الربيع الدامي.. المثقفون العرب والانتفاضات
ما كان متوقعاً، أن تتحول انتفاضة تونس السلمية، ذات الطابع المديني الشبيه بتونس وزيتونها، إلى بحر متلاطم من الدماء سبحت فيه بلادٌ عربية أربعة، ولم يدر في خلد من دافع عن جموع شارع العصافير (شارع الحبيب بورقيبة) التي رفعت نداءها بكلمة "إرحل" ناقلةً إياها من زجرة بصوت الشرطية التي طردت البوعزيزي وعربة الخضار التي كان يجرّها، لتصبح تلك الكلمة هتافاً عالياً موجهأً إلى أعلى سلطة في البلاد، وتالياً في بقية البلاد التي جرفها الربيع الأحمر.
طالبت تلك الشعوب بحريتها، بعد عقود من الضبط والبرمجة، وكان طرفان يراقبان ما يحدث وينظران إليه بعين متربّصة، المجتمع الدولي، والمعارضات التقليدية لتلك البلدان التي خالطت الاستبداد وعاشت معه، واعتبرته أمراً واقعاً، أما المجتمع الدولي الذي فضّل التعامل مع الوكلاء من زعماء العالم الثالث، غاضاَ الطرف عن كيفية وصولهم إلى الحكم، فقد صمت برهة، ليستجمع قواه وإدراكه، ثم قرّر الترحيب بانتفاضة الشعب، ولكن على طريقته الخاصة، فاشتغل هنا وأهمل هناك، وأدار ما سمّاه بـ "الهبوط الآمن" للأنظمة التي تم تطييرها وانتزاع شرعيتها، وما يزال مختبر الغرب في لحظته الأولى، يحاول ويفشل، ثم يحاول من جديد، في سوريا وفي اليمن وفي مصر وليبيا وتونس، أما المعارضات التقليدية، فخرج منها من ركب موجة الشعب، وفهم من انتفاضته أنها سبيله الوحيد وفرصته المواتية للوصول إلى الحكم، بينما لم تكن ثورات تلك الشعوب مشاريع حكم، بقدر ما كانت صرخات إصلاحية جذرية، لا تريد هدم الدول، ولا تخريب المنجز الذي تعبت فيه وعليه عقوداً طويلة.
يقول بعض ممّن تحمّسوا للربيع العربي، إن ثورات بعض الشعوب تحلّلت إلى ميليشيات، في فقدان يقين بأن تلك الثورات لم تخرج لتنصّب خليفة، ولا لتحطّم الإنسان، بل لتعيد ترميمه، وتعزّز وجوده بالكرامة والحرية، ويقول آخرون إن المؤامرة على تلك الدول كانت من أجل النفط والغاز، متناسين أن طغاة تلك الدول كانوا قد باعوا الأخضر واليابس من موارد البلاد ولم يمانعوا ببيع المزيد من أجل البقاء والاستمرار، فلماذا يتآمر الغرب عليهم وهم كانوا معه كما السمن مع العسل.
وفي المشهد العربي ذاته، برزت حرب المحاور، وظهر الدور الإيراني الذي يبحث عن توسيع نفوذه بأي ثمن، ومهما أزهقت أرواح ودمّرت حواضر شهد لها التاريخ بالإشعاع الحضاري والإنساني، وفي مقابله ظهرت الحاجة إلى مشروع عربي يقف في وجه النفوذ الإيراني، ما يزال يتلمّس عناصر الصورة من حوله في ظلام دامس.
"الجديد" تفتح ملف الربيع العربي، مؤمنة أنه سيرورة لابد وأن تكتمل، ببعدها المعرفي والفكري، ومن غير هذه المواكبة، لا يمكن أن تبنى دولٌ على صرخات متظاهرين، ودماء ضحايا، وقشعريرة أطفال لاجئين، وطموحات سياسيين. في المقالات المنشورة في هذا العدد والأعداد التالية، سيجري تحليل الربيع العربي، في محاولة لصنع ملامح لذلك المشروع الذي يطمح العرب أن يكون هو المحتوى العميق لحراكهم السياسي، شعوباً ودولاً ومراكز قرار تضعهم على أرض المستقبل في ظل مجتمعات ناهضة ونظم حكم لا فجوات بينها وبين الناس الذين اختاروها
قلم التحرير