لوحة باهتة لسماء بعيدة
سعدون، الولد الكبير، المهرج، المتصابي، المتحاذق، الوسيم، صاحب الصولات والجولات، زير النساء، الموظف الكسول، المثقف الفاشل، الفقير إلى الله. ما الذي يفعله هذا الكائن الجميل في هذه الحفرة الوسخة المغمسة بالدماء؟
كان مقيداً، غائب الذهن، تطوّقه أجساد مثقوبة بالرصاص ما زالت تطلق دفقات من دماء ساخنة، فلم يتسنّ له تلافي لزوجتها وهي تثور على وجهه، بين الحين والآخر، من أجساد تلفظها ولا تريد أن تستعيدها. بدا المشهد الأخير مشوشاً، فبعض الدماء على زاوية عينه اليسرى عتمت تفاصيل المسافة التي كانت تفصله عن الأقدام الملتفعة بالبساطيل والتي أنجزت مهمتها الرهيبة تواً وتلكأت في طريق العودة.. ولأنها ترددت كثيراً في الذهاب والإياب مجدداً إلى الحفرة الجماعية في محاولة لإفراغ ما تبقى من عتاد البنادق في الأجساد الساكنة، تسنّى لسعدون أن يرى واجهة البساطيل وقفاها تتبادلان الأدوار أكثر من مرة.
كيف وصل الولد الكبير إلى هذه الدائرة التي انبثقت فجأة من أعماق الجحيم، الدائرة التي ابتلعت هذا العدد الكبير من الجثث وتركت سعدون لمصير آخر لا يقل جحيما عن الموت بالرصاص؟ أمر الإعدام الجماعي كان موثّقاً في الورقة السمراء الباهتة التي انتهى من تلاوتها قبل دقائق أو دهور، أحد العساكر قبل أن يسمح لرفاقه بتفريغ شحنات غضب بنادقهم في الأجساد الفتية.
- “هيا.. تحركوا.. يا مظهر، هل انتهيتم.. أعني تفقدتم الجثث؟ لا نريد مزيداً من المشاكل، تذكّر ما حدث في المرة السابقة. ما نريد وجع راس!”.
- “لا سيدي، اطمئن”.
كانت أصواتهم تصل إلى مسامعه، مقطوعة أحياناً وموصولة أحياناً أخرى، تماماً مثل الطريقة التي كانت تعبّر فيها الدماء الدافقة عن نفسها منذ زمن حسبه طويلا جداً، زمن اللحظات أو الدقائق التي كانت تفصل بين الأمس واليوم، بين الحياة التي كان يعيشها قبل ساعات والموت الذي احتضنه قبل لحظات.
ما زالت شمس الظهيرة تتوسط لوحة باهتة لسماء كانت تنظر إليه من بعيد وهي غير مبالية، وما زالت أصوات رجال ببزّات عسكرية تتداخل مع ضجيج الأفكار التي تتصارع داخل رأسه.. الأصوات فقط هي التي برزت في وسط المشهد، وكان هناك صوت صامت لدماء ساخنة وعطر جسد مسجّى إلى جانبه، حيث يختلط العرق برائحة الموت، الرائحة التي تعرّف إليها سعدون للمرة الأولى في حياته. لم يتسن له -حتى في تلك اللحظات المضيئة التي تومض في قلبه بين الحين والآخر- التحقق من هوية أصحاب الدم أو من احتمال أن تكون دماؤه هو نفسه قد وجدت طريقها إلى الحفرة أو تشبثت بحدود ملامحه، مثلما فعلت الدفقات الغريبة لأصحاب الأجساد الساكنة.
استعاد القليل من وعيه متداركاً وقت الظهيرة. آه.. لو استطاع أن يعدل قليلاً من وضع جسده.. هل كان خوفاً الذي عقد أطرافه ومنعها من الحركة؟ أم كان عجزاَ بسبب إصابته أو خوراً في أعصابه بسبب الدماء التي أهدرها؟
إنه لا يملك إجابة واضحة على كل هذا الكمّ من الأسئلة الغريبة التي تدور في رأسه المتعب، ولم ينجح أيضاً في إزاحة الغشاوة الحمراء عن أطراف عينيه. وبدلاً من ذلك، قاده حسّه الأمني إلى إغلاق عينه الأخرى كإجراء احترازي.. فماذا لو رجع صاحب البسطال المعفّر ورصد مظاهر الحياة في ملامحه؟!
هكذا أفضل، فالموت مرة واحدة يكفيه في الوقت الحاضر، (كان سعدون يحدث نفسه من دون أن يحرك شفتيه ويكوّرهما كما اعتاد أن يفعل في الماضي القريب، تحاذقاً).
***
في الماضي الذي قطع أيامه ولياليه مهرجاً لا مبالياً.. كان سعدون مجرد عابر سبيل، يمرّ بجانب الأشياء من دون أن يسمح لها باجتياز الحدود التي رسمها حول نفسه. وفي لجّة الأحداث الكبيرة التي كانت تقع إلى مسافة غير بعيدة عن المقهى الذي تعوّد قضاء فترات الظهيرة الطويلة فيه، كان يستمع بضجر إلى القصص الرهيبة وحفلات الإعدام الجماعي التي يموت في نهايتها الناس من دون جريرة. القصص التي حسبها خيالاً منمّقاً يحسن البعض حياكة تفاصيله بحرفية عالية. القصص التي أدار لها ظهره ولم يسمح لها يوماً بأن تعكّر مجرى أيّامه التي كانت تمضي بوتيرة واحدة. ذلك الماضي الذي لفظه، لا يمكنه أن يعود مجدداً بعدما حدث.
في المدينة الجنوبية وفي شارع السعدون، الذي استعار اسمه نكاية به، كما صرّح أكثر من مرة لرفاقه من رواد المقهى، تسنّى للولد الجميل أن يهذر بأصناف متعددة من الحديث الذي يجمعه أحياناً على الرصيف بعمال المسطر الطارئين الذين لم يتسنّ لهم الوقت لفك طلاسم الكتابة والقراءة بسبب الفقر. كان يجمعهم حوله بخفة ظله وسخريته اللاذعة كلما سمح لهم بذلك الوقت الممتد بين فترة عمل وأخرى. وهو يفعل ذلك بسهولة توازي السهولة التي تستطيع فيه قطعة حلوى لزجة أن تجمع أعداداً من الذباب الكسول حولها.
درس سعدون في المدارس الابتدائية والثانوية حتى امتلأ رأسه بالضجيج، فتوقف عند مشارف الجامعة متلكئا واختار أن يعمل ويعيل أسرته الصغيرة المكونة من أمّ سعدون العجوز وولدها سعدون. موظف في دائرة البريد التي تقع في زاوية الشارع الرئيس لمركز المدينة حيث يقضي صباحاته فيها منذ سنوات لم يعد يتذكر عددها، كان يعمل بدخل غير معقول في الصباح وبدخل لا بأس به في ورشة لتصليح السيارات مساءً، وبين هذا وذاك، يقضي وقتاً طويلاً في الجلوس إلى مقهى الحي الشعبي ليبدد نصف دخله في تذوق أقداح الشاي الحبري وتدخين علب السجائر المهرّبة ومساعدة بعض المحتاجين في الخفاء، وكان يقطع نصف الساعة الأخيرة بتقليب صفحات كتاب قديم مغلف بعناية بمجلد سميك حرص على أن يخفي عنوانه عن نظرات الفضوليين، مدعياً الاستغراق بالقراءة بين دفتيه باهتمام كانت تعززه عقدة حاجبيه الغضبى. أما أحاديث السياسة التي عكف الناس على تبادلها بصوت خافت، فكان يدير لها ظهره ويتظاهر بتدخين ما تبقّى من عقب السيجارة الأخيرة، قبل أن يغادر إلى منزله وهو يحمل بفخر كيساً من الخضراوات الذابلة ونصف دجاجة.
تبقى أمه العجوز في انتظاره كل يوم لحين عودته، لتسكب له ما تيسر من طعام يأكله على مضض فيمضي صامتاً إلى سريره استعداداً لحلم جديد يفصّله على مقاسه ويتركه على حافة السرير بعض الوقت، لحين إتمام طقوس النوم بارتداء (الدشداشة) وأداء بعض التمرينات وطقطقة فقرات ظهره المتعب، وبهذا يقطع الطريق على محاولات الذاكرة المستميتة لسحبه إلى وقائع أحداث اليوم.
يستغرق سعدون في نوم عميق بعد أن يرتدي حلمه بثوان معدودة، حتى يتمدد صوت شخيره مثل بالون حلزوني فيصيب بشظاياه غرف المنزل المجاورة ويقضّ مضجع العجوز المسكينة، فتكتفي بالاستغفار من ربها وتدعو بالهداية لهذا الولد (الوكيح) الذي يستمر في تعكير حياتها حتى وهو في نومه.
***
بدأ سعدون ذلك اليوم، كعادته، مازحاً مع الموظفين في دائرة البريد، لكنه في الفاصل الزمني الممتد بين عمله الأول والثاني وهو في طريقه إلى المقهى، تعثر بمسيرة هائجة من جموع المارة الذين كانوا يقطعون الطريق بين بداية الشارع ونهايته بخطوات متعجلة ومرتبكة، تطاردهم مجموعة من البزات العسكرية وهي تدك بساطيلها في الأرض كمطارق مجنونة، في محاولة للحاق بهم. لم يرق له المشهد المعفر بالضجيج والتراب، فبدأ بتوزيع السباب بالتساوي على المارة ومطارديهم. وحين توقفت شاحنة نقل الخضراوات الفارغة في رأس الشارع، قطعت الطريق على البعض، ما أتاح الفرصة للعسكر -تحت تهديد السلاح- لغرف مجموعة من الأجساد ودلقها على عجالة في خلفية الشاحنة كما يغرف الدلو الماء من بركة، وسرعان ما امتلأت الشاحنة بالرؤوس والقمصان والبناطيل والدشاديش والعمائم والعباءات الرجالية وسحبت في طريقها قميص سعدون وبنطاله وشحاطته، وكان ما يزال يتلفظ بكلماته النابية محاولاً التخلص من تدافع الأجساد ومشمئزاً من روائحها المعقدة، حتى كتمت صوته ضربة عصا غليظة تلقاها خده الأيمن وشربتها نظراته الزائغة، وهي تحاول اللحاق باليد التي تمسك الطرف الآخر من العصا من دون جدوى.
وجد الولد المهرج نفسه ومن دون مقدمات، وسط جموع من البشر لا تربطه بهم سوى خيوط المفاجأة ومشاعر الخوف من المجهول، داخل شاحنة الخضراوات التي قادتهم بجنون بين شوارع المدينة الجنوبية إلى لا مكان. ووسط الذهول ومطبات الطريق، تسربت إلى مدارات سمعه بعض الحوارات الخافتة التي كانت تدور بين ركاب الشاحنة المرتعبين وكانت أشبه بهذيانات مريض بالسرطان يراقب باستسلام أذرع الموت وهي تسحب روحه ببطء إلى مكان بارد؛ ذكر بعضهم حادثة مقتل بعض من عناصر حراس مركز التوقيف قبل ساعات وهروب سجناء سياسيين في اللحظات التي تلت ذلك، ثم انسلالهم خلسة بين الجموع و.. الفوضى التي عمّت الشارع المقابل لدائرة البريد ثم، الفضول الذي حشد بعض السابلة في الوقت والمكان الخطأ.
تذكر سعدون، وسط هذه الحمى، الحكايات المرعبة التي كان يتداولها روّاد المقهى والأسرار المسرّبة من دهاليز السجن المركزي للمدينة، الذي كان سيبتلع الدفعة الأخيرة من الموقوفين قبل أن يتسنّى لهم الهرب، ذلك السجن الذي غذّته خيالات البسطاء من الناس بالدماء حتى كاد يشبه قلاع العصور الوسطى حيث تمارس جرائم قتل شنيعة بحق السجناء، وتصهر الكرامة الإنسانية من دون أسباب معروفة.
وبعد أن تيبّست مفاصله بفعل الخوف والوقوف الطويل، بلغت الشاحنة مفترق طرق يؤدي إلى مشارف المدينة فتنبه البعض منهم إلى ضجيج أبواق السيارات التي تمّ مباغتة أصحابها بمسار الشاحنة المسرع، ثم اجتازت عربة الجنون المفترق الأخير بحركة سريعة وعشوائية في اتجاه الطريق الصحراوي.
***
لم يتذكر سعدون، بعد مرور أيام طويلة على هذا التاريخ.. وهو يتأمل الضباب المتصاعد من قدح الشاي الموضوع أمامه في المنزل، التسلسل المنطقي للأحداث التي تلت وصول الشاحنة إلى المنطقة النائية في عمق الصحراء. كانت ذاكرته معبأة بخزين من الرمال التي عفّرت أقدام رفاق الشاحنة ومذاق ركلات بنادق العسكر التي كانت تدفعهم إلى حلقة الموت، ثم لكنة نائب العريف اللزجة وهو يتلو الحكم المتعجل وأصوات أزيز الرصاص التي أعقبتها.. رائحة العرق والدماء.
لم يكن ذاك الحلم على مقاسه أبداً.
كان قد تسنّى له تلك الليلة الخروج والابتعاد عن الحلقة المدماة، بعد أن سكن هسيس الموت وتلكأ أصحاب البساطيل في العودة لإتمام مهمتهم ودفن الجثث في الحفرة ذاتها. خرج سعدون من الحفرة وغادر حدود الكابوس، ليعود ببساطة إلى منزله في المساء خالي الوفاض، فلم يكن يحمل -كعادته- كيس الخضراوات التالفة ونصف الدجاجة.
لم تلحظ الأمّ أيّ تغيير في ملامح الولد، عدا أن ملابسه في هذه الليلة كانت متّسخة أكثر من المعتاد. ذهب سعدون لتوّه إلى السرير ونسي أن يستبدل قميصه الملوث ببقع الدماء الممتزجة بالعرق والطين، وسرعان ما غرق في نومه حتى تمدّد صوت شخيره مثل بالون حلزوني فأصاب بشظاياه غرف المنزل المجاورة ليقض مضجع العجوز المسكينة، التي استغفرت ربها ودعت لهذا الولد (الوكيح) بالهداية.