نحن والإنسان الضائع فينا
من هنا غرق العرب في ثقافة النكوص والاستسلام لآفة التراجع والارتقاء بالممارسة الدينية إلى أتون التشدد القاهر للحرية والانفتاح على الإنسان النظير، وكُلّ ذلك أصبح يستبطن، بقدر ما يكشف، عن هزيمة الذات الوجودية، هزيمة الإنسان التي هي أساس كُلّ الخراب الذي يجري في عالمنا الراهن.
هيّا إلى الإنسان
يبدو لي أن الإنسان يمثل مركز الوجود والعالَم والحياة والمستقبل، وأيّ زحزحة غير منطقية لكينونته الإنسية تعني بداية الخراب الشامل لمنطق الوجود؛ فما قيمة هذا الأخير من دون الإنسان. ولهذا، أشتق الحاجة ضرورة بالعودة إلى الإنسان، كما دعوت إلى ذلك في كتابي الجديد “هيّا إلى الإنسان.. من الكائن البشري إلى الموجود الإنساني”، فمن دون العود إلى الإنسان، وتحديداً “الإنسان-فينا” نحن البشر، لن تقوم لنا قيامة التحرّر من خراب شامل يتربّص شأننا من كُل صوب، ويقضم راهننا تمهيداً لقضم مستقبل عيشنا قصد رمينا في عبث متلاطم لا جدوى منه سوى الضياع والعدم.
ولهذا، يبدو مفتاح الإجابة عن سؤال من قبيل: ماذا يريد العرب من حاضرهم؟ يكمن في توجيه النظر إلى الإنسان، ولذلك خاطبت الإنسان غير البشري-فينا قائلاً “إلى الإنسان فيك؛ الإنسان هو أنتَ عندما تخرج من عتْمة الغريزة البشريّة صوبَ نور الإنسيّة فيك تلكَ التي تمنحُكَ كرامةَ أن تكونَ في جوهرِكَ أنتَ كإنسان مُتفرِّد الوجود لكي تصنع الحياة الأبهى والأجمل للإنسانيّة جمعاء”.
إن سبيلنا -نحن العرب- إلى التخلص من آفات الزمان، وأقصد “ثقافة النكوص، وثقافة التراجع، والتشدُّد الديني” إنما يكمن في توجيه رؤيتنا المتجدِّدة إلى الإنسان، بالأحرى العودة إلى “الإنسان-فينا”، وعندها سنخرج من النكوص إلى مواجهة التحديات بروح وثّابة، ومن عبادة التراجع إلى ممارسة العيش المطرد بفتوة الإنسان المعطاء الذي لا يمل تجديد وجوده الذاتي الموضوعي صُحبة الآخرين، ومن التشدُّد الديني إلى التخلص من التعصُّب المذهبي المُميت في راهننا من دون أن ننسى نحنُ أمة قتلت نبيها على نحو مُضاعف خلال التأريخ بدافع التعصُّب لكراهية الغير وهو النظير الإنسي فينا!
تفكيك الكراهية
تبدو العودة الرشيدة إلى “الإنسان-فينا” عملية عندما ندعو إلى نبذ الكراهية، وفي سنة 2015 دعوت إلى تفكيك معمار الكراهية، ثم كررت قولي هذا في كتابي “ما الفيلسوف؟ إنسان التنوير ومفكِّر صباح الغد”، لا سيما أننا “أصبحنا بإزاء أنظمة كراهية تشتغل على نحو منتظم مدفوعة بخطاب فكري أمسى الكارهون الذين يحملونه مُجرد رهط رعاعي ينساق بعماء غريزي لإنتاج ذات مفعمة بالكراهية دونما تفكير فيما تُقبل عليه وتفعله تداولاً -تلك الذات- في خضم عماها ذاك الذي يسوق الناس إلى متاهات العدمية المجحفة. إنها معماريّات تجمع بين الكراهية كرغبة، والكراهية كهوى، والكراهية كإدراك، والكراهية كشعور في معمار كراهية واحد متوحد بات يتهدد وجودنا” (ما الفيلسوف؟ إنسان التنوير ومفكِّر صباح الغد- ص 93).
هكذا تبدو العودة إلى “الإنسان-فينا”، وتفكيك أنظمة الكراهية؛ بل تفكيك الكراهية المضاعفة-فينا، طريقنا الناجع لتفكيك أنظمة الخراب الأخرى، هذا التفكيك الذي هو سبيلنا نحو إحياء ثقافة المواطنة وثقافة الحقوق وثقافة الحرية الشخصية، وفي كُلها يمثّل الإنسان مركزاً؛ فالمواطنة والحقوق والحرية هي للإنسان، لكنها لا بدّ أن تكون للإنسان-الإنسي غير الحيواني فينا، إلّا أن كُلّ صروح ومشروعات التنمية العربية، ومنذ إنشاء الدولة الوطنية العربية الحديثة في القرن العشرين، ما راعت المواطنة ولا الحقوق ولا الحرية الشخصية للفرد العربي.
الهزيمة
لقد مضت تلك الصروح التنموية خائبة تجرّ أذيال هزيمتها، وها نحن في بلدان عربية عدّة كالعراق وسوريا وليبيا واليمن تلفظنا الهزيمة خارج العصر؛ فالموت المجاني يسحق الآدمية فينا، والجوع يجعل أطفالنا يبحثون عن خبز يابس في القمامة، ومدارس الأطفال في عالمنا العربي خاوية من العلم لفساد التعليم والمعلِّم، وتحت عناوين المساعدات الدولية صار العرب يستجدون المال من صناديق النقد الدولي! وصارت دول عربية تحمل راية تغيير أنظمة عربية أخرى في وطن واحد نخجل من اسمه “وطن عربي” بالنيابة عن دول الاستعمار الكبرى التي لا تهدأ عواصفها، وتشيع مع الأنظمة العربية المتسلِّطة بين الناس صراعاتهم الجهوية بلا ملل “صرعات دينية ومذهبية ومناطقية وعرقية”، حتى صار الخراب شاملاً؛ فالدولة الوطنية في هذه البلدان شبه منهارة، يرافقها تفكيك جيوشها الوطنية لتحلّ محلها جيوش مخترقة من كُلّ الجهات في ظل ثورة المعلومات والاتصالات التي تتحكَّم بها عن بُعد وقرب، وفي النتيجة ضاع الإنسان في وسط هذا الخراب، فضاع “الإنسان ذاته-فينا”، وأمسى شأننا في آخر الدرب نجر أذيال الهزيمة تلو غيره بلا توقف.
التعارف
ما نريده -نحن العرب- من العالم لا بدّ أن يبدأ من فهم ما نريده من أنفسنا؟ وما نريده يكمن في معرفة أنفسنا، وتلك حكمة قديمة تعود إلى الفيلسوف سقراط الذي قال يوماً “اعرف نفسك”، ومعرفة النفس تبدو، من الناحية المنهجية، أولى الخطوات لمعرفة الغير النظير في الملة الإنسية، بمعنى معرفة العالَم الذي نعيش فيه معاً، وذلك يتطلَّب الإصغاء إلى الآخر، ليس صوتياً إنما شكلاً ومضموناً من باب التعارف الذي حث عليه المقدَّس القرآني، ومعرفة النفس هي معرفة جذورنا التي لنا في فكرنا فلسفياً وعقائدنا دينياً، وإذا أردنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فلا بد من معرفة أنفسنا بوصف أحدنا هو ذلك الإنسان-الإنسي وليس مجرد الحيواني.
نحن والعالم
إذا أردنا أن نضمن علاقة إنسانية لنا مع العالَم، فينبغي أن تكون كذلك؛ فمن دون البُعد الإنساني لا يمكن تصوّر العالَم مستمراً بالعيش؛ فلم يعد أحدنا يعيش لوحده دون غيره في هذا العالَم، وإذا لم يتخلَّص هذا العالَم من المركزيات العرقية والدينية والثقافية والحضارية المتطرفة التي تستبطن رؤيته فلا سبيل لنا للتعايش معه؛ فدول الطوق الكبرى فيه تصنع الإرهاب بكُل مكوناته -داعش أنموذجاً- لقتل العرب والمسلمين كوسيلة له للسيطرة الكونية علينا، وتطلب منا محاربة الإرهاب، وهذا كيل بمكيالين ترانا دخلنا في لعبته مُجبرين بما لا حول ولا قوة لنا.
ولهذا، صار الشك لدى الشخصية العربية بنزاهة العالَم من حولنا سائداً، لكننا لا بد من التخلُّص من براثن هذا الشك لكون الطريق الناجع للتعايش مع العالَم لا بد أن يستمر مهما كانت نظرة العالَم إلينا كعرب ومسلمين مشوبة بالتطرف الجهوي والتمركز الاستعلائي شرط أن نفهم موجوديتنا الإنسانية بوصف أحدنا إنما هو إنسان-بعد بشري له حق الحياة في الوجود وبناء أواصره على نحو إنساني.