استحالة موت الأسطورة
يشير أوجي في كتابه (ابن النديم، الجزائر- الروافد الثقافية، بيروت بترجمة طواهري ميلود 2016) إلى أن في لعبة معقدة من الأسئلة والأجوبة يجد عالم الأنثروبولوجيا اليوم مواضيعه الفكرية الجديدة، وأنه لم ينسها من ورائه عندما ذهب لملاقاة أرض بعيدة يكتشفها يوم يلاحظ لأول مرة في تاريخ الإنسانية أن الأرض دائرية حقاً.
زمن المؤرخ
يقسّم أوجي كتابه إلى خمسة فصول «المجال التاريخي للأنثروبولوجيا والزمن الأنثروبولوجي للتاريخ»، «الإجماع وما بعد الحداثة امتحان المعاصرة»، «الطريق إلى المعاصر»، «الطقسين وأسطورتيهما.. السياسة باعتبارها طقساً»، «العوالم الجديدة».
يذكر أنه تمنح النبرة المهيمنة في التاريخ المعاصر في فرنسا لمواضيع الحقبة، ألا وهي موت الأيديولوجيات ونهاية ما يوصف بالروايات الكبرى. وتراه يقارب ويناقش آراء عدد من المفكرين من أمثال مارسيل غوشي، ميشيل فوكو، جان فرانسوا ليوتار، فانسان ديكومب، ماكس فيبر وغيرهم من المفكرين المؤثرين.
يتحدث عن أماكن الذاكرة وجرد التراث، ويشير إلى أن النزعة ما بعد الحداثية تظهر قبل كل شيء بمثابة ردّ على تغيرات شهدها العالم، وأنه ذكر سابقاً في منتصف ثمانينات القرن الماضي قضية ووترغايت، وحرب فيتنام، والهزة البترولية، لتفسير تغير المناخ، وغياب التفاؤل الذي طبع سنوات الستينات من القرن العشرين.
يعتمد أوجي على التأويل في دراسته للظواهر الثقافية في العالم المعاصر، ويسعى إلى التقاط التأثيرات المتبادلة للتغيرات المتمثلة في العصر الحديث والمرتبطة بما يسمى عولمة الثقافة، وحالة انتشار المعلومات على نطاق واسع، والسعي لمعاينة آثارها من خلال تأسيس موضوع جديد للأنثروبولوجيا.
يشير إلى قرب الأنثروبولوجيا من التاريخ وأن الأنثروبولوجيا تعرف بأنها دراسة حاضر المجتمعات البعيدة، وأنها تدرس الاختلاف في المجال. في حين يعرّف التاريخ على أنه دراسة ماضي المجتمعات القريبة. ويكون المجال الذي تدرسه الأنثروبولوجيا مجالاً تاريخياً والزمن الذي يدرسه التاريخ محدد الموقع ومدرك في المجال، وأن الفرق بين الاختصاصين يتوقف على طبيعة الشهادات وعلى مشكلة تمثيليّتها.
ينوّه إلى أنه تعود الصعوبة والفائدة من التخمينات حول العلاقات بين الأنثروبولوجيا والتاريخ إلى موضوعهما المزدوج والمتكامل، ذلك أن الاختصاصات هي نفسها وكذا الميادين التي تنطبق عليها، ويجد أن هذه الازدواجية هي في مبدأ العلاقات بين التخصصين، ولا تخلو من الغموض، وبالإمكان التساؤل عما إذا كانت خصوصية الميدان هي التي تصنع خصوصية التخصصات أم بالعكس، إن لم تكن طرائق التخصصات هي التي تبني الميادين التي تنطبق عليها.
يحكي أوجي أن تعددية معاني التاريخ تلزم بالقول إن مجال الأنثروبولوجيا يكون تاريخياً في معان عدة، ويمكن القول بأنه زمن المؤرخ، لأنه يدرك في مجال محدد، وأنه لم يعد لتصور تاريخ وقائع خالص حيث يشكل تعاقب التواريخ والأحداث مادة السرد التاريخي وجوداً، وتكون اهتمامات المؤرخين والأنثروبولوجيين هي نفسها تقريباً.
بانتقاله للحديث عن بعض الالتباس في المفاهيم والمصطلحات يعتقد أوجي أن هناك مشكلة في معرفة مدى تمكن منظري الإجماع وما بعد الحداثة بمنهجية تأويل الواقع المعاصر، من عرض جوانبه غير المسبوقة، ويتساءل عن كيفية إمكانية التفكير في وحدة الكوكب وتنوع العوالم الذي يؤسسها.
نقد استشرافي
يتناول أوجي تداخل العلوم والتعقيد الذي بات سمة ظاهرة، وأنه لا توجد إلا قلة من المختصين قادرة على رسم لوحة متزامنة عن العالم في فترات معينة، وأنه يمكن استخلاص أن التعقيد يستقي الأداة القادرة على مقاربته وتجلياته. وأن التعقيد مع صعوبة الفهم الكامل لما يسمّيه بالاعتراف الذي ينجرّ عنه هو في حدّ ذاته دليل على تقدم المعرفة وفعالية العلم. ويجد أن ذلك يصح على العلوم الاجتماعية حتى وإن كان ينبغي لها أن تأخذ الظواهر المؤرخة والمعاصرة بعين الاعتبار.
ويجد كذلك أنه حان الوقت في ميدان الأنثروبولوجيا لأن أحداث الساعة بمختلف جوانبها تستدعي ذلك، ولأنها استنفدت تزامناً مع ميادينها الأولى كل إمكانية نقد ذاتي لماضيها، أن تضطلع بدور طلائعي وتقترح لليوم والغد عناصر نقد استشرافي.
يعتقد أوجي أن الأنثروبولوجيا تصبح ممكنة وضرورية بناء على تجربة ثلاثية يوجزها في تجربة التعددية، تجربة المغايرة، وتجربة الهوية، ولا يغفل عن التذكير بالخلط الحاصل تاريخياً بين التجارب والحدود الدقيقة الفاصلة بينها.
يذكر أنه في هذا العالم من الصور التي توهمنا بمعرفة كل شيء دون تبديد قناعتنا بأننا لا نستطيع شيئاً، وفي هذا العالم القلق كلية، يتم التلفظ بالخطاب السياسي، ويتم إخراج ما يصفها بطقسية سياسية معينة في مشهد، ليصبح المسؤولون السياسيون مثل نجوم المنوعات والرياضة أو السينما شخصيات يتعرف إليها الجمهور دون معرفتها مقيماً معها علاقة خيالية بشكل جزئي، ولكنها مألوفة تتجلى بوضوح أكبر على وجه الدمى التي تمثلها بشكل كاريكاتيري.
يتحدث عن استحالة موت الأسطورة التي تجدد نفسها في صيغ الخطاب، كما يتناول تعبير الخطابة السياسية في سياق الجهاز الطقسي الموسّع عن مفارقة أساسية، حيث يتحدث واحد إلى الجميع وإلى كل واحد في الوقت نفسه، ويصفها بأنها مفارقة مركبة من الديمقراطيات التمثيلية ومنظومة الوسائط الإعلامية، وأنه ينبغي عدم التوقف عن التأكيد على الجانب التقني.
وانطلاقاً من تحليل الخطاب السياسي يلفت أوجي إلى إمكانية إتاحة العلاقة بالماضي للفرد أن يدرك بسهولة أكبر، من خلال آثار الاعتراف الاستعادي، علاقته بالجماعة والتاريخ، ويجد أنه من هنا تكتسب التجارب المعيشة في الماضي بمرور الوقت، هالة خاصة، وتخلق شيئاً من الهوية والاختلاف.
يتحدث عن المعاصرة وكيف أن تنوع العالم يتشكل من جديد في كل لحظة، ويقول إنها مفارقة اليوم، وينبغي التحدث عن العوالم وليس عن عالم، ومعرفة أن كل واحد منها متصل بالعوالم الأخرى، وأن كل واحد منها لديه صور عن الآخرين، صور من المحتمل أن تكون مشوهة، مغلوطة، يعيد بناءها أحياناً أولئك الذين يستقبلونها فيحاولون أن يجدوا فيها بصيغة ما الملامح والمباحث التي كانت تحدثهم عن أنفسهم قبل كل شيء، صور يبقى طابعها المرجعي جلياً لا يمكن لأحد أن يشك في وجود الآخرين.
يؤكد أوجي على أهمية الأنثروبولوجيا في العالم الحديث وأنها تخضع لتحد مزدوج ومتناقض، الأول مرده إلى أن كل الظواهر الكبرى التأسيسية للمعاصرة تغير من طبيعة علاقة الفرد مع محيطه، ومن ثم تتشكل من جديد مقولة الآخر بناء على الأفعال والأفكار التي تحدثها وتؤثّر بطريقة ما على التوجهات والرؤى. في حين يرد التحدي الثاني إلى كون وضعية «ما فوق الحداثة» واختفاء الوقائع محددة الموضع والمجسمة في رموز، تلك التي كان يهتم بها عالم الإثنولوجيا تقليدياً.