سؤال الأيديولوجيا ونهاية التاريخ وصراع الحضارات
لذلك غدت الأيديولوجيا علامة فارقة أو سمة خاصة لوعي المغلوبين والمهزومين وثقافتهم وتاريخهم، في نظر الغالبين، بما في ذلك الصين المهزومة أيديولوجياً، على الرغم من تحولها إلى قوة اقتصادية كبرى تنافس الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
في مقابل هذه الرؤية الذاتية (أعني الأيديولوجية) للتاريخ، وهي رؤية أميركية بامتياز، ثمة رؤية نقدية للأيديولوجيا، عبّر عنها أحسن تعبير وأدقه إدغار موران في كتابه «مقدمات للخروج من القرن العشرين”، وسائر نقاد الحداثة، كما عبر عنها عبدالله العروي في أعماله الرائدة «الأيديولوجيا العربية المعاصرة” و”العرب والفكر التاريخي” و”أزمة المثقفين العرب”، ثم في «مفهوم الأيديولوجيا”، وياسين الحافظ، في كتابه «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”. ولكن، أليس نقد الأيديولوجيا أو بعضه نقداً أيديولوجياً، كما رأى ألتوسير في نقد ماركس للأيديولوجيا الألمانية والعائلة المقدسة والمخطوطات الاقتصادية والفلسفية لعام 1844، أو ما سماه كتابات الشباب؟
الرؤية الأميركية المزهوّة بانتصارها، (ولعلها تحتاج إلى انتصار آخر، من هذا النوع، لكي تكتمل هزيمتها)، أنتجت أدلوجة جديدة، هي أدلوجة «صراع الحضارات” التي عبّر عنها صموئيل هنتنغتون ورصفاؤه من «الليبراليين الجدد”، الذين هدروا مبادئ الليبرالية وقيمها الإنسانية، وهي قوام الديمقراطية وعمادها وعوامل نموها، وخفَّضوها إلى نفعية كلبية أو سينيكية، أو إلى عقلانية لاعقلانية، وقسموا العالم، وفق هذه الرؤية، عالمين: عالم الخير وعالم الشر، أو محورين: «محور الخير ومحور الشر”، حسب تعبير الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش، في أثناء التحضير لغزو العراق، وتأسيس ذلك الغزو على الكذب والتخرّصات.
واللافت، في ذلك الحين” أن ستين مثقفاً أميركياً أصدروا بياناً جماعياً يبررون فيه غزو العراق، على أنه «دفاع عن القيم الأميركية”، وواجب أخلاقي لنشر الديمقراطية، وانتصار لحقوق الإنسان، أي أنهم راحوا يلوكون أكاذيب رئيسهم وتخرصّات حكومتهم، كما يفعل معظم «المثقفين” العرب، ولا سيما السوريين منهم اليوم. وهذه ذروة كلبية من ذرى الأيديولوجيا. نقول ذلك لأن أولئك المثقفين حوّلوا الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى أدلوجتين تبريريتين.
ما تقدّم كله يدل دلالة واضحة على ارتباط الأيديولوجيا بالحروب والنزاعات والغزوات والفتوحات. فحيثما يوجد نموّ مُحتَجَز وتعارضات مستعصية على الحل توجد الأيديولوجيا، وحيثما توجد اللاعدالة توجد الأيديولوجيا، وحيثما توجد غلبة ومغلوبية وتسلط واستبداد واحتكار توجد الأيديولوجيا.الأيديولوجيا ماضويات ومستقبليات، موتها يعني موت الماضويات والمستقبليات معاً، وهذا مستبعد، منطقياً وواقعياً، إن لم يكن مستحيلاً؛ إذ لا مستقبل بلا ماض، والعكس صحيح، ولكن ليس بالمعنى المتداول وفقاً للرؤية الخطية للزمن، ووفقاً لاستقلال الزمان عن المكان، بل وفقاً لمنظور مختلف، يفترض أن الماضي والمستقبل وجهان متلازمان للكائن والكون وسيرورة التكون، وهما سدى الحاضر ولحمته، حتى حينما نتحدث عن ماض قريب ومتوسط وبعيد أو عن حاضر يوصف بهذه الصفات. فلا سبيل إلى إلغاء الذاكرة الفردية أو الجمعية، ولا سبيل إلى إلغاء الخافية الفردية أو الجمعية، ولا سبيل إلى إلغاء الأهداف والغايات والتطلّعات والتوقعات. هذا يعني، في نظرناً، أن الأيديولوجيا مرتبطة بالحاضر، أو بالوضع القائم هنا والآن، ارتباطاً سببياً، ولكنها تعمل إما على حجبه وإما على تبريره. وبهذا يكون وصف شايغان للأيديولوجيا بأنها ليست ديناً وليست فلسفة وليست علماً مطابقاً تماماً. فإنّ من المستبعد أن تنتفي عملية/عمليات تأويل الدين أو الفلسفة أو العلم تأويلاً ما بقصد حجب الواقع أو تبريره، وهذا التأويل هو لب الأيديولوجيا، وهذه الحجب والتبرير أو التسويغ هما وظيفتها. الأيديولوجيا ليست حاجة، بل حجاب للحاجة وليست غاية بل تبرير للغاية.
لا يصبح تأويل الدين أو الفلسفة أو العلم أو مزيج منها جميعاً أيديولوجيا إلا إذا تبنّت هذا التأويل جماعة معينة أو جمعية أو حزب أو سلطة سياسية، قائمة أو ممكنة.. لذلك لا يسوغ الحديث عن أيديولوجية مجتمع أو شعب أو أمة أو دولة، فمن طبيعة الأيديولوجيا أنها خاصة، وحصرية، ومغلقة على ثوابتها ويقينياتها وإيماناتها، ومقترنة بإرادة السلطة، مطالبةً أو مدافعةً، وهذه جميعاً ممّا يجعلها علامة على عصبية بعينها، تحمل جرثومة العنف وإمكانات التطرف والإرهاب. لذلك لا نوافق من يقول بـ”التلازم بين الوجود الإنساني وبين الأيديولوجيا بما هي إفصاحٌ عن التدفق اللامتناهي للأفكار والقيم الكبرى حتى في تعبيرها الطوبوي” ثم بما (هي) ترجمةٌ لتنازع المصالح الذي لا يمكن أن يزول في أيّ مجتمع أو عالم، فكيف إذا كان المجتمع والعالم محكوميْن بالنظام الرأسمالي وعلاقة الاستغلال الوحشي التي تترك خلفها الملايين من المحرومين والمهمَّشين” [1].
لا نتفق مع القول السابق، بسبب الكثافة الأيديولوجية في التعريف الذي لا يأبه بالتناقض بين شقيه: الوجودي والاجتماعي. ونرى أن الأيديولوجيا يوتوبيا خائبة، تنتهي إلى فولكلور، ومنظومة أفكار ميتة، متماسكة في الظاهر، ولكنها لا تمت بأيّ صلة إلى الواقع المعيش، ولا تزدهر إلا حينما وحيثما تنحسر الفلسفة ويذوي العقل ويتحول الدين إلى مجرد شعائر وطقوس، وينفصل العلم عن الأخلاق.
رأى داريوش شايغان أن «الثورة الدينية علامة خطيرة على فشل مزدوج، سواء من حيث عجز الحداثة عن إقناع الجماهير المحرومة الطريحة على هامش التاريخ، أم من حيث عجز التقاليد الدينية القديمة عن استيعاب ما عرفته العصور الحديثة من قطيعة مع الماضي. وهكذا نحن بإزاء انبجاس نزعة ظلامية جديدية هي.. أدلجة المأثور الديني. ويبدو الأمر كأن الأيديولوجيا أصبحت، بصيغتها الأكثر بهتاناً والأكثر خرقاً نقطة التقاء مستويات مختلفة من الوعي [2].
وكتب برهان غليون «بعد سنوات الاغتراب الطويلة، يبدو كما لو أن النخبة المثقفة العربية التقت نفسها، في لهب الأحداث الإيرانية، وكان تبنّيها السريع لها وسيلة بلا ريب للتعبير عن مشاغلها الذاتية، وعن رفضها للوضع العربي الراهن. وهكذا جاءت الثورة الإيرانية في الوقت المناسب، لتعيد إلى الوجدان العربي المثلوم فرحَه الزائل، وإلى الشعور العميق بالخيبة أملاً متجدّداً في القدرة على استملاك العالم من جديد. فالتقت في هذه المناسبة التاريخية العروبةُ روحَها الإسلامي الضائع، كما التقى الإسلام موطنه العربي الجافي.. الإسلام الذي عمّد نفسه في أعظم ثورة شهدها النصف الثاني من القرن العشرين، مطالب اليوم أن يحقق الحلم الذي عجزت عن تحقيقه الأيديولوجيات الماضية، القومية والماركسية” [3].
أوردنا هذين النصين للتفريق بين رؤيتين وموقفين من الثورة الإسلامية في إيران وقناعها الأيديولوجي (المذهبي)، الذي يتضافر مع القومية الفارسية، ويوجه سياسات إيران الداخلية والخارجية، النص الأول لكاتب إيراني، والثاني لكاتب عربي من سوريا، نترك للقارئة أو القارئ الحكم فيهما، مع أن غليون يتفق مع مقدمات شايغان في «الفشل المزدوج”، ولا يملّ من تكرار ذلك، لكنه لا يصل من هذه المقدمات إلى ما وصل إليه شايغان، بل ذهب بعيداً في التبشير بـ”الصحوة الإسلامية”، ولا يزال يفعل ذلك تحت قناع ديمقراطية الكم، (ديمقراطية صندوق الاقتراع) ومناهضة العلمانية مترسماً خطى محمد عابد الجابري.
«قبل عقود، كتب دانيال بيل، وهو عالم سياسي أميركي، يتنبأ بأن الأيديولوجيا في طريقها إلى الفناء. كان بيل يتصور مثل كثيرين غيره من علماء السياسة والسياسيين في الغرب أن الأيديولوجيا هي الشيوعية، أما غير ذلك فهو خيارات للبشر نتيجة حسابات واقعية ومصالح حقيقية. ولكن الأيديولوجيات القومية تأججت في إيران وتركيا والعالم العربي وتحت السطح في دول أوروبا” [4]، كما تأججت أيديولوجيات دينية، بل مذهبية في غير مكان من العالم.
«رحلت الشيوعية وانتشى علماء السياسة الأميركية برحيلها، إلا أنهم تجاهلوا أنه بعد سنوات من الضياع والفساد والجريمة وسقوط مئات الألوف من أبناء الشعب الروسي موتى من الجوع وإدمان الكحول، وقع ‘انقلاب أبيض’ في الكرملين وجاء إلى الحكم رجل أنعش القومية الروسية واستعاد للكنيسة الأرثوذكسية دورها في مجتمع ما قبل البلشفية، لأنه عرف أنه لن ينقذ روسيا من الغرق إلا وجود أيديولوجيا ما، وطالما أن الشيوعية لم تعد نافعة ولا تستعاد على كل حال، فإنه لجأ إلى الشعور الوطني وقومية الشعب الروسي وإلى المؤسسة التي ربطت تاريخها بتاريخ الأمة الروسية. وفي الصين وقع شيء مماثل مع اختلاف في التفاصيل الدقيقة، ومع ذلك يصرّ علماء السياسة في الغرب على تأكيد أن الأيديولوجيا ماتت في الصين”.
لا تكفي البرهنة على أن الأيديولوجيا لا تزال حية في العالمين المتقدم والمتأخر، مع الفرق، علاوة على وظيفتها الإنقاذية، كما يفهم من قول جميل مطر إذ تقتصر وظيفتها في العالم المتقدم أو تكاد تقتصر على التبرير، في حين تؤدي في العالم المتقدم وظيفة الحجب إلى جانب التبرير والتسويغ. بل يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك، أي إلى أن انحسار أدلوجة معينة يفضي بها إلى أحد مصيرين، إما التحول إلى فولكلور وإما إلى استعادة كلّ من الفلسفة أو العلم أو الدين مكانته اللائقة. فحين انحسرت أدلوجة الماركسية اللينينية في الاتحاد السوفييتي السابق والدول التي كانت تدور في فلكه، وحلت محلها أيديولوجيات قومية ذات بطانة دينية (قل مذهبية) عادت الماركسية إلى حقيقتها الأصلية فلسفة وعلماً. وقد أشرنا غير مرة إلى أن أدلجة الفكر وتسييسه لا تقل خطراً عن أدلجة الدين وتسييسه.
الأيديولوجيا يوتوبيا خائبة، تنتهي إلى فولكلور، ومنظومة أفكار ميتة، متماسكة في الظاهر، ولكنها لا تمت بأيّ صلة إلى الواقع المعيش، ولا تزدهر إلا حينما وحيثما تنحسر الفلسفة ويذوي العقل ويتحول الدين إلى مجرد شعائر وطقوس، وينفصل العلم عن الأخلاق
«تؤدي الأيديولوجيا اليوم الدور نفسه الذي أدته المثيولوجيات في العالم القديم، فهي، من ناحية ترضي الروح الجماعية لمعتنقيها برؤيتها لمجتمع مغلق، وتزعم، من ناحية أخرى، أنها علمية، أي مطابقة للتجربة والواقع. فإذا كانت الأيديولوجيا تتوفر على شحنة انفعالية تقرِّب الشقّة بينها وبين العاطفة الدينية وعلى جهاز منطقي عقلي يعطيها مظهراً علمياً وفلسفياً، فإنها ليست في الحقيقة علماً ولا فلسفة ولا ديناً [5].
المثيولوجيات التي تداولها الناس على مر العصور تحولت إلى فولكلور، هو جزء من الثقافة الشعبية، هنا وهناك، وذلك حين كفّت عن كونها استئنافاً لعمل الآلهة في الخلق، أي حين كفت عن كونها إبداعاً فنياً ورؤى كوسمولوجية وشعراً ملحمياً.. إلخ. وكذلك مصير الأيديولوجيات كافة، بل إن هذه الأخيرة هي يوتوبيات ميْته ومتفسخة، تؤول إلى فولكلور.
إن ما تزعمه الأيديولوجيا لنفسها من دين وفلسفة وعلم هو ما يؤول بها إلى التفسخ، في أيّ مجتمع يهتم بالعلم ويحتفي بالدين والفلسفة (وما بينهما من اتصال، بتعبير ابن رشد). أي إن موت الأيديولوجيا ممكن فقط في حال ازدهار الروح الإنساني في الدين، وتحققه في الواقع المعيش، هنا وهناك، بعيداً عن الطقوس والشعائر والعلامات والرموز والأزياء والتقاليد، وبعيداً عن سلطة الفقهاء ومن يسمّون «رجال الدين”، وفي حال ازدهار الفلسفة والفكر الحر، وازدهار العلم واقترانه بالأخلاق، أي أن الأيديولوجيا تموت حين تنتفي الحاجة إليها، سواء حاجة الحكام أو المحكومين، حاجة المستغِلّين (بكسر العين) أو المستغَلّين (بفتح العين)، أو حين تصير بلا وظيفة، وهو المعنى نفسه. فما دام التفاوت الاجتماعي قائماً، وبعض هذا التفاوت لا يمكن حذفه، وما دامت اللاعدالة منتشرة في جميع أنحاء العالم، وإن بنسب مختلفة ومقترنة بالتسلط والاستغلال والاستعباد.. بل ما دامت الطبيعة ليست شفافة بعد، وما دامت المجتمعات كذلك، وما دامت السلطات والسياسات كذلك أيضاً، ستظل الأيديولوجيا حيّة، ويمكن أن تزدهر بازدهار الجهل وتعمق اغتراب الإنسان عن عالمه وعن ذاته.
ينبثق الحكم على موت الأيديولوجيا أو حياتها من رؤية من يحكم فيها إلى العالم، وإلى المجتمع والإنسان، وإلى المرأة خاصة. فالذين لا يرون في المجتمع سوى «مجتمع الحاجات”، كما وصفه هيغل، ولا يرون في العلاقات الاجتماعية سوى علاقات نفعية، بالمعنى الضيق والرديء للكلمة، بوسعهم أن يزعموا أن لا مكان للأيديولوجيا في مثل هذا المجتمع، ولا حياة لها. والذين لا يرون في المجتمع سوى «مجتمع الغايات”، كما وصفه كانط، يتشبثون بأهداب الأيديولوجيا، ويدافعون عن أحقيتها في الحياة، ويجادلون من ينتقدها بله من يقول بموتها، وهذا ديدن غالبية المثقفين العرب. أما الذين يرون في المجتمع «المسرحَ الواقعيَّ للتاريخ”، كما وصفه ماركس، فيدركون عوامل انبثاق الأيديولوجيا وعوامل تفسخها وموتها، وهي عوامل تاريخية لا تقرّرها الإرادات الذاتية وحدها، ويدركون مدى التباسها بالدين أو بالفلسفة أو بالعلم، ويدركون، من ثم، الحدودَ الفاصلة/الواصلة بين هذه المجالات جميعاً، ويتصدون لنقد الأيديولوجيا وتفنيدها ودحض مزاعمهما الدينية أو الفلسفية أو العلمية.
«فإذا كنّا نعني بالعلم العلمَ الدقيق والمحايد والمؤسس على التجربة، فإن الأيديولوجيا دوغمائية؛ فهي تسلّم بمقدماتها على أنها حقائق قبلية، من دون أن يخامرها شك في مدى صحتها تجريبياً. بعبارة أخرى، إنها لا تكلّف نفسها عناء وضع ما تعلنه على محك الإثبات. وفي حين يهتم رجل العلم، كما يلاحظ لابيير، بالتجارب التي قد تلغي أو تلغي فعلاً فرضياتِه، تضرب الأيديولوجيا صفحاً عن كل ما من شأنه أن يكذب مبادئها” [6].
الأيديولوجيا ليست فلسفة كذلك لأن الفلسفة الحقيقية تساؤل عن مشكلة الوجود الجوهرية، وعن وضعية الإنسان الوجودية، إذ تشكل الأسئلة التي يطرحها الفلاسفة على أنفسهم والإجابات التي يتوصّلون إليها المسار الجدلي للحركة الفلسفية، سواء تمثل هذا المسار في تموضع الروح تدريجياً في العالم والتاريخ، أو في احتجابها، في حين تظل الأيديولوجيا نسقاً مقفلاً ومنغلقاً على نفسه، متمحوراً على بعض أشباه الحقائق ساعياً إلى إشهار قيمتها الكونية والمطلقة رغم كل ما يثبت العكس» [7].
والمزاعم الدينية للأيديولوجيا، ولا سيما الأيديولوجيا الدينية، لا تقل هشاشة. فإذا كان «الدين هو الفلسفة وقد صارت شعبية»، فإن الأيديولوجيا الدينية هي الدين وقد صار خرافياً، أو عدمياً (إرهابياً)، إذ لم يعد «الدين” بحلته الخرافية ونزوعه العدمي يهتم بخلاص الأرواح بل بإزهاقها، ولم يعد يهتم بتهذيب النفوس بل بتوحيشها، ولم يعد يدعو إلى المحبة والوئام بل إلى الكراهية والخصام، ولم يعد نظيمة إنسانية من «مكارم الأخلاق”. هذا هو دين جماعات الدين السياسي كافة، ودين الجماعات الإسلامية، السنية منها والشيعية، عندنا. الأيديولوجيا، هنا، هي «تعقيل” فكرة ما، أي جعلها تبدو عقلانية، واعتبارها قانوناً ثابتاً له قوة القوانين الطبيعية، ومحوراً لعقيدة مذهبية دينية أو لادينية، كفكرة «البقاء للأصلح”، و”شعب الله المختار” و”خير أمّة أخرجت للناس»، أو «حاكمية الله” أو «ولاية الفقيه” نائب «الإمام الغائب”، عقيدة ثنوية (مانوية) مؤسسة على وهم مركزية الذات في العالم ومركزية الإنسان في الكون، وهي عقيدة عدمية بطبيعتها مولّدة للتطرف والعنف والإرهاب قوامها تقديس الذات وشيطنة الآخر.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى اقتران الأيديولوجيا بالسلطة وإرادة السيطرة، ولا سيما السلطة التي تفتقر إلى شرعية دستورية وأخلاقية ولا تنال رضا محكوميها وأثر هذا الاقتران في تشكيل الحقل السياسي للمجتمع المعني، وتشكيل ما يسمّى النطاق الحيوي أو المجال الحيوي للدولة المعنية، وفق إحداثيات قومية أو «وطنية” أو دينية على نحو ما نرى اليوم في السياسات الروسية والإيرانية والتركية والأميركية والإسرائيلية وسائر الدول الضالعة في الكارثة السورية، وغيرها من الكوارث، التي تتجول في عالم اليوم. وإذا كان هذا مما يبدو جلياً على السطح السياسي فإن الأيديولوجيا بصفتها أداة للهيمنة الرمزية أو الهيمنة الناعمة ضرورية للسلطة والنظم السلطوية أو التسلطية لتحقيق ما يسمّى «الانضباط الاجتماعي” أو الهندسة الاجتماعية وخنق الحرية. هنا يجب أن نلاحظ أن ازدهار الأيديولوجيا مرتبط ارتباطاً سببياً بتدهور شروط الحياة الإنسانية بوجه عام، وشروط الحياة الإنسانية للنساء والملوّنين والمهمشين بوجه خاص. ما يجعل الأيديولوجيا نقيضاً للعدالة، بما هي تركيب فريد من المساواة والحرية والقدرة على التمتّع بهما.
لهذه الأسباب كلها، وغيرها، لا نرى وجاهة لا في آراء القائلين بموت الأيديولوجيا، ولا في آراء من يعارضونهم ممن يدافعون عن أيديولوجية سلطاتهم أو عن قوميتهم ودينهم أو عقيدتهم لأن الفريقين كلاهما غارق في الأيديولوجيا. الأيديولوجيا هي جلد الأفعى، تغيره الأفعى بين الحين والحين. والأفعى هي المصالح الخاصة العمياء وازدهارها وفورانها كما هي حالنا اليوم علامة على «احتضار الألهة” هناك، وجنونها هنا، علامة على جنون، يرصف الطريق إلى الجنة بالأشلاء والجماجم، سواء جنة المهووسين قومياً، أو جنة المهووسين دينياً ومذهباً.
[1] – عبد الإله بلقزيز، أيديولوجيا نهاية الأيديولوجيا، على الرابط: http://www.rai-akhar.com/ar/index.php?option=com_content&task=view&id=396&Itemid=115
[2] – داريوش شايغان، ما الثورة الدينية، الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة، ترجمة محمد الرحموني، دار الساقي، بيروت، 2004، ص 17.
[3] – برهان غليون، الوعي الذاتي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1992، ص 79.
[4] – جميل مطر، نهاية الأيديولوجيا، على الرابط: http://www.siironline.org/alabwab/maqalat&mohaderat(12)/384.htm
[5] – شايغان، ص 217.
[6] – شايغان، ص 217.
[7] – شايغان ، 218.