الجسر
مزيج من الأصوات حاصرنا، ونحن في طريق العودة، فأثار ذلك بعض القلق في نفوسنا.. كلّ منّا احتمى بذاته، بحثا عن توازن وهمي، قد يخفف من حالة القلق، التي تملّكتنا.. المساء يتسلل بخطى بطيئة.. خلسة يبسط يديه السمراوين على المكان من حولنا.. مجهدا كنت أسحب قدمي المتعبتين، وفي أعماقي هواجس وليدة، أحاول كبحها. التفتّ نحو رفيقيّ، فبدا لي أمرهما أسوء ممّا تصورته.. علامات الإجهاد بادية عليهما، بيد أنهما كانا يكابران، محاولين مداراة الخوف الطافح من ملامحهما.
خاطبني أحدهما قائلا:
- لا علامة تدلنا على الجسر.
لم أرغب في إذكاء جذوة القلق لديه، لذا أجبت بمواربة:
– ربما نكون قد أضعنا الطريق الصحيح.
قلت ذلك، وأنا أحاول إظهار بعض التماسك.. الحقيقة أن ما تفوهت به ألقى الروع في قلبي، وكأنني لست قائله.. كنت أمام الحقيقة السافرة: إننا تهنا، والأنكى أننا على أبواب الليل، وهذا يعني أننا قد نقضي ليلتنا في هذا المكان الموحش.
أردف رفيقي متسائلا:
- ما العمل؟
تجاهلت سؤاله. حثثت السير نحو الأمام، محاولا التركيز، علّني أتبين معلما، يدلّني على الطريق. أصوات الطيور الملعلعة ضاعفت من التوتر في نفسي. قدماي تصدمان بالأوراق اليابسة. بصري أصابه بعض الغبش. بصعوبة أصبحت أميز الممرات المتداخلة. وحده طيف الجسر يدغدغ عواطفي. وصولنا إليه سيكون حتما نهاية كابوس مزعج، فأن يقضي المرء ليلته في هذا الدغل، متدثرا بالعراء أمر من الصعب تحمله. بعض اليأس طفق يتسرّب إلى ذاتي، كان لزاما عليّ أن أفكر في بدائل أخرى. حالتي لم تسعفني في ترتيب أفكاري. واصلنا التقدم. الظلام غدَا حقيقة يصعب تجاهلها. كلما تكاثف امتصّ بعض الأمل الذي ظل يراودنا.. فجأة ارتفع صوت أحد رفاقي مستبشرا:
- هناك ضوء ما.
استولت علينا المفاجأة السارة. دون تباطؤ هرعنا نحو مصدر الضوء، الذي يلوح من بعيد رغم كثافة الأشجار. حين أشرفنا عليه، صدمنا وجود بناية ضخمة. كل شيء فيها غريب. أسوارها، شرفاتها، هندستها، وكأنها كتدرائية من القرون الوسطى.. كبست الدهشة على أنفاسنا.. أبدا لم أتخيل وجود بناية مماثلة في هذا المكان.. ألا يتعلّق الأمر بمجرّد حلم؟ حين نظرت إلى وجهيْ مرافقيّ، كانت الحيرة تأخذ بلبّيهما.. بكثير من الفضول والرهبة تطلعنا إلى البناية.. الإنارة داخلها خففت من وطأة الوجل في قلوبنا.. طفقنا نطوف حولها متوجّسين نستطلع ما بداخلها. توقفنا عند البوابة.. لا شيء فيها يدعو إلى الريبة.. تبادلنا النظرات.. أدركت أن رفيقي يفكّران في الدخول. دنوت أكثر.. اشرأببت بعنقي، محاولا رؤية ما بداخل البناية. الصمت مطبق على الأجواء.. بعد تردّد لمست الباب، فإذا به ينفتح تلقائيا. انقبض قلبي.. بعد هنيهة دخلنا تباعا. التفت حولي لعلي أرى أحدا.. لا شيء.. دنونا من الباب الداخلي فانفتح هو الآخر من تلقاء نفسه، وإذا برجل يتطلع إلينا باسما. لباسه أسود. سحنته صهباء. يبدو غريبا في كل شيء: وجوده، سمته، ملابسه. لاحظ ترددنا، فدعانا بإشارة من يده.. كالمسحورين تقدمنا، وكأن قوة خفية تجذبنا نحوه.. ابتسامته العريضة بدّدت الكثير من تحفظنا.. في الداخل بدا كل شيء مرتبا، وكأنه كان في انتظارنا.. زحفنا نحوه ونحن نسترق النظر إلى جنبات البيت الفسيح. لا شيء مألوف. لوحات وتحف لم تقع عيناي على مثلها من قبل. لم يستعجلنا الرجل. فسح لنا المجال للنظر إلى ممتلكاته وتحفه. ابتسامته لم تفارقه لحظة واحدة.. سيطرت على انبهاري محاولا طلب المساعدة من الرجل، وكأنه يقرأ أفكاري، بادرني قائلا:
- إنكم تائهون.. ضللتم طريقكم وأنتم في عمق الغابة.. خففوا من روعكم.. لستم الأولين و لن تكونوا -طبعا- الآخرين.
نظرت إلى رفيقي.. في أعماقي تردد إحساس مريب.. هل يتعلق الأمر بحلم؟ أإلى هذا الحد يصبح الواقع بهذه الغرابة؟
انتزعني الرجل من تساؤلاتي بقوله:
- اطمئنوا. لدي أحصنة ستوصلكم إلى الجسر.
كدت أفقد صوابي، وأنا أتلقف كلماته. خطا الرجل نحو باحة البناية، ونحن خلفه، لا نفقه شيئا ممّا يحدث أمام أعيننا. عرج بنا نحو اليمين، فإذا بنا إزاء إسطبل. حاولت إخبار الرجل بأننا لا نحسن ركوب الخيل. مرة أخرى، التفت نحوي، وقال بلهجة الواثق:
- لا تخشى شيئا.. الأحصنة ستتكفل بالأمر. ما عليكم سوى امتطاء صهواتها. إنها مدربة على فعل ذلك.
وددت استفساره عن سبب مساعدته لنا رغم أنه لا يعرفنا. حين التقت نظراتنا لمحت تضايقا في ملامحه. لم يشجّعني ذلك على الكلام، فلجمت السؤال في أعماقي.
ودعنا الرجل.. ركبنا الأحصنة، و ما هي إلا لحظات، حتى أخذت الخيل تطوي بنا الأرض طيّا. كاد خافقي يتوقّف عن النبض.. لكن بمرور الوقت تملّكني إحساس خادع بأنّني فارس لا يشقّ له غبار.. لم يمض زمن طويل حتى أحسسنا أننا في الطريق الصحيح، فرغم الظلمة من حولنا شعرنا بقربنا من الجسر. رائحة الرطوبة المنتشرة في الأجواء أشعرتني بذلك. وأنا على صهوة الحصان توقف ذهني عن التفكير. وحدها النشوة بمسابقة الريح هيمنت على وجداني، حتى إن هذا الوجود المثير للبناية وللرجل وللأحصنة غاب عن ذهني.
بعد زمن قصير وصلنا الجسر. توقفت الأحصنة على بعد مسافة منه. دنا مني مرافقي. بادرني قائلا:
- وأخيرا.. ها هو الجسر.
بتوجّس سألت مرافقي:
أليس من الأفضل التخلي عن هذه الأحصنة، ونتابع السير على أقدامنا؟
ردّ أحدهما:
- و لم لا نتابع على ظهورها؟ الوقت ليل، والمرء لا يضمن الوصول إلى بيته سالما. وفي الغد نردها إلى صاحبها.
لم أرغب في مواصلة الجدل. التزمت الصمت، وفي أعماقي ينوس إحساس بأن هناك شيئا ليس على ما يرام.
تقدمنا نحو الجسر.. وبينما نحن نعبره حدث ما لم يكن في الحسبان. بغتة، و كأن الخيل رأت أشباحا مرعبة.. انتفضت فزعة. رمتنا من على صهواتها، وسقطنا في مياه النهر، ثم قفلت عائدة من حيث أتت.. تبللت ملابسنا. بيد أنه من حسن حظنا لم نصب بأيّ أذى.. تسللت ارتعاشة إلى جسدي.. حاولت جاهدا مقاومتها.. غادرنا المياه وارتمينا على ضفة الوادي. ما يحدث أكثر من قدرة استيعابنا. لذنا جميعنا بالصمت. كل منّا انشغل بنفسه، محاولا ترتيب دواخله بالشكل الذي يجعله يفهم ما يقع.
لحظات فقط كانت كافية لانتشال أنفسنا من الوجوم الذي ران علينا.. لمحت صديقي على الجسر يتعثر بخطواته المرتبكة. بدا لي كشبح تائه.. لم أتباطأ في مكاني.. استجمعت أنفاسي.. انخرطت في المشي.. حين بلغت منتصف الجسر، التفت نحو الصديق الذي تخلف ورائي.. ناديته حاثا إياه على اللحاق بنا، ثم استأنفت السير نحو وجهتي.
صباح اليوم التالي، أبدا لم أستطع الانفلات من شبح البناية.. وجودها الملغز أثار الشكوك في نفسي.
حين التقيت بصديقيّ، عبّرت لهما عن هواجسي. نصحاني بنسيان الأمر. بعد لحظات ودعتهما، وبشكل لاإرادي وجدت نفسي منجذبا نحو الغابة.. في دواخلي توق لمعرفة سرّ البناية. توغلت في أعماق الغابة، وعبثا بحثت في كل مكان.. حين أخذ اليأس يتسرب إلى نفسي، انتبهت إلى أنني في مكان لا أتبين معالمه.. حينها بدأ القلق يساورني. طفقت مجددا أبحث عن طريق العودة، قبل أن يفاجئني المساء بحلوله.