فرناندو بيسوا: العاشق وأنداده
في الكتاب الصّادر حديثًا عن «الكتب خان، للنشر والتوزيع – القاهرة» بعنوان «فرناندو بيسوا – رسائل ونصوص» (2017)، بترجمة وتحرير وائل عشري، ثمّة عوالم متعدِّدة لشخصية الشّاعر البرتغالي علاوة على الرسائل التي كتبها الكاتب سواء باسمه أو بأنداده لحبيبته أوفيليا.
يورد المترجم مقتطفات في مقدمة الكتاب أشبه باستهلال للنص تشير إلى تعددية الكاتب، بل إن المترجم يورد اقتباسًا للمؤلف ذاته يقول فيه «اليوم لا شخصية لي: لقد قسّمتُ كل إنسانيتي بين المؤلفين العديدين الذين خدمتهم كمنفذ أدبي. اليوم أنا مكان لقاء إنسانية صغيرة تنتمي لي أنا فقط».
الأنداد والمرايا
يشير المترجم إلى التعقيدات والتناقضات التي أحاطت بشخصية فرناندو بيسوا وكذلك كتاباته، كما يؤكِّد على أنَّ بيسوا «لم ينتهِ تقريبًا من أيّ مشروع كتابة بدأه أو خطّط له». وفي محاولة بيسوا للكتابة عبر العديد من الأنداد واللغات المُتعدِّدة يرى أنه «لا يكتب تحت أسماء مُستعارة لكي يخفي هويته أو كي يعبِّر عن أفكاره أو وجهات نظر لا يريد أن ترتبط بشخصه واسمه. وإنما كان هؤلاء كتابًا مستقلين عنه، يكتب عبرهم أو يكتبون عبره، لكلٍّ منهم رؤيته الخاصّة للعالم وأسلوبه الأدبي وجمالياته وأحيانًا آراؤه السياسية والاجتماعية». ولكي يؤكِّد الاستقلال أطلق عليهم الأنداد. فالندّ من وجهة نظر بيسوا «ليس خدعة ممتدة خفيفة الظل، وإنما كتبدٍّ آخر لتعدِّده الشخصيّ».
يُقدِّم المترجم نبذة مختصرة عن حياة الشعراء الأنداد ويصف على سبيل المزحة بيسوا بأنه من الأربعة المهمين في تاريخ البرتغال، إلا أن المترجم يقول إن عالم أنداد بيسوا أكثر اتساعًا من هذا الثلاثي. وهناك مَن أحصى مئة وستة وثلاثين ندًّا، بعضها رئيسي وبعضها هامشي، تناولوا في كتاباتهم موضوعات مدهشة في تنوِّعها؛ شعرًا ونثرًا، بالبرتغالية والإنكليزية والفرنسية، في النقد الأدبي والرأي السياسي، في التنجيم والعلوم الباطنية، في الدين والوطنية، في الكتابات السَّاخرة والتحليل الاجتماعيّ، في القصة القصيرة والرواية البوليسية والفلسفة.
ثمة ملاحظة مهمة في مسألة الأنداد أنها تأخذ لدى الكاتب بعدًا حقيقيًّا وجديًّا يصل به إلى صنع تاريخ كامل لهؤلاء الأنداد/المؤلفين، ذاكرًا جوانب اهتماماتهم كما فعل مع الندّ ألكسندر سيرش. بعض الأنداد يحمل جنسيات مختلفة كما في الأنجلوفونيين تشارلز روبرت أنون وألكسندر سيرش، وهناك الأنداد البرتغاليون ومن بينهم أنطونيو مورا، وهو فيلسوف ومُنظِّر رئيسي للوثنية الجديدة، وهي الحركة الفكرية التي أرادها بيسوا أن تحلَّ محل المسيحيِّة التي رآها «عليلة ومنحطة».
التعدد البيسوي
يتوقف المُحرِّر عند علاقة بيسوا بحبيبته أوفيليا كويروز، فيكتب عن بدايات العلاقة وحالة الصراع التي وصل إليها الطرفان ثم النهاية التي انتهت إليها قصة الحبِّ. تأتي حكاية الحب على هامش الرسائل المتبادلة بينهما، فيسبقها بمقدمة طويلة عن العلاقة وبداياتها، بل يذهب بعيدًا فيحلِّل شخصية الطرفين حيث كانت أوفيليا صغيرة في التاسعة عشرة من عمرها إلا أنها كانت ناضجة وهو ما يُفسِّر سرّ إصرارها على الاربتاط، حيث تمسُّكها بتقاليد الطبقة الوسطى المُحافِظة التي تنتمي إليها، في حين أن بيسوا كان يخشي من تأثير تكوين الأسرة والحياة التقليدية على إبداعه. الغريب أن أوفيليا كانت دومًا تنادي بيسوا بأسماء تحبّب كثيرة منها صيغ التصغير كما يشير المحرِّر في هامشه مثل: فرناندينينهو ونينينهو، وحبيبي الصغير، أما هو فكان يخاطبها بصيغ تدليل كحبي العذب العزيز، صغيرتي العزيزة الغالية، صغيرتي الملاك العزيز، أو العزيزة الشقية وغيرها التي تؤكد عمق العلاقة بينهما.
السؤال المستحيل بالنسبة إلى بيسوا هو «ما الذي اعتقد بيسوا حقًّا؟»، فهو يرى أن الكمال «يكمن في الشعور بكل ما يمكن الشعور به» فيكتب شذرة مبكرة هكذا «أن تكون كاملاً في أيّ شيء يعني أن تكون على حقٍّ، كلّ الطُّرق تصل إلى نفس المكان»، ومن ثمَّ كما يقول المترجم فالتعدد البيسوي ليس سوى تعدّد العالم ذاته؛ بخيره وشره، برماديته، بتعقده العَصيِّ على التبسيط. ولهذا يقرر المترجم لكي نعطي بيسوا حقه يجب علينا أن نضع كل هذا في حساباتنا أي الشيء وضده، الذات المتعددة المتناثرة والأمة العبقرية ذات الرسالة الإنقاذية التي يتمثّل خلاص العالم الروحي في الخضوع لسطوتها الناعمة. بعد هذا العرض يتساءل المترجم عن أيّ سيرة يمكن أن تكتب لفرناندو بيسوا إذن؟ كيف يمكن أن نكتب سيرة ولو موجزة لذلك التعدّد والتناقش المسمَّى بيسوا؟
سيرة الغموض
تحتوي الرَّسائل على سيرة موجزة كتبها المترجم وائل عشري عن بيسوا الذي ولد في لشبونة عام 1888، توفي والده بعد مولده بخمس سنوات وتزوّجت والدته في العام التالي لوفاة والده، وقد انتقل بيسوا إلى ديربان بجنوب أفريقيا حيث زوج أمه عُيِّن قُنصلاً للبرتغال فيها. وتعلَّم اللغة الإنكليزية هناك وأظهر تفوقًا كبيرًا. في عام 1905 عاد بيسوا إلى لشبونة للالتحاق بالجامعة، ثم سرعان ما تركها كي يبدأ تعليمه الخاص، وقد أقام مع خالته أنيكا التي كانت مُهتمّة بالتنجيم وجلسات الاتصال بالأرواح والكتابة الآلية التي يتلقاها.
بعد وفاة جدته استغل الميراث في تأسيس مكتب طباعة، كما أسّس العديد من المشاريع التجارية التي فشلت بعد وقت قصير من انطلاقها، كما أسس وساهم في تأسيس العديد من المجلات الأدبية قصيرة العمر. في هذه الأثناء بدأ كتابة الشعر والنثر باللغة الإنكليزية وبتوقيع النديْن المبكريْن تشارلز روبرت أنون وألكسندر سيرش، وقد تركز طموحه الأدبي على كتابة الشعر باللغة الإنكليزية. في خريف عام 1934 نشر بيسوا كتابه الوحيد باللغة البرتغالية وهو ديوان شعر وطني صغير بعنوان «رسالة».
توفي بيسوا في المستشفى الفرنسي في لشبونة في الثلاثين من نوفمبر 1935. في حياته نشر بيسوا عددًا قليلاً جدًّا من الكتب أغلبها كتيبات شعر باللغة الإنكليزية، أما الغالبية العظمي من مؤلفاته شعرًا ونثرًا فقد ظهرت في مجلات ودوريات أدبية. بعد وفاته اكتشف محرور بيسوا الخزانة التي أودع فيها مخطوطاته العديدة: تسعة وعشرون دفترًا وآلاف فوق آلاف من الأوراق تتضمن قصائد غير منشورة، مسرحيات وقصص قصيرة غير مكتملة، ترجمات وتحليلات لغوية.
الرسائل والوجه الآخر
يحتوي الكتاب ثلاثة أقسام أولاً الرسائل ثم النصوص التي تشتمل على بطاقة بيوغرافية وتعريف ذاتي، ومقدمة لأنطولوجيا الحسويين البرتغاليين، وملاحظات لذكرى سيدي كاييرو ومقتطفات من رسائل حول كتاب اللاطمأنينة وغيرها، أما الجزء الأخير فيشمل القصائد خاصة تلك التي كتبها باللغة الإنكليزية، وجميعها بتوقيع أنداده تشارلز روبرت أنون وألكسندر سيرش، علاوة على قصائد متنوعة بدون توقيع، وأخرى من ديوان عازف الكمان المجنون. وهي قصائد مهمة فيما تكشف من طبيعة هذا المتعدد وتقلباته.
تتنوع الرسائل وهي رسائل تنتمي إلى الكون المصغّر الذي ابتكره بيسوا دون أن يكون هو مركزه بالضرورة. يمكن وصفها بأنها رسائل درامية أو مسرحية تصدر عن نفس العالم الذي سكنه بيسوا، وإن كانتْ هذه المختارات تطمح إلى إلقاء بعض الضوء على هذا التعدِّدية المدهشة والمُحيرة التي تحيط بكتابات بيسوا وبه هو ذاته، وكذلك تكشف عن جوانيّات كاتبها الحقيقي أو المفترض.
تتوزّع الرسائل على سنيّ عمر بيسوا المختلفة؛ فهناك رسالة مرسلة إلى إحدى الصحف وكان في الثامنة عشرة من عمره، وتتجلَّى فيها سمات مميّزة لشخصيته وتعبيره. كما أن طبيعة الرَّسائل مختلفة فمنها إلى صحف تأتي تعليقًا على أحداث كما حدث في رسالته لصحيفة «ناتال ميركيري» تعقيبًا على الحرب الروسية اليابانية، وفيها تظهر النزعة الإنسانية التي يؤمن بها الشَّاعر، حتى أنه يصف الإنكليز بأنهم «أنانيون لأنهم يتخذون من محنة أمّة تسلية ومتعة لهم».
وفي بعض رسائله تتكشف توجهاته السياسية كما هو واضح في رسالته إلى الرئيس البرتغالي أنطونيو دي أولفيرا سالازار، بعد انقلابه عليه حيث كان من مؤيديه معتقدًا بفكرة المُخلِّص إلا أنه خاب ظنه. تأتي الرّسالة كنبرة احتجاج على أفعاله وفترة حكمة التي ارتبطت بما سمي بالدكتاتورية العسكرية، وإن كان في إحدى القصائد تأخذ اللهجة أكثر حدة مما جاء في رسالته حيث يقول له «الطاغية الصغير/المسكين/لا يشرب النبيذ/ولا حتى حين يكون بمفرده/إنه يشرب الحقيقة/والحرية/وبمتعة كبيرة» في سخرية من سياساته.
ومنها ما هو مرتبط بأعمال خاصة كإرسال قصيدة، ومن الرّسائل ما هو مُقدَّم إلى أشخاص ارتبطوا به بدرجة قُربى مثل رسالته لأمه وخالته أو لحبيبته كأوفيليا كويروز، أو أصدقاء كرسالته لأرماندو تيكسييرا ريبيلو وهو أوّل شخص تقابل معه بعد قدومه من جنوب أفريقيا، وأيضًا إلى أوجستين أورموند وهو صديق تزامل معه في جنوب أفريقيا.
تكشف رسالته إلى أمه وكذلك حبيبته وجه بيسوا الحقيقي وليس الأنداد الذين كان يستخدمهم في التوقيع في رسائله للمحررين والصحف. وفي رسالته إلى أمّه يتخلّى عن دبلوماسيته في خطاباته للمحررين والأصدقاء، وتأتي الرسالة أشبه ببوح عمّا يُعانيه من اضطراب واغتراب بسبب الرحيل المتوالي لأصدقائه وأقربائه وما يتركه هذا الغياب من أصداء حتى صار أشبه برجل عجوز.
وعن خوفه من المستقبل والمصير بعد عشر سنوات كما يقول «ماذا سأكون بعد عشر سنوات من الآن، أو حتى خمس؟ يقول أصدقائي إنني سأكون واحدًا من أعظم الشعراء المعاصرين، يقولون هذا بناء على ما كتبته بالفعل، لا ما قد أكتبه» وبقدر القلق الذي تبديه رسالته إلا أنها تكشف عن نبوءة تحققت. وفي رسالته إلى خالته أنيكا يكشف عن التأثير الذي انتقل إليه من جرّاء العيش معها فترة وهي المهتمة بالتنجيم. وأثر ما عاناه ينقله في رسالة أخرى إلى عالميْ تنويم مغناطيسي فرنسييْن باحثًا عن أيّ مغناطيسيّة حيوانية يمتلكها، كي يطوّرها إنْ أمكن حسب ما ورد في رسالته.
وفي رسائله لمحبوبته أوفيليا ابنة التاسعة عشرة تتكشف عبر العلاقة الصراعية بين الطرفين في عقديها الأول والثاني صورة أخرى من الكاتب، فهو عاشق وإن كان حسيًّا. في بعض الرسائل كان ثمة تسريب يمرّره بإحساس الخوف من المضيّ في العلاقة فيقول لها مباشرة «اسمعي، يا حبيبتي العذبة، يبدو لي المستقبل كله ضبابيًا، أعني لا أستطيع أن أرى ما في الأفق، أو ما الذي سيحدث لنا…» ومع تطوّر الرسائل تتكشف طبيعة الصّراع المختمر بين الطرفين فاللغة تتبدل وتمّحي القبلات التي كان يُذيِّلُ بها الرسائل ومن ثمّ يصل إلى مرحلة الحسم بالانفصال.
تفصح الرسائل عن حالة الملل التي تسربت إلى أوفيليا خاصة بعد مرور عام دون أن يحدث الزواج الذي كما تقول -ومازال- أعظم أمنياتي، في حين يرى أنه «بالزواج لن يكون سعيدًا» إلا أن الشيء المهم أن الرسائل تنزع الوجه الجدي عنه، فنرى عاشقًا ولهًا بل متهتكًا، يصف مشاعره الداخلية بأوصاف حسية وتصوراته للعلاقة بينهما هكذا «… أنتِ حلوى، وأنتِ دبور، وأنتِ عسل، الذي يأتي من النحل لا الدبابير.(…) أعتقد أنني سوف أتصل بك اليوم، وأودّ أن أقبلكِ بدقة ونهم فوق الشفتين، وأن آكل شفتيكِ وأي قبلٍ صغيرة تخبئينها هناك…».
مِن أطول الرسائل على الإطلاق هي التي أرسلها إلى جواو جاسبار سيمويس وكان مؤسسًا للمجلة التي نشرت بعض أفضل أعمال بيسوا، وفيها ردّ على رسالته ثم نقد لكتابه لغز الشعر، ومع عبارات الإعجاب التي يوجهها له إلا أنّه يُحلِّل شخصيته وتطوّره المعرفي وموقعه. ومن الرسائل التي تحمل صفة الأنداد ولكن بتوقيع شخصية نسائية رسالة ماريا جوزيه.
الكتاب يُقدِّم بهذه المختارات لنا عوالم مُتعدِّدة عن الشّاعر بيسوا عبر صورة الأنداد التي كانت أشبه بلعبة المرآة عند جاك لاكان.