ما كان صار قديما
لم يكن أحد يتصور أنه بعد أكثر من قرن ونصف القرن من الصدمة، التي أحدثها لقاء العرب بالحضارة الغربية، أننا سوف نعود إلى طرح الأسئلة التي كنا نطرحها على أنفسنا للخروج من المأزق التاريخي الذي ما زلنا نواجهه كأمة تعاني ما تعانيه من التخلف والعجز، وتحاول العبور نحو المستقبل الذي يعيدنا إلى دائرة الفعل والمشاركة الحقيقية في بناء الحضارة الإنسانية.
لكن المفارقة الأكبر هنا أن استعادة سؤال النهضة والتقدم الحضاري يأتي في سياقات تاريخية وحضارية مختلفة تماما تستدعي منا مراجعة علمية ونقدية شاملة ودقيقة لخطاب النهضة الذي صار قديما، فالواقع الجديد للعرب هو غير الواقع الذي كان، والعصر الرقمي المحكوم بالاقتصاد المعرفي والتكنولوجيا الدقيقة هو غير عصر التطور الصناعي والعلمي الأول الذي كان، ما يزيد من تعقيد المشهد كثيرا أمام العرب ويستدعي من الفكر العربي المعاصر تجديد أدوات البحث والتفكر في قضايا الواقع ووسائل النهوض به للخروج من هذا المأزق التاريخي والحضاري الكبير الذي يزداد مع الزمن اتساعا وتعقيدا.
إن فشل تجربة ما يزيد على نصف قرن من المشاريع الفكرية والسياسية للنهوض بالواقع العربي ومعالجة مشاكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية تستوجب مراجعة علمية دقيقة وشاملة لمجمل الأطروحات الفكرية والأيديولوجية التي أثبت الواقع عجزها عن امتلاك رؤية تحليلية شاملة لمشاكل الواقع العربي وحاجاته الموضوعية لتحقيق التقدم والتغيير المنشود، ولذلك لم يكن مستغربا أن يتركز ثقل الانفجار الشعبي في أكثر هذه البلدان التي حكمت فيها أنظمة استولت على السلطة بحجة امتلاكها للرؤية التاريخية التي تقود الأمة للنهوض والتقدم.
سؤال المستقبل
إن السؤال الذي يتقدم على ما عداه من الأسئلة هو ما الذي يجعل العرب عاجزين عن العبور نحو مستقبل يليق بهم، بينما استطاعت أمم وشعوب أخرى، لا تمتلك التاريخ والعمق الحضاري الذي يملكه العرب، أن تحقق نهضتها وتفرض وجودها في عالم اليوم كقوة اقتصادية وحضارية هامة؟
لقد حاول الفكر العربي الحديث البحث عن أسباب هذا الإخفاق التاريخي للعرب عبر قراءات مختلفة لبنية العقل العربي تارة، وتارة أخرى للإشكالية المتمثلة في علاقة العرب بالتاريخ والحداثة الغربية، في حين اعتبر بعض المفكرين العرب أن مشكلة العرب تكمن في غياب المشروع الديمقراطي أو في الشخصية العربية التي تعاني من القصور المعرفي، لكن الحقيقة أن الفكر العربي ظل يتحرك في مكان بينما الواقع العربي المحكوم بسلطة الاستبداد والقمع كان يتحرك في مكان آخر.
لقد ظل الفكر العربي في الغالب يحاول البحث عن إجابات لواقع بالغ التعقيد والتشابك، من خلال قراءة سياسية في الغالب للواقع تفتقد إلى الأدوات التحليلية المعرفية وإلى الحوار الواسع والمعمق على مستوى النخب الفكرية والسياسية بمختلف تياراتها وخلفياتها الفكرية حول أسباب هذا الفوات التاريخي والحضاري، إضافة إلى الفجوة التي ظلت تحكم علاقة هذه النخب بالنظام السياسي العربي، الذي بقي يراكم عجزه ويفاقم من أزمات الواقع وتحدياته، حتى وصل إلى مرحلة الانفجار الشعبي في انتفاضات الشارع العربي، التي ما زال زلزال تداعياتها السياسية والاجتماعية مستمرا. لذلك كان من الطبيعي أن تنفجر معها كل تناقضات الواقع وأزماته وتظهر هشاشة بنية الدولة وانقسامات المجتمع، ونستعيد مجددا سؤال الهوية والمستقبل.
الأيديولوجيا والديمقراطية
حاول القوميون العرب القفز فوق الفجوة التاريخية والحضارية التي عاشها العرب في عصور تخلفهم عبر محاولة التوفيق بين مفهوم تجريدي للإسلام والحضارة العربية والإسلامية ومعطيات الفكر السياسي الغربي الحديث وبعض أطياف حداثته، فكانت هذه القراءة التلفيقية سببا من أسباب هذا النكوص وانغلاق أفق المستقبل نظرا لتجاهل العوامل الموضوعية والمادية التي ساهمت في تحقيق التحول التاريخي للمجتمعات الغربية وبناء حضارتها الراهنة على المستوى الفكري والفلسفي والسياسي.
لقد ساهمت هذه الرؤية المثالية وغياب الحسّ النقدي والتاريخي لتجربة الماضي في صنع إخفاقات هذا الفكر وعجزه عن تحقيق مشروعه السياسي والاجتماعي في واقع ما زالت بنيته الاجتماعية والثقافية تحافظ على منظومتها القيمية القديمة وعلاقاتها القديمة، الأمر الذي تهيأت معه لقوى الاستبداد، التي حكمت باسمه في ظل غياب تام للممارسة الديمقراطية، أن تنتقل من استبداد الحزب القائد إلى استبداد القائد الأوحد والوحيد للدولة والمجتمع والحزب، وأن تظل الدولة قوة قهر لا دولة مواطنة محكومة بالقانون وبالإرادة الشعبية المعبر عنها ديمقراطيا.
وهكذا تم استبدال مفهوم الدولة المدنية بالدولة الأمنية، كما تمّ حل مشكلات التعددية الإثنية بمحاولة تعريب المجتمع بالقوة، واستبدال دولة المؤسسات بدولة الحزب الواحد والرمز الواحد. وهكذا ظل الواقع يعيد تدوير أزماته ويزيدها تراكما وتعقيدا في وقت كان يزداد فيه اتساع الفجوة الحضارية بين المجتمعات العربية والغرب كثيرا.
والحقيقة أن تجربة الشيوعيين العرب لم تكن أفضل حالا فقد حاولوا أن يقفزوا فوق كل هذه التناقضات كما فعل الإسلام السياسي بالأممية ووحدة البروليتاريا، في بلاد لم تكن البروليتاريا تشكل فيها رقما ذا قيمة تذكر، بسبب طبيعة مجتمعاتها الرعوية والزراعية. وعندما حاول بعض المفكرين من الماركسيين العرب البحث عن ماركسية “عربية” كانت التناقضات بين التيارات والقوى الماركسية المتصارعة في العالم قد بلغت مرحلة خطيرة، فكانت عودتهم إلى وعيهم النابع من خصوصية الواقع أقرب ما تكون إلى التوفيق بين معطيات الفكر القومي والفكر الماركسي، ما أعادنا مرة أخرى إلى الإشكاليات الأساسية حول العلاقة مع الدين والتراث والممارسة الديمقراطية ونقد الذات.
ولم يكن الإسلاميون أفضل حالا عندما أجابوا على سؤال الحاضر بأن الإسلام هو الحل وأن العودة إلى سيرة السلف الصالح هي الطريق لتحقيق خلاصنا. إن هذه الرؤية المثالية واللاتاريخية تتجاهل متغيرات العصر والحياة من حولنا والفجوة التاريخية الكبيرة بين الحاضر والماضي، فتجعل من الماضي هو المستقبل في زمن سريع التحول والتغيير شهد متغيرات كثيرة سواء على المستوى الإسلام المذهبي أو على مستوى العالم الذي شهد طفرات حضارية كبيرة كان العرب والمسلمون هم أكثر المجتمعات ضحايا لها وأقلهم تأثيرا فيها، فقد حكمهم الاستعمار زمنا طويلا ولم يخرج من بلادهم بعد، لأنه ما زال يجلس مستريحا خلف ستارة المسرح السياسي، وعندما تستدعي الحاجة يحضر بكل قوته كما فعل في العراق وأفغانستان والصومال، أو يمكن أن يفعله مستقبلا نظرا لما تمتلكه جغرافيتهم من ثروات وموقع جيوسياسي كبير.
إن حالة الاشتباك الحادة بين التيارات الفكرية والسياسية حول مجمل القضايا المصيرية التي تتعلق بالعلاقة بين الدين والعلمانية أو بين الدين والدولة والحاضر والماضي، وكذلك العلاقة بين التراث والمعاصرة والعرب والحداثة والعالم، هي في حقيقتها اشتباك أيديولوجي أكثر منه اشتباك معرفي يتحدد وفق رؤى مسبقة
الدولة المستبدة
إن الدور الذي لعبته البرجوازية الغربية كقوة تنوير ومشروع ديمقراطي كان العامل الحاسم في تحقيق التحول التاريخي والحضاري الذي شهده الغرب وما زال يواصل قيادته، بينما عملت الأنظمة الأيدو-عسكرتاريا العربية على تعطيل التطور السياسي والاقتصادي التاريخي للبرجوازية الوطنية وإفقار الطبقة المتوسطة رائدة التنوير في المجتمع. إن غياب هذا الدور واستبدال التحول التاريخي والاجتماعي بالانقلابات العسكرية قد ساهم في صعود العسكرتاريا وأنظمتها المستبدة، ما أدى لفرض وصايتها على المجتمع وخنق الحياة السياسية والديمقراطية واحتكار السلطة عبر سياسات اعتمدت على تحالفات بينها وبين السلطة الدينية من جهة وبينهما وبين بعض الفئات البرجوازية القديمة أو الحديثة التي تشكلت من خلال سياسات الفساد ونهب الثروات الوطنية عندما ربطت مصالحها بها.
ومما عزز هذه السياسات انعدام الحريات الشخصية والعامة ودور مؤسسات المجتمع المدني والحياة الديمقراطية التي تتيح للمجتمع التعبير عن خياراته السياسية والاجتماعية وممارسة الرقابة والمشاركة في صنع القرار. لذلك استبدلت سلطة الاستبداد هذه الأسس، التي قامت عليها الدولة الحديثة بالشرعية الثورية التي تبين فيما بعد أنها ستار لنظام يقوم على أسس قبلية أو طائفية، لتكريس سلطة استبدادها وقهر المجتمع، فكان ذلك من أكثر عوامل الكبح والإعاقة في تحقيق التنمية الشاملة والتطور والإبداع.
وبدلا من تفكيك منظومة القيم والعلاقات التقليدية، التي تعيق حركة تقدم المجتمع، عمدت هذه الأنظمة إلى تكريسها وجعلت الفساد سياسة عامة لتفكيك المجتمع وإفراغ المؤسسات التربوية والعلمية من أيّ دور فاعل وحقيقي في تنمية الإبداع والبحث العلمي النظري والتطبيقي، الأمر الذي أفقد هذه المؤسسات دورها في تحقيق النهوض العلمي والفكري المؤمل ونشر ثقافة التنوير والعقلانية في المجتمع التي تسهم في تطوير أنماط تفكيرنا ورؤيتنا للعالم والذات.
إن غياب الاهتمام بالثقافة العلمية ومراكز الأبحاث والتطوير ومحاولات استيعاب التكنولوجيا الحديثة وتوطينها تعد من أسباب هذا التردي الراهن في وقت كنا نشهد فيه تراجع مؤسسات التعليم وإلغاء أقسام الفلسفة والبحوث العلمية في وقت كان يتم فيه تشجيع الفكر الغيبي على الانتشار وتعزيز نفوذ المرجعيات الدينية التي وجدت في حالة الإحباط واليأس التي تعيشها الأجيال الجديدة، بعد انكشاف دوغمائية الأنظمة الحاكمة وفشلها في تحقيق التنمية، وسيلة لتعزيز نفوذها وملء الفراغ الذي تعاني منه الساحة الفكرية والسياسية.
لقد وجد الجيل الجديد نفسه أمام جملة من التحديات الكبيرة داخليا وخارجيا بعد سقوط اليقينيات الأيديولوجية والشعارات القومية والاشتراكية وتوحّش دولة الاستبداد والفساد تمثلت في الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة وغياب لفرص العمل في وقت كانت فيه العولمة والفجوة الحضارية بينا وبين الغرب تمارس ضغطها النفسي الكبير، ما شكل مناخا ملائما لظهور التطرف والحركات السلفية التي كان ردها على هذا الواقع المأزوم بالعنف ونزعة التدمير والقتل.
مقدمات لا بد منها
ما يزال الفكر العربي طوال قرن ونيف في جدل مستمر حول مجموعة من القضايا الأساسية تشكل منطلقات أساسية للعبور نحو المستقبل. إن حالة الاشتباك الحادة بين التيارات الفكرية والسياسية حول مجمل القضايا المصيرية التي تتعلق بالعلاقة بين الدين والعلمانية أو بين الدين والدولة والحاضر والماضي، وكذلك العلاقة بين التراث والمعاصرة والعرب والحداثة والعالم، هي في حقيقتها اشتباك أيديولوجي أكثر منه اشتباك معرفي يتحدد وفق رؤى مسبقة ومحددة وعلاقات تنتصر للمرجعية أكثر مما تنتصر للبحث التحليلي العلمي لحاجات الواقع ومتطلبات التقدم والتطور.
إن الاشتباك المستمر بين هذه الثنائيات المتقابلة التي ما تزال تحكم الفكر العربي في بحثه عن أفق لنهضة جديدة يعكس في حقيقته صراعا بين قوى اجتماعية وسياسية مختلفة على المستقبل وطبيعة هذا المستقبل الذي يروم تحقيقه. لذلك فإن الدور الذي لعبته أنظمة الاستبداد ساهم في تعميق هذا الصراع عندما عمل على إضعاف وتهميش دور الطبقة المتوسطة رائدة فكر التنوير والنهضة في المجتمع خوفا منه على سلطة استبداده التي تحالفت مع سلطة الاستبداد الديني والفساد وبرجوازية النهب الجديدة التي أنشأها. لذلك كان استبدال الدولة الوطنية التي تستمد شرعيتها من الشعب بالدولة الأمنية هو العامل الحاسم في تعطيل أيّ دور هادف للتغير. وبقدر ما كان هذا الواقع سببا في الانتفاضات الشعبية الواسعة فإنه كان سببا آخر في تغييب الحامل الاجتماعي الذي كان يمكن له أن يقود عملية التغيير والبناء الديمقراطي لدولة القانون والمواطنة عندما جرى تهميش وإضعاف الطبقة المتوسطة في المجتمع.