لحظة ترامب أم احتضار العولمة
لا يزال من الصعب تحديد قائمة المؤيدين لترامب والمتحالفين معه وقائمة المناهضين له والمتوجسين من سياساته، بصورة نهائية، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها. وهذا لا يتعلق بكون ترامب شخصية إشكالية ومثيرة للجدل، وهو كذلك بالفعل، بل يتعلق بأزمة مركبة، اجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، تشمل الولايات المتحدة وغيرها، يمكن أن تكون الفوضى أو اللاتعيّن أحد عناوينها والإرهاب عنواناً آخر. والفوضى والإرهاب علامتان على تراجع الديمقراطية أو انحلالها.
لعل هذه العاصفة السياسية تشير بوضوح إلى أن المسألة تتجاوز نتائج الانتخابات والمثالب التي تنسب إلى ترامب. فليس انقسام المجتمع الأميركي على نتائج الانتخابات سوى إشارة إلى أزمة عميقة، لا في الولايات المتحدة فقط، بل في النظام الرأسمالي العالمي ونسق العلاقات الدولية أو النظام الدولي.
فليست العاصفة السياسية سوى تعبير عن تداعيات الأزمة الاقتصادية، التي انفجرت عام 2008 وارتداداتها، بما هي واحدة من أزمات النظام الرأسمالي العالمي، التي لم يكن ممكنا الخروج منها نحو التعافي إلا بتدخل الدولة، في جميع البلدان التي لفحتها الأزمة، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، حيث كوفئت البنوك والشركات، التي تسببت بها، على حساب دافعي الضرائب، علاوة على الآثار المباشرة وغير المباشرة لنمو الاحتكار وطغيان رأس المال المالي المقترن بالفساد في الاقتصادات الرأسمالية وشبه الرأسمالية كافة، واتساع الهوة بين أغلبية فقيرة وتزداد فقراً وأقلية غنية وتزداد غنى.
فإن الحاجة إلى تدخل الدولة للخروج من الأزمة المالية كان ولا يزال يعني الحاجة إلى إصلاح النظام الديمقراطي والارتقاء به نحو ديمقراطية اجتماعية تقوم على المساواة والحرية والعدالة وتكافؤ الفرص و «إنصاف الفئات الأقل حظاً»، حسب تعبير أمارتيا صن، وإعادة الاعتبار للمجتمع المدني، بصورة أساسية، وتجديد العقد الاجتماعي وفقاً للمُحرَز الديمقراطي وحقوق الإنسان. ولكن الأمور لم تجر على هذا النحو، ولم تتجه هذا الاتجاه؛ وقد انقضى مفعول جرعة المورفين المسكِّن، التي حُقن بها النظام الاقتصادي بإشراف الدولة، فتحولت الأزمة المالية السابقة إلى أزمة سياسية، ولهذا التحول دلالات عميقة. أحد هذه الدلالات أن التناقض بات عميقاً بين الديمقراطية والشعبوية من جهة، وبين الديمقراطية والليبرالية الجديدة وتجلياتها العنصرية، من الجهة المقابلة، ما يعني أن الأزمة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه.
يمكن استشفاف بعض هذا التعقيد من إعادة الاعتبار للدولة القومية، بصفتها موطن السيادة ومملكة القوانين، من دون إعادة الاعتبار للمجتمع المدني بصفته فضاء من الحرية، يفصل بين الأسرة والدولة، وكل فصل هو وصل. لذلك غُيِّبت المسألة الأساسية الأكثر خطورة على حياة الدول والشعوب والمجتمعات، نعني تآكل الديمقراطية والتراجع عن مبادئها وقيمها الإنسانية. فإن تقييد الحريات الخاصة والعامة صار سياسة مبرّرة عالمياً، بالخوف من الإرهاب والتخويف به، منذ أحداث أيلول/سبتمبر 2001، واعتباره الشر المطلق، وهو كذلك بالفعل، الذي حلّ محل الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي وحلف وارسو، في أثناء الحرب الباردة، وحصر الإرهاب في الإسلام والمسلمين بصورة أساسية.
ربما كان الخلل الرئيس في العولمة، التي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، مع ولاية كل من رونالد ريغان ومارغريت تاتشر، مطلع ثمانينات القرن الماضي، إطلاق العنان لحرية السوق، وتقييد الحريات الاجتماعية والسياسية، الفردية والعامة؛ ما أدى إلى «دكتاتورية السوق»، وحلولها محل المجتمع المدني، وتهميش الأخير تهميشاً مضاعفاً، نعني إلغاء فاعليته السياسية من جهة وإفقار أكثريته وإخراجها من عالم السياسة والثقافة العصرية، من جهة أخرى. وهذا متصل أوثق اتصال بتقليص دور الدولة وتحويلها إلى «ربة منزل». يمكن القول إن الحرية تثأر لنفسها من خلال الحركات الاجتماعية، من حركة «احتلوا وول ستريت» إلى «الربيع العربي»، ومظاهرات الاحتجاج على فوز ترامب، ومظاهر الاحتجاج الأخرى، الرسمية منها والشعبية.
في هذا السياق يرى بعضهم أن فوز ترامب انقلاب على العولمة. فقد كتب المفكر الاقتصادي المعروف، الدكتور جميل مطر في جريدة الحياة اللندنية أن «العولمة، كما دشنتها أميركا، وغيرها من دول الغرب، تجاوزت عمرها الافتراضي وأن سلبياتها صارت تتفوق على إيجابياتها إلى حدّ جعل ترامب يرى أميركا ضحية من ضحايا العولمة. سبقه البريطانيون الذين عاد الشك في نوايا القارة الأوروبية يسيطر عليهم. فالعولمة في صيغتها الأوروبية حاولت الانتقاص من سيادة حكومة لندن، حاولت أيضاً إجبار بريطانيا على فتح حدودها لاستقبال الباحثين عن العمل من شرق ووسط أوروبا واللاجئين من خارج أوروبا».في حين يرى الدكتور عصام الخفاجي أن «العولمة التي بات الأميركان يرونها شرّاً لا بد من محاربته، حققت للبشرية، لا لرأس المال فقط، ما لم يحققه أيّ تطور آخر في التاريخ البشري. فخلال أقل من عشرين سنة انخفضت نسبة من يعيشون في حالة فقر مدقع من 35 بالمئة أي أكثر من ثلث سكان الأرض عام 1993 إلى 14 بالمئة عام 2011». ولكن، وحين تدخّلت الدول لمجابهة الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالغرب بسبب مضاربات البنوك وشركات التأمين عام 2008، قامت بتعويض البنوك لمنع إفلاسها وحمّلت ذوي الدخول المحدودة عبء دفع تلك المكافأة. حركة الأجور سارت سلحفاتية طوال العقود الأربعة الماضية فيما حققت دخول الفئات العليا قفزات لا سابق لها بحيث عادت فجوة الدخل بين الأكثر فقراً والأكثر غنى إلى ما كانت عليه أيام الكساد العالمي الكبير عام 1929. عام 1980، كان متوسط دخل من ينتمي إلى فئة الواحد بالمئة من أغنى الأميركان يعادل 27 ضعف دخل من ينتمي إلى الخمسين بالمئة الأقل دخلاً. أما الآن فإن دخل هؤلاء المحظوظين يعادل 81 ضعف ما يحصل عليه ابن النصف الأدنى منهم. في منتصف السبعينات من القرن العشرين كان متوسط الدخل السنوي لمن ينتمي إلى الواحد في المئة الأغنى 340 ألف دولار ارتفع الآن إلى مليون دولار، وفي المقابل ارتفع متوسط الدخل الحقيقي للنصف الأدنى من السكان خلال ثلاثة عقود من عشرين ألف دولار إلى خمسة وعشرين ألفا فقط».
وهذا يعني أن العولمة تسببت باختلالات اجتماعية-اقتصادية يمكن إصلاحها، إذ تعود بعض هذه الاختلالات إلى التحول من سيادة قطاع اقتصادي إلى آخر، وإهمال التبعات الاجتماعية لهذا التحول، كتسريح العمال من الشركات التي تحتاج إلى خبرات ومهارات عالية، وتنحيف شركات أخرى حلت فيها الآلات الذكية محل العمال، وزيادة معدلات الفقر في الدول المتقدمة لا معدلات البطالة. «وكان ممكناً وضرورياً أن تتحمّل الدولة وأرباب العمل تكاليف عملية إعادة تأهيل من فقدوا وظائفهم بسبب تراجع القطاعات الصناعية. لكن السياسات النيوليبرالية التي أرساها رونالد ريغان ومارغريت تاتشر في الثمانينات من القرن الماضي ليست، ولم تكن، في هذا الوارد. فثمة سوق حرة تغرف منها القطاعات الصاعدة من دون عناء. محدودو الدخل ليسوا عاطلين من العمل، فالبطالة في أدنى مستوياتها منذ عقدين. لكنهم مضطرون إلى القبول بأيّ وظيفة مهما كان الأجر منخفضاً، ومن دون ضمانات ضد التسريح، الذي لا ترافقه تعويضات ضمان اجتماعي أو صحّي. وهذا هو مصدر القلق المستشري في أوساط الأميركان ذوي الدخل المحدود»، حسب الدكتور الخفاجي.
ليس من المؤكد أن سلبيات العولمة غلبت على إيجابياتها، إلا في البلدان ضعيفة النمو، والتي يعود ضعفها إلى نقص التطور الرأسمالي وتفويت الثورة الديمقراطية في كل منها، أكثر مما يعود إلى «الاستغلال الرأسمالي» و»النهب الإمبريالي»؛ إذ للمبالغة في هذين الاستغلال والنهب بعد أيديولوجي، يغطي فساد الأنظمة السياسية وتخلف البنى الاجتماعية والثقافية، ويبرّر الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، كما هي الحال في معظم البلدان العربية ومثيلاتها.
لذك، لا نشاطر مناهضي العولمة اعتقادهم بأن «المارد يعود إلى القمقم» حسب تعبير الدكتور جميل مطر، لأن العولمة من أخص خصائص النظام الرأسمالي أو نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي تصعب إمكانية قيامه واستمراره وتطوره في بلد واحد. هل كان يمكن أن تقوم الرأسمالية وتتطور في المملكة المتحدة، أقدم النظم الرأسمالية، دون بقية الدول الأوروبية، مثلاً؟ بل هل كان يمكن أن تبقى الرأسمالية محصورة في القارة الأوروبية دون غيرها؟ العولمة هي عالمية النظام الرأسمالي أو نمط الإنتاج الرأسمالي، وعالمية الثورة الديمقراطية، بجميع منطوياتها أيضاً، فلا يمكن فصل هذه عن تلك إلا من أجل الوصل. والعولمة، من جانب آخر لا يقل أهمية، هي نمو الشعور بالانتماء الجذري إلى الجماعة الإنسانية، وسمو الرابطة الإنسانية على ما عداها من الروابط، بما في ذلك الرابطة الوطنية أو القومية، ولا فرق. هذا السموّ المتحقق بالفعل، على الصعيد الحقوقي، في أولوية القانون الدولي على القوانين الوطنية، وأولوية الشرعة العالمية لحقوق الإنسان على القيم المحلية.
ليس من المؤكد أن سلبيات العولمة غلبت على إيجابياتها، إلا في البلدان ضعيفة النمو، والتي يعود ضعفها إلى نقص التطور الرأسمالي وتفويت الثورة الديمقراطية في كل منها، أكثر مما يعود إلى «الاستغلال الرأسمالي» و»النهب الإمبريالي»
هذا الشعور المتنامي بسمو الرابطة الإنسانية، لا يزال يصطدم بالدولة القومية، أو الوطنية، وهو ليس بعد قاعدة من قواعدها، لذلك لم تتخلص الوطنية أو القومية بعد من الميول العنصرية الثاوية في أساساتها. وهذا مما يستوجب إعادة بناء العقد الاجتماعي، حتى في الدول المتقدمة.
أجل، إن إعادة الاعتبار للدولة القومية، والعودة إلى الحمائية، وفقاً لمبدأ «أميركا أولاً»، الذي أعلنه ترامب، والموقف من الهجرة والمهاجرين، ومن الإسلام والمسلمين خاصة، ومن الأفارقة ودول الجوار، ومن «القارة العجوز» والاتحاد الأوروبي.. هذا كله وغيره عودة، بل نكوص إلى أسوأ ما في القومية، وأسوأ ما في تاريخ الدولة القومية، نعني العنصرية، وما تنطوي عليه من استعلاء وتفوق ونزعات عدوانية.
أغلب الظن أن العودة عن العولمة، بما لها وما عليها، صارت صعبة من دون تفكك نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي لم يتبلور نقيضه التاريخي بعد، على اعتبار النظم الاشتراكية الآفلة أو الشيوعية الآفلة لم تكن، أو لم تستطع أن تكون، ذلك النقيض. وأغلب الظن أيضاً أن لحظة ترامب قد تفتح مسار تصحيح العولمة. العودة عن العولمة أكبر من يديْ ترامب، وأكبر من يديْ ترامب وبوتين مجتمعيْن، وفقاً لوعود الثورة العلمية التكنولوجية وثورة الاتصالات والمعلومات وثورة التواصل الإنساني، التي لا تزال في بداياتها. فالحدود القومية، التي اختُرِقت مرة، يمكن أن تُخترَق مرة أخرى.
أما أن لحظة ترامب ستخلخل نسق العلاقات الدولية، فهذا محتمل، بل مرجَّح. هنا ينبغي التفريق بين النظام العالمي، أي النظام الرأسمالي،أو الرأسمالية، وبين النظام الدولي أو نسق العلاقات الدولية، على ما بينهما من تداخل، وتأثّر وتأثير متبادلين، بل إن التغيُّر النوعي في النظام الدولي، أو نسق العلاقات الدولية، لا يكون إلا بتغيُّرٍ ما في النظام الرأسمالي العالمي، أو في نمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، الذي يتسارع نموه وتطوره، وهما نموّ وتطور لا يخلوان من تراجعات وانتكاسات، ربما بسبب الأزمات الدورية الملازمة للنظام الرأسمالي، وهي أزمات نموّ على كل حال، «الرأسمالية تجدد نفسها»، حسب مقاربة المرحوم الدكتور فؤاد زكريا، وكذلك الديمقراطية.
استعراض السيرة الذاتية للرئيس الأميركي دونالد ترامب ونشاطه الاقتصادي والتلفزيوني والمجالات التي يستثمر فيها، ولا سيما صناعة الترفيه و»رضاعة التسلية»، بتعبير زبينغيو بريجنسكي، قد يساعد في اكتناه جمهوره، الذي يجمع بين نموذج من نماذج النخبة ونموذج آخر على الطرف النقيض، يشكل اجتماعهما نوعاً من اجتماع العنصرية والشعبوية، وهو النّموذج الذي يمكن مصادفته في كثير من الدول الأوروبية، التي تشهد صعود اليمين المتطرف والنازية الجديدة.
في أوساط مثل هذا الجمهور، وفي ظلّ ما وصفناه بالعودة أو النكوص إلى أسوأ ما في تاريخ الدولة القومية، لا تُستغرب إعادة إنتاج الاستشراق الأميركي، أو «اختراع الشرق»، الذي نهل من مناهل الاستشراق الأوروبي، لكنه يختلف عنه من حيث تركُّزه في مجالين أساسيين: العلوم الاجتماعية، والإعلام، وهذا يتناسب مع النموذجين المشار إليهما فوق: النخبة وجمهور الإعلام. ولكن النسخة الأميركية الراهنة من الاستشراق تخص المسلمين والعرب أكثر مما تخص غيرهم من «الشرقيين»، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 والتحضير لغزو والعراق واحتلاله عام 2003. ويبدو لنا أن لأولوية «الحرب على الإرهاب الإسلامي» لدى ترامب وظيفة أساسية هي توكيد هذا النوع المُستحدَث من الاستشراق والمتماشي مع حماقة «صراع الحضارات» وأدلوجة الليبرالية الجديدة. ولكن على ترامب أن يفصل بين الاستشراق و»العداء للسامية»، وهما متلازمان في الاستشراق الأوروبي، ومتجذّران في الثقافة الأوروبية المفرطة في مركزيتها وتمركزها على ذاتها، كما بيّن إدوارد سعيد.
يقول إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» (في الصفحتين 435-436) «بدأ ظهور شخصية العربي المسلم في الثقافة الشعبية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، وبصورة أوضح بعد كل حرب بين العرب وإسرائيل، وذلك حتى بعد الاهتمام الشديد الذي بدأ العربي يحظى به في الحياة الأكاديمية وفي عالم تخطيط السياسات ودنيا التجارة والأعمال، وهو ما يرمز إلى تغير كبير في التشكيلات الدولية للقوى، إذ لم تعد فرنسا وبريطانيا تشغلان الموقع الرئيسي على مسرح السياسة العالمية، بعد أن حلت السلطة الأميركية المهيمنة محلهما، وظهرت شبكة شاسعة الأطراف من المصالح التي تربط ما بين جميع مناطق العالم التي كانت مستعمرة وبين الولايات المتحدة».
في السينما والتلفزيون الأميركيين ترتبط صورة العربي إما بالفسوق وإما بالخيانة وسفك الدماء أو بتاجر الرقيق وسائق الجمال والصرّاف والوغد الجذاب أو بقائد لعصابة لصوص أو قراصنة،أو بالبدوي الذي يملك ثروة لا يستحقها. وأكثر ما يظهر في السينما، منذ عام 2001 في صورة الإرهابي، الذي يهدد حياة الأميركيين ويروَّع نساءهم وأطفالهم.
ما من شك في أن لحظة ترامب لحظة فارقة، على المدى القصير، ولكنها عابرة في تاريخ الرأسمالية وتاريخ العولمة، وذلك لانطوائها على جملة من المفارقات، أشار إليها الدكتور الخفاجي في مقالته بجريدة الحياة اللندية، حيث قال «أولى هذه المفارقات أن رئيس الدولة التي تُعتبَر النموذج الأكثر صفاءً للنهوض الاقتصادي وتحقيق الرفاه اعتماداً على قوانين السوق والحرية الاقتصادية وحريّة انتقال رأس المال بحثاً عن تعظيم الأرباح، يعمل على تقييد هذه الحرية. والثانية أن رئيس الدولة التي تملك أكبر نسبة من أسهم صندوق النقد الدولي والمتحكمة فيه فعلياً لا توافق على منح قرض لبلد إن لم ينفتح على حرية انتقال رأس المال، لكنّها تقرر معاقبة رأسمالييها إن اتّبعوا قوانين السوق وقرروا الاستثمار في المكسيك أو الهند أو غيرها. والثالثة أن ينقض رئيس هذه الدولة ما تربّى عليه الأميركيون من أن الحرية السياسية والديمقراطية لا تتحقّقان إلا بتحقّق الحرية الاقتصادية المترادفة، وفق هذا الفهم، مع حرية انتقال رأس المال والعمل. والرابعة أن البلد الذي يفتخر بكونه أمّة من المهاجرين يصوّت لمصلحة بناء سور مع جاره لمنع الهجرة إليه، بل يطالب الضحية بدفع تكاليف بنائه، والخامسة أن البلد الذي تزعم العالم الحر وحماية أوروبا من الخطر الشيوعي، يريد أن يظل زعيماً بشرط أن يتقاضى مقابل زعامته».
ولم يخطئ من وصف دبلوماسية ترامب بدبلوماسية الصفقة. وفي ضوء ما تقدم، نفترض افتراضاً أن لحظة ترامب عابرة، في التاريخ، نتجت من ترهل الديمقراطية وفساد المؤسسات، وأن العولمة ستجدّد نفسها، مثلما تجدد الرأسمالية نفسها، وتعتني بالجنين الذي يتشكل في أحشائها، حتى تحين ولادته. وبومة منيريفا لا تطير إلا في الظلام.