام الأولى لا تنسى، تخلّد في الذواكر، هي تماماً كذكريات الأيّام الأولى في الخدمة العسكريّة الإجباريّة في بلدي، يعيد صاحبها الحديث عنها حتّى يشيخ، ودائماً بالحماس نفسه، تفترش الذاكرة ولا تفسح أيّ مجال للنسيان كي يغافلها أو يمحوها. هكذا هي أيّام اللجوء الأولى، تبقى وشماً في الروح والذاكرة.
أحاول جاهداً أن أتصالح مع تناقضات الحياة، أؤكّد لنفسي أنّ السجون مؤسّسات ضروريّة للدول كي تحفظ توازنها، أتخيّل دولاً من دون سجون، أماكن يتطهّر فيها الإنسان من وحشيّته، يتسامى عن الروح الإجراميّة التي تعصف به، وأدرك أنّ تخيّلاتي قد تندرج في دائرة الوهم والمثاليات التي قد توصف بالمجنونة، إلّا أنّ الجنون أحياناً يكون ضروريّاً للحفاظ على شيء من التعقّل، ولا بأس أن يكون جنوناً مثاليّا على أن يكون جنوناً مدمّراً إجراميّاً.
أدرّب نفسي منذ فترة على التخلّي عن روح الشرّ التي تسكن الإنسان، أقمع دوافع الغضب التي تجتاحني، أحاول أن أقنع نفسي بوجوب التحلّي بروح السماحة والتسامح، لا من مبدأ القوة أو الضعف، بل من موجبات استمرار الحياة نفسها، لأنّني حين أحقد على شخص ما أو أكرهه فإنّ ذلك ينال منّي، يحدث ارتجاجاً في روحي، أفقد توازني، أخرج عن مسار الأمان المأمول وأدخل طور الضياع الكارثيّ.
أقنع نفسي بأن أهمل من يسيء إليّ فالزمن كفيل بمعاقبته بطريقته الخاصّة، وأؤمن بدروس الزمن وعبره، واستحالة أن ينفذ المرء من العقاب الذي يناسب ما يقترفه بحقّ غيره. أحاول أن أنسى، أو أبقي تلك الشعلة من دون أيّ تغذية بمشاعر الحقد والكراهيّة كي لا أفسح لها المجال لتحرق كياني وروحي وتعكّر صفو أيّامي.
لوحة: سعد يكن
دفعتني الأمكنة الجديدة التي وجدت نفسي فيها إلى الغوص في داخلي، ومراجعة ذاتي وأيّامي المنصرمة وذكريات الأسى والقهر والهدر التي أحملها معي كأعباء تثقل كاهلي، أقنعت نفسي أنّ الزمن القادم لا يحتمل المضيّ تحت أعباء تلك الأحقاد والأحزان والمآسي، وأنّه يحتاج للتخفّف من حمولتها لأتمكّن من العبور إلى غدي بأقلّ الخسائر الممكنة.
حين يحقد امرؤ على آخر، وحين يسكن روحه بالكراهية اللعينة، يغدو مرتهناً للقلق والتوتّر، يفكّر في سبل الإيقاع بمَن يعدّهم أعداء له، يوقف مخطّطاته لتعكير حياتهم والانتقام لنفسه منهم، ينشغل بوسائل الشرّ ويقع في فخّ الأشرار الذين يخرجونه عن طوره ويغيّرون مسار حياته، يضعونه في مواجهتهم ليكون انعكاساً لتشوّههم، ولا يستطيع التخلّص من هذا القيد إلّا بالتسامي على جراحه، ومحاولة التناسي، أو إهمال الجرح وإفساح المجال للزمن كي يداويه. صحيح أنّ الزمن خير دواء وعلاج، خير مداوٍ ومعالج.
كنت وما زلت أتذكّر بيت شعر مؤثّراً لجبران خليل جبران في قصيدته المميّزة “العواصف”: “وقاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر”. فلسفة الشاعر في أن تكون العقوبة متمثّلة بالجريمة نفسها، أن تكون جريمة القاتل عقوبته الجاثمة على صدره تنخر روحه رويداً رويداً لحين تفتيته وإغراقه بالعذاب.
كان الروتين اليوميّ في المخيّم أشبه بروتين السجن نفسه، أوقات الوجبات الغذائيّة محدّدة بدقّة، يتمّ توزيع المخصّصات على اللاجئين، تمكن مصادفة صور من الترفّع والتعفّف وأخرى من التكبّر والوضاعة في الوقت نفسه، يتكالب بعضهم على الطعام بطريقة مقزّزة، يظنّون أنّها شطارة، أولئك الذين ينخر الجوع أجسادهم لن يستدلّوا إلى أيّ طريق للشبع.
كنت أحمل بطاقة الوجبة وأقف في الدور منتظراً، أمارس هوايتي الدائمة في تأمّل البشر وسلوكيّاتهم، وكيف أنّهم يدخلون مضمار مسابقة لا نهاية لها، مسابقة تكمن في لعبة الحياة نفسها. كنت أفكّر بالمساجين على الجانب الآخر من الشارع، وراء تلك الأسوار العالية، وكيف أنّهم ينتظرون دورهم أيضاً للحظوة بوجبتهم، وما يفرض عليهم من انضباط وتقييد، ثمّ أعود إلى مشاهد قاعة الطعام الكبيرة وأراقب اللاجئين من مختلف الجنسيّات، والاختلافات في طريقة أكل الطعام نفسه، وكيف أنّ الأكل ثقافة تعكس ثقافة تاريخيّة وحياتيّة واجتماعيّة وحضاريّة برمّتها.
مزيج غير متجانس من اللغات والشعوب، أفارقة من مختلف الدول الأفريقيّة يتقوقعون على أنفسهم، إيرانيّون يعلّقون صلباناً كبيرة يتعاملون بنوع من التعالي على غيرهم، ويشعرون بنوع من التفوّق عليهم، يعدّون كثيرين من اللاجئين الذين معهم في المخيّم جزءاً من ماضيهم قبل أن يغيّروا ديانتهم، وكثيراً ما كان يتردّد أنّهم إنّما يغيّرون دينهم من أجل الحصول على الإقامة لا غير، وكان الردّ التالي بأنّ مكسب الكنيسة يكون في الأجيال التالية وليس من الجيل الانتهازيّ الذي يقلب دينه من أجل غايته في الإقامة فقط.. ثمّ كان هناك عرب وكُرد يخوضون نقاشاتهم السياسيّة التي لا تنتهي بالعادة، ولا ينفكّون ينظرون إلى أولئك الإيرانيّين بنوع من الاستهجان لانتهازيّتهم وتغييرهم دينهم وزعمهم تغيير جلودهم بتلك السرعة، ولا يعدم بعض منهم التعبير عن شعور بنوع من التفوّق عليهم لأنّهم ما زالوا متشبّثين بدينهم ويحاولون إبراز ذاك التشبّث وإظهاره بطريقة مباشرة للدلالة على قوّة عقيدتهم.
أحياناً أفيق من النوم مذعوراً، أستعيد ظلال جدران سجن ويكفيلد العالية وأتخيّل أشباحاً تنقضّ عليّ في غرفتي المقابلة لها. أحاول تحويل الذعر إلى طرفة أتسلّى بها، أقول لنفسي كأنّ ذكريات السجون وظلالها الكارثيّة وحكاياتها المريعة التي أختزنها في ذاكرتي لم تكن تكفي لإبقائي كائناً قلقاً مسكوناً بالخوف فجاءت ذكريات الأيّام الأولى للجوء لتكرّس ذاك المخزون من الأسى والخوف، وتزيد كوابيسي ووساوسي.
هكذا أبدّد حالة الخوف حين تتلبّسني، أحيلها إلى سخرية، أفقدها هيبتها ومعناها، أعابثها لأتمكّن من تعريتها والنظر إليها كعبث لن أسمح له بتعكير حياتي وأيّامي القادمة.
سجن ويكفيلد أحد معالم رحلتي إلى عالمي الجديد، طبعت جدرانه في ذاكرتي وخيالاتي، وتحوّلت إلى كابوس يعود لزيارتي بين الفينة والأخرى.
مرحباً بالكوابيس الجديدة التي لن تنافس بأيّ شكل من الأشكال كوابيسي المستوطنة في روحي وعقلي.