ماذا نكتب للأطفال، كيف نكتب لهم
كيفَ نَكْتُبُ للأطْفَال
كيفَ نَكْتُبُ للأطْفَال؟ تبدأُ الإجابة عن هذا السُّؤال بالانطلاق من تمييز الكتابة الإبداعية المُوَجَّهة للأطفال عن غيرها من مجالات الكتابة وحقولها؛ فالكتابةُ كتاباتٌ، والأدبُ آدابٌ، والثَّقافةُ ثقافاتٌ، واللُّغةُ لغاتٌ، والأسلوب أساليب. وينطلق هذا الفرض المؤصَّل من فهمٍ اجتماعيٍّ ونفسيٍّ ولغويٍّ وجماليٍّ مُتكاملٍ ومُتداخل؛ فالكتابة، في المحصلة النِّهائية وفي أغلب الحالات، هي رسالةٌ ثقافيَّةٌ ذاتُ موضوعٍ، يُوجِّهها مُرْسِلٌ إلى مُتَلَقٍّ، ولهذه الرِّسالة إشاراتٌ وفحوى، فهي تتكون من متتاليات وبنى دالةً تحمل مدلولاتٍ، وعلاقاتٍ، ومغزى، أي أننا إزاء ثلاثةِ أطراف مُنْخَرطينَ في علاقةٍ تفاعلية: “مُرْسِلٌ” و”رسَالةٌ” و”مُسْتَقْبِلٌ”.
تنتفي هذه العلاقة حين يغيب أحدُ أطرافها، والغيبة أو التغيِّبُ فعلان يتصلان بالإنسان؛ بالمرسل وبالمستقبل (المُتَلَقِّي)، كما أنَّ الرِّسالة تتصل بالإنسان، مُرْسِلاً ومُسْتَقْبِلاً، ومن هنا، فإنَّ انتفاء العلاقة أمر يقرّره طرفاها، وحين ندرك أنَّ المرسل هو المبادرُ إلى إقامة العلاقة، لأنه راغبٌ في إيصال فحوى رسالةٍ ما إلى متلقٍّ بعينه، أو إلى مجموعة متلقين، يتعمَّق إدراكنا لحقيقة أنَّ المسؤولية الأعظم في بناء هذه العلاقة، والمحافظة عليها، وتطويرها، إنما تقع على المرسل المبدع، لأنه هو مُحَفِّزها والبادئ بفتحها، والمُطَالَبُ بتوفير إمكانات المحافظة عليها، وتنميتها، ولأنه هو وحده المُلَامُ على فشلها إنْ عجزت رسالته عن تأسيسها، أو تقاعست عن توفير ما يُؤَمِّنُ بقاءها واستمرارها وتطورها. والأمر، في كلِّ حال، لا يتوقَّف على النِّيات الطَّيبة وحدها، أو على مضمون الرسالة أو موضوعها، مثلما لا يتوقَّفُ على طريقة تناول الموضوع أو إرسال المضمون، أو إيصال المغزى، أو على طريقة تحديد الجهة الواقفة على الطَّرف الآخر من الرسالة (العلاقة) فحسب، بل إنَّهُ يتصل بذلك كُلِّه، مُنْدمجاً ومُتَفاعلاً، ويتخطَّاهُ إلى النَّاتج الكُلِّي والصُّورة النِّهائية للرسالة، أي للعمل الأدبي بما يحمله من إشاراتٍ ورموزٍ، وبما يبثهُ عبرها، أو يُومئ إليه من معانٍ ومدلولات.
ويتوقف الأمرُ كُلُّه على قدرة المرسل على اكتشاف الإجابات الصَّحيحة عن جملةٍ من الأسئلة، لعلَّ أهمها ما يلي: لماذا أنا راغبٌ في توجيه رسالة ثقافية؟ وما هو فحوى هذه الرسالة؟ ولمن سأوجِّه الرسالة؟ وما هي أبرز خصائص هذا المتلقي الذي أرغبُ في التَّواصل معه، وفي إفادته وإمتاعه، وكسب تأييده لوجهة النَّظر التي تحملها رسالتي؟ وكيف أُنْجِزُ رسالتي بما يُحقق حُسْنَ إيصالها، ويُؤَمِّنُ قدرتها على إمتاع المتلقي وإفادته، وكسب تأييده وتحفيزه على البحث عمَّا يُعزِّزُ انتماءه الفاعلَ لوجهة نظرٍ، أو رسالةٍ صارت تنتمي إليه؟
تفتح هذه الأسئلة أبواب العملية الإبداعية على وسعها، وهي لا تتّصلُ بالأعمال الإبداعية المُوَجَّهة للأطفال فحسب، بل إنها تَصْدُقُ على العملية الإبداعية عموماً، غير أنَّ هذه العملية الإبداعية تتمايز وتتباين بقدر ما تتمايز الإجابات عنها وتتباين، وذلك لأنَّ تنوُّع الغايات والرَّغبات والأهداف والمضامين وتباين المتلقين وتعدد طرق الكتابة وأساليبها لدى الكتاب والمبدعين تفضي إلى تعددية لافتة في الإجابات وفي الخيارات الإبداعية.
وفيما يتصل بأدب الأطفال، وبالرَّسم الفني، أو بالكتابات والرُّسومات المُوَجَّهة للأطفال، فإنَّ المبدع يتوقَّف، أول ما يتوقف، عند البحث عن إجابة عن السَّؤالين المتصلين بالرغبة-النِّيَّة وبالفحوى-المضمون؛ ومن المرجَّح أنَّ نِيَّة المبدع أنْ يُحَمِّل رسالته مضموناً ما، أو مغزى مُعيَّناً، لا تنفصل، بأيّ حالٍ، عن المتلقين الذين يتوجَّه إليهم برسالته، ولا عن موقفه من موضوع رسالته، أو عن وجهة نظره إزاء هذا الموضوع، أو رؤيته الكُلِّية للعالم، كما أنها لا تنفصلُ عن هدفه من كتابة الرسالة، وتوجيهها، مثلما لا تنفصلُ عن الأسلوب أو الطريقة التي سينتهجهما في كتابة هذه الرِّسالة.
إنَّ تحديدَ المتلقين، وتعرُّف خصائصهم، وإدراك مستوياتهم الاجتماعية والمعرفية والتعليمية، وخلفياتهم الثَّقافية، وتلمس مشاعرهم وأحاسيسهم، ومكوّنات مخيلتهم، وطبيعة أسئلتهم، وطريقتهم في إدراك العالم، ورصيدهم اللُّغوي من مفردات وتراكيب، يؤثر، على نحو حاسم، في تحديد مضمون الرِّسالة، وفي طريقة إيصال هذا المضمون، وذلك في اتصال يتناغمُ مع رؤية الكاتب، ويُواشِجُ مَوقِفَه الاجتماعي والثَّقافي اللَّذين يُسْهِمَان، على نحو أو آخر، في تكييف مضمون الرسالة، واختيار أسلوبها، وطريقة إيصالها، وذلك لأنَّ الإنسان هو الأسلوب، ولأن الأساليب تتعدَّدُ وتتلاقى بقدر تعدُّد البشر وتلاقيهم.
ليست الكُتُبُ التي تعرض المناظرات الخلافية، أو تتناول الموضوعات السَّاخنة القابلة للجدل تناولاً نظرياً هي أفضل الكُتُبِ بالنِّسبة إلى الأطفال، وإنما تلك التي تعرض أمام أبصارهم وعقولهم وضمائرهم كيفية تعامل الشَّخصيات مع الأوضاع الصَّعبة، أو الحالات الإشكالية، التي تُواجهها، وتشعر أنَّها مُطالبة بإيجاد حلٍّ
إذا عثر المبدع على إجابة صائبة، واضحة ودقيقة، عن السُّؤال الخاص بالدوافع الكامنة وراء رغبته في الكتابة للأطفال، يكون قد حدَّدَ هدف الرسالة انطلاقاً من دوافعه نحو كتابتها، ويكونُ، في الوقت نفسه، قد فتح باب الإجابة عن السُّؤال الثاني؛ فيذهبُ من فوره إلى تحديد الفئة العمرية التي يتوجَّه إليها، وإلى تعرُّف الخصائص والسمات التفصيلية التي تميّزها عن غيرها من الفئات، ولا سيما على المستويات الاجتماعية والفكرية والثقافية والنَّفسية واللُّغوية والتَّخْيلِيَّة.
وحين يدرك المبدع تفاصيل الواقع الاجتماعي الذي تعيشه هذه الفئة من الأطفال يُسَهِّلُ على نفسه عملية إدراك السِّمات المشتركة بين أفراد هذه الفئة العمرية-الاجتماعية، على المستويات الأخرى، ويستطيعُ، بالتالي، أنْ يُحْسِنَ اختيار موضوع رسالته ومضمونها، أو أن يُعَدِّلَ موضوعاً ومضموناً سبق له أنْ اختارهما، وذلك بما يتلاءم مع الأسئلة التي يتشوَّق الأطفال لمعرفة إجاباتها التي تتواءم مع أعمارهم، وبطريقة يتوخّى فيها المبدع تكييف أسلوبه بما ينسجم مع السِّمات الأسلوبية للكتابة التي تُوائم الطفل الذي يودُّ مُخاطبتهُ.
حين ينجح الكاتب في إدراك هذه السِّمات من خلال ثقافته الواسعة، واطِّلاعه المعرفيِّ العميق على ما تتطلَّبهُ الكتابة وما قد يستوجبهُ موضوعُ الرِّسالة المراد توجيهها، وعبر إطلالته الشَّاملة والمُركَّزة على عالم الطفل بتعدُّد مجالاته، يكونُ قد فَتَحَ الطَّريق واسعاً أمام اختيار مادة الكتابة، وتجميعها، وتصنيفها، وتقييمها في ضوء معايير تنبع من إجاباته عن الأسئلة التي حدَّدناها قبل قليل، وهي الإجابات التي ينبغي تدقيقها بالرُّجوع إلى قاعدة معلوماتٍ مرجعيةٍ مُوَثَّقةٍ وموثوقة، تتضمّن استنتاجاتٍ ذات مصداقية علمية، أو تقدم فروضاً مؤصَّلةً، أو وقائع هي أقرب إلى الحقائق المؤكَّدة، وذلك للتَّأكد من صلة الإجابات بموضوع الرِّسالة، ومن مواءمتها للمتلقي، ومن قدرتها على خدمة الهدف المُتَوَخَّى تحقيقهُ عبر رسالةٍ تعتمد الإمتاع والإفادة، في آنٍ معاً.
كيفَ نُفَكِّرُ كالأطفال
هل تذكرين كيف كانت الطفلة التي كُنْتِها في الخامسة من عُمْرِكِ، مثلاً؟ وهل تذكر كيف كان الطفل الذي كُنْتَه في الثامنة من عُمركَ، مثلاً؟ وهل تذكران كيف كانت يومها تجري الأمور؟ هل يذكر أيٌّ منكما ما الذي كان يرغب فيه ويتوق إليه أو يرغب عنه ويتحاشاه؟ وهل يمكنكما استرجاع ما كنتما تفكِّران فيه يومها؟ وما كنتما تخافانه أو تخشيان وقوعه؟ هل لكما أنْ تستعيدا ضحكاتكما القديمة، والبكاء؟ هل أنتما مستعدان لفعل ذلك وغيره مما يصبُّ في مجرى استعادة مراحل الطفولة وعيشها من جديد؟ إنْ رغبتما في الكتابة للأطفال، فلن يكون بوسعكما إلا أنْ تفعلا ذلك، وأنْ تكونا قَادِرين على الحفر عميقاً في أعماقكما كي تستنهضا مكنون الطفولة الكامن فيهما!
إنْ حاول أحدكما كتابة قصة مُصَوَّرة، أو أيّ شكلٍ من أشكال أدب الأطفال وصيغه المُتنوِّعة، أو سعى لإنجاز كتابٍ من أيّ نمطٍ من أنماط كتبهم الثقافية العديدة، فليس له إلا أنْ يتذكَّر جانباً من طفولته، وأنْ يعيشه من جديد! فمن الضَّروري والجوهري أنْ تتذكرا ما كنتما تفكِّران فيه، وأنْ تستعيدا مشاعركما القديمة من أجل أنْ تعيشاها مجدداً في نصَّ القصة، أو في تفاصيل الكتاب بجميع مكوناته!
جميعنا يتذكَّر جوانب معينة من طفولته، وثمة مراحل أو أحداث نتذكَّرها على نحو أكثر وضوحاً من غيرها. وأنتِ ككاتبة واعدة، وأنتَ ككاتب واعد، مُطالَبَان أنْ تكتبا، في بدء تجربتكما الكتابية على الأقل، للأطفال الذين تتناسب أعمارهم مع المرحلة العمرية التي تستطيعان تذكُّرها بجلاء؛ فلذلك أنْ يُسَهِّلَ عليكما الأمر.
عندما تنهمكان في كتابة مشهد في قصَّة أو رواية، تذكَّرا وضعاً مماثلاً مررتما به في طفولتكما، واستعيدا الانفعالات والمشاعر والأفكار التي دفقت في نفسيكما من جرّائه أو إزاءه، ووظِّفاها جميعاً لإكساب تصرفات شخصيات القصَّة أو الرواية، وردود أفعالهم، حياةً تنبض بالحياة، وصِدْقِيَّةً، وإقناعاً. ولكن تذكَّرا أنَّ الشروع في تفسير أحداث طفولتكما من منظور الإنسان الراشد الذي أنتما عليه الآن، سيُفْقِدُ القصَّة تلك الصِّدقية وذلك الإقناع! وتلك غلطة يقع فيها كتَّاب عديدون حين يُفَسِّرُون أحداث الطفولة من منظور الكبار؛ فتحاشيا ارتكاب هذه الغلطة!
إنَّ مرور الزَّمن لكفيلٌ بأنْ يُتِيحَ لنا فرصاً لتفحُّص أحداث طفولتنا على نحو استرجاعيٍّ تأمُّليّ بحيث نتمكَّن من تحديد ما كان ينبغي أنْ نفعله، أو نشعر به، أو نفكِّر فيه. وليس ذلك، بأيّ حال، ما ينبغي أنْ نقوله للطفل؛ فحذار من الانزلاق نحو هاوية الوعظ والإرشاد، ولنستبعد تماماً منظور الشَّخص الرَّاشد عندما نكتب من وجهة نظر طفل أو طفلة، صَغِيري السِّن، محدودي التَّجربة! ولنتذكَّر دائماً أنَّ تأويل أيِّ وضعٍ أو حالٍ قابلٌ للتَّبدُّل مع تغيُّر العمر ومرور الزَّمن، فإذْ يمكن لطفل في الثالثة أنْ يتشاجر مع صديقٍ له ثمَّ ينسى ما حدث قبل أنْ يتخلّص من التَّراب الذي علّق بثيابه، فإنَّ طفلاً في الثالثة عشرة من عمره لن يستطيعَ النَّوم إنْ هو فَقَدَ صداقةَ طفل آخر بسبب شجار، وسيمكث اللَّيل كُلَّه مؤرَّقاً يُفكِّر في كيفية الاندماج مع الأطفال الآخرين من جديد!
ولعلَّها تكون فكرةً جيدة أنْ تمكثا بعض الوقت مع أطفال من المرحلة العمرية التي تكتبان لها، ويمكنكما فعلُ ذلك من خلال زيارة الأقارب، أو مدرسة الحي، أو حديقة الحي (إنْ وجدت بالطَّبع) أو مؤسسة من مؤسسات الطفولة التي يقيم فيها الأطفال أو يأتونها لممارسة أنشطة معينة، أو المكتبات العامة، أو غير ذلك من أماكن. ولا شكَّ في أنَّ مثل هذا النَّشاط سيُمَكِّنُكُمَا من مراقبة الأطفال وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض، ومن الإصغاء إلى محاوراتهم، ومن ملاحظة تصرفاتهم وحركاتهم وردود أفعالهم، بحيث تستطيعان معرفة ما يهمّهم وما لا يلتفتون إليه، وذلك في تناسب مع خصائص المرحلة العمرية التي يندرجون ضمنها.
الكِتَابَةُ في مَوضُوعَاتٍ خِلافيَّةٍ
ليست الكُتُبُ التي تعرض المناظرات الخلافية، أو تتناول الموضوعات السَّاخنة القابلة للجدل تناولاً نظرياً هي أفضل الكُتُبِ بالنِّسبة إلى الأطفال، وإنما تلك التي تعرض أمام أبصارهم وعقولهم وضمائرهم كيفية تعامل الشَّخصيات مع الأوضاع الصَّعبة، أو الحالات الإشكالية، التي تُواجهها، وتشعر أنَّها مُطالبة بإيجاد حلٍّ للأزمات النَّاجمة عنها، أو بعبور طريق يُفْضِي إلى تجاوزها.
ربما يقع انتهاكٌ لحقِّ ما من حقوق الإنسان الطَّبيعية أو المدنية أو السياسية أو الثَّقافية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أو تنُتهك قيمةٌ معينهٌ من القيم الإنسانية الثابتة والمتأصَّلة في فطرة البشر، ولكنَّ فعل الانتهاك أو الاعتداء، أيّا كانت طبيعته وآثاره، ليس هو الشيء الوحيد الذي يجري في حياة مُنْتَهِكِ الحُقُوقَ أو في حياة المُنْتَهَكَةِ حُقُوقَهَ، المُعتَدِي أو المُعْتَدَى عليه، الجلاد أو الضَّحية، وذلك لأنَّ وراء كلِّ نتيجةً أسباباً، وخَلْفَ كُلِّ قصَّةٍ قصَّة!
لوحة: نوار حيدر
لا شكَّ في أنَّ وقوعَ فعل الانتهاك لا يؤثِّر على الشَّخصيَّةِ المُنْتَهَكَةِ حقُوُقها فحسب، وإنَّما على مُنْتَهِكِ الحُقُوقِ أيضاً، غير أنَّ الذي يختلف هو طبيعة التأثير أو آثار الفعل ونتائجه. فقد يُفْضِي فعل الانتهاك إلى إنهاكِ الشَّخصية مُنْتَهِكَةِ الحُقُوقَ (التي أقدمت على ارتكاب فعل انتهاك الحُقُوق)، وإلى هزِّ كيانها من أساسه، بحيث يُحَدِّد هذا الأمر، منذ بدء الكتاب (أو القصة)، الحالة المُدَمِّرة التي تهيمن على هذه الشَّخصيَّة، والتحولات التي أصابت هويتها فحوَّلتها إلى ما يقترب، بدرجة أو بأخرى، من نقيض هويتها الأصلية، كإنسان. هذا من جهةٍ أولى، ومن جهة ثانيةٍ، ينبغي للقصة أنْ تُركِّز على كيفية تجاوز الطفل، أو الشَّخص، الذي استهدفه الانتهاك أو الاعتداء أو الفقد، الهُوِيَّةَ التَّعسفيَّة التي فُرِضَتْ قَسْرَاً عليه جرَّاء ذلك، وأنْ تُبَيِّنَ كيفية نموِّه إلى ما هو أبعد من كونه طفلاً، أو شخصاً، تعرَّض للانتهاك أو الامتهان أو الإعاقة، وكيف عثر في نفسه على ما مَكَّنهُ من أنْ يَجِدَ بنفسه ولنفسه، في نفسه وواقعه، جوانب تستحقُّ العناية، ودوافع تُحَفِّز الفعلَ الإيجابي المفضي إلى استعادة الذَّات وإعادة صوغ الهُوِيَّة المُسْتَلَبَة أو المُضَيَّعة، على نحو أعمق وأسمى.
ربما يهجر الطَّفل، أو الطفلة، الحيَّ أو المحيط الذي تعرَّضا فيه للانتهاك، وربما يحصلان على مساعدة أشخاص آخرين، أو تتهيأ لهما ظروفٌ مُسَاعدة. وربَّما يلجأُ أطفالٌ، أو أشخاصٌ آخرون من فئاتٍ عُمريّة أخرى، ممن تعرَّضوا لاعتداء من أيِّ نوعٍ كان، إلى الشُّرطة لأخذ ما يتوجَّب عليها أخذه من إجراءاتٍ تكفلُ حماية حُقُوق النَّاس عبر إنفاذ القانون، أو ربما يرفعون مظلمتهم إلى جهة تستطيع مساعدتهم، وتعويضهم عمّا لحق بهم من أذى وضرر، ولكنَّ المهمَّ بالنِّسبة إلى قصة تتناول مثل هذه القضايا السَّاخنة أو الخلافية، أو التي تتقلَّص دائرة المهتمين بها إلى حدٍّ ربما لا يُساعد على ترويج الكتاب، هو أنْ تتمكَّن الشَّخصية من استعادة ثقتها بنفسها، ومن السَّعي الدؤوب لإيجاد حلٍّ لمشكلتها، ولتجاوز مأزقها. ينبغي للقصة أنْ تحمل مغزى ضمنياً مؤداه أنَّ هناك بصيص ضَوء في آخر الدِّيماس، أو لنقل “في نهاية النَّفق المُظْلِمِ” كما يقول معظمُ النَّاس في أغلبِ الظُّروف والأوضاع الصَّعبة! ولكن هل لهذا الضَّوء أنْ ينبثق بصيصهُ أو يشرقَ نوره بمعزل عن رؤية الشَّخصية القصَصِيَّة للعالم وعمّا ينبغي عليها بذله من جهدٍ وتحفيزٍ مُثابرين يحيلان هذه الرؤية إلى واقع في الواقع؟!
إنَّ توسيع إطار تناول الموضوع يُفْضِي إلى توسيع نطاق الجمهور المستهدف، أو القرَّاء المحتملين، والعكس دائماً صحيح. ولذلك، فإنَّ تناول الموضوع الخاص أو المحلي أو حتَّى الوطني، بوصفه مرتكزاً، أو نقطة انطلاق نحو آفاق أوسع وذات صلة عميقة بالقيم الإنسانية العليا، وبالمآزق الحياتية والتَّاريخية التي واجهها، والتي يُمكن أنْ يُواجهها البشر أينما كانوا، ولأيّ ثقافة أو دين أو عرق أو لون أو جنس أو جنسية انتموا، يدفع القصَّة إلى السُّمو على الزَّمنية والآنية، مع الاستمرار في تأكيد انتمائها إلى المكان وتعزيز بقائها في الزَّمن، وذلك لأنه يلجُ بها رحابَ الإنسانية، أو العالمية، تأسيساً على خصوصيّتها ومحليتها المنفتحة على هموم البشرية بأسرها، وعلى آفاق الحياة. هكذا تحصل القصَّةُ على جمهور أوسع لأنها تنهض على قيم أعمق وأبقى، وتؤسِّس لنفسها دائرة اهتمام أعمَّ وأشمل.
ليس السُّمو على الزَّمنية والآنية خروجاً من الزَّمن وإنما هو إيغالٌ في امتداداته، ولذا يتوجَّب على الكاتب أنْ يُعالج موضوع قصته، أو مقالته أو بحثه، بطريقة زمنية تاريخية ملائمة، كي يَخْلُصَ إلى بثِّ رسالة ضمنية (القِصَّة)، أو مُعالجة ظاهرة (المقالة والبحث وغيرهما من الأنماط والأشكال الكتابية العلمية والمنهجية) للوصول إلى خُلاصة مؤداها أنَّ الموضوعات أو القضايا أو المشكلات التي كانت ساخنةً أو خلافيةً في الماضي لم تعد كذلك الآن، لأنَّ البشر قد وجدوا حلولاً حاسمةً لها، وعَبَرُوا الطُّرق المؤدية إلى تجاوزها، وكذلك هو الحال بالنسبة إلى موضوعات الحاضر وقضاياه ومشكلاته، لأنها ستصبح، بجهد البشر ووعيهم المنفتح على القيم الإنسانية ومعاني الوجود، ماضياً يُسْتَعَادُ تأمُّلهُ كي تُسْتَلْهَم دروسه!
وبالنسبة إلى الفئة العمرية المستهدفة، أصلاً، بالقصَّة أو المقالة أو البحث، ينبغي للكاتب أنْ يُراعي خصائصها ومحدِّداتها، فغالباً ما يتضَمَّنُ الكِتَابُ الموجَّهُ للقُرَّاء من الفئة العمرية المتوسِّطة الأحداثَ والأسباب الجذرية التي ألقت بالشَّخصية في مأزقها الرَّاهن، أو الدَّوامة التي تعصف بها الآن، وذلك دون إغراق في سرد تفاصيل كثيرة، أو تقديم عرضٍ تصويريٍّ مُفَصَّلٍ، بل بإلماحٍ وامض.
لنقارب ما أشرنا إليه للتَّو بمثال توضيحيٍّ موجز: طفلٌ شُرِّد بسبب انفصال والديه وزواج كلٍّ منهما من شخص آخر؛ يُواصل الأبُ إدمان المخدرات التي فرَّقت شمل الأسرة؛ يجد الطفل ملجأ عند أقارب له في مدينة بعيدة؛ يحدث أنْ يُقْتَلَ الأبُ في حادث غامض؛ تستدعي الشُّرطة الطِّفل كي يتعرَّف على جثة أبيه (هل من الصَّائب أنْ تفعلَ الشُّرطة ذلك؟)؛ وبينما هو واقفٌ أمام جثَّة أبيه المشوَّهة تماماً (أفي هذا عنفٌ زائد بالنِّسبة إلى طفل) نتعرَّف على جوانب عديدة من جوانب علاقة الابن بأبيه قبل تشتُّت الأسرة، وبعده، أي في الماضي القريب، وذلك من خلال آلية الاسترجاع أو التَّداعي. ولعلنا نكون قد عرفنا بعض نتائج هذا الماضي من خلال توحُّد الطِّفل، وعدم قدرته على بناء صداقات، ورفضه الإذعان لنصائح أقاربه ومدرّسيه وإرشاداتهم، إلى غير ذلك من أحداثٍ ومعطيات وممكناتٍ أسهمت في بناء القصَّة وإطلاق السَّرد. ولكن، ماذا بشأن الموت؛ فكرةً أو حقيقةً إنسانية يتكرَّر حدوثها واقعاً في كلِّ حين، أليس من الملائم تناولها في سياق هذه القصَّة على نحو يُضيء تجلياً جديداً أو مميَّزاً لها يعكسُ تناولُهُ مكوناتٍ جوهرية في هُويَّات الشَّخصيات أو يفصحُ عن جوانب خَفِيَّة في بناء القصَّة ومسار أحداثها، أو غير ذلك من أمور ومكوناتٍ فنية وفكرية ذات دلالةٍ ومغزى؟
ولأنَّ القصَّة تنهض، في صُلبها، على قراءة معمَّقة لمشاعر الشَّخصيات، وعلى تَقَصٍّ مُتعدِّد الجوانب للأسباب التي أفرزت النتائج البادية أو المتوقَّع ظهورها في مسار السَّرد القَصَصِيِّ وتوالي الأحداث، وعلى عرض فنيٍّ لكل ذلك، فإنَّها تثير مشاعر القرَّاء وتحفِّز تفكيرهم وتقلقهم. وحتَّى أولئك الذين لم يشعروا، أبداً، بمثل تلك الأحاسيس، ولم تجتحهم مشاعر كالتي اجتاحت بطل القصَّة؛ ينهمكون في متابعة ما يجرى في انتظار حدوث ما يُفَرِّجُ كَرْبَ البطل، وما يُبَدِّدُ قلقهم عليه، بل ربّما يكونون أكثر تأثراً من غيرهم، وأكثر تلهفاً على إيجاد حلٍّ ملائم وحاسم للمشكلة!
ودائماً، عند الانتهاء من كتابة القصة، وعقب الابتعاد عن مسوَّدتها النَّاجزة بعض الوقت، عُدْ إليها أو عودي إليها، واشرع أو اشرعي، في مراجعتها وتدقيقها. وإضافةً إلى التَّركيز على اللُّغة والأسلوب، وغير ذلك من جوانب تتصل بالمراجعة، بالتدقيق الجزئي أولاً ثمَّ الكلِّي، سلْ نفسك، أو سلي نفسك، الأسئلة الأساسية التالية:
هل الشخصية واقعية؟ هل تشعر وتفكِّر مثل أيّ طفل في سنها؟ هل هي التي تروي القصَّة؟ وهل ترويها من منظورها الخاص، ووفق وجهة نظرها ورؤيتها للعالم؟ هل تَدَخَّلتُ، كمؤلفٍ أو كمؤلِّفةٍ للقصَّة، تدخلاً مباشراً أو غير مباشر، في مسار أحداثها؟ هل فرضتُ وجهة نظري على الطفل (الشَّخصية الرئيسية أو الرَّاوي) ودفعته لإعادة تأويل الأحداث أو تفسيرها بحسب رؤيتي، أنا الشَّخص الرَّاشد، للعالم؟ هل بدت الشَّخصيةُ الرَّئيسيةُ بريئةً جداً، طاهرةً جداً، نقيةً جداً، وصافيةً جداً، وذلك على الرَّغم من أنَّ المأساة التي ألمّت بها قد لوّثتها، ودفعتها لأنْ تكبُرَ بسرعةٍ، وقبل الأوان؟ هل تمتَّعت الشَّخصية الرَّئيسة بخصائص تعويضية مميَّزة أسهمت في تمكينها من تجاوز مأزقها، أو على الأقل، دفعتها للتحرُّك في اتجاه يفضي إلى تجاوزه؟
سَلي نفسكِ، وسل نفسكَ أيضاً، هل بدت الشَّخصيةُ الشِّريرة المُنْتَهِكَةُ الحقوقَ، أو الشَّخصيات الشِّريرة المعتدية، شخصياتٍ شيطانيةً على نحوٍّ كليٍّ مُطْبِق، أم أنها ظلَّت مسكونة بجوانب إنسانية مكبوحة أو مَيْتَة؟ وعند الإجابة عن هذا السُّؤال، تذكَّر، وتذكَّري، أنَّ الشَّخصيات الشِّريرة لا تعدم كونها شخصيات إنسانية، إنها تعيش معنا في هذا العالم، لا تصعد إلينا من الجحيم الأرضي، ولا تسقط علينا من أعالي السَّماء!
وتذكَّرا، أيضاً أنَّ الشَّخصيات الشِّريرة تؤدي دورها في القصص على نحو ملائم تماماً حين تكون خَصْمَاً، عدواً مُنْتَهِكَاً للحُقُوق، أو عدوّا يُساعدُ عدوّا آخرَ على انتهاكها، أو عاملاً مضاداً يعطِّل الحلول المفضية إلى إعادة الوضع إلى حالته الأصلية السِّلمية السَّليمة، أو إلى تعويض البطل وأسرته، أو جماعته البشرية، عمّا لحق بهم من أذى وضرر. وعليه، تذكَّرا دائماً أنَّ الشَّخصيات الشِّريرة ليست ودِّيةً، وليست مُتجانسةً أبداً، ولذا فإنَّها لا تَصْلُحُ، بتاتاً، لأنْ تُوضع في مركز القصة إلا إذا كانت كذلك، وهل لها أنْ تكون؟!
وأخيراً، سلا نفسيكما، هل الحبكة ملفَّقة زائفة، أم أصلية متأصلة في واقع مُحَوَّل إلى فن؟ وهل الشَّخصيات، بما في ذلك الشخصية الرَّئيسة والشخصيات الخيِّرة الشِّريرة، مسطَّحة ذات بُعْدٍ واحد، أم هي نامية متطوِّرة ذات أبعاد متعدِّدة؟ وهل الحوار متيبس جامد أم هو حيويٌ سريعُ الوقع، بحيث أنَّه يسهم في الكشف عن أبعاد جديدة في الشَّخصيات، وفي دفع القصَّة إلى الأمام؟ وهل نهاية القصَّة تناوئ مسار الأحداث وتنأى عن الصِّدقية والإقناع، أم هي نهاية طبيعية لمسار الأحداث، وخصائص الشَّخصيات، وحركة الصِّراع؟ وهل يستطيع القارئ أنْ يتصوَّر بداية قصة جديدة عقب نهاية هذه القصة، بحيث يشعر أنَّ القصة التي قرأها ليست إلا قطعة من نهر الحياة الجاري التقطها الفنُّ وأعاد إنتاجها ليدرجها في عالمه؟
إنْ شعرتما أنَّكُما تملكانِ الرَّغبة والموهبة، وتتوافران على القدرات والمهارات التي تؤهلكما لكتابة قصة تنهض على فكرة خلافية، ساخنة، ومثيرة للجدل، فلا تتردّدا، أبداً، في فعل ذلك، ولكن، هل ستعملا بأقصى طاقتكما على إتقانها؟