صباح الدين علي.. العنصري طبقيا
طغت شهرة هذه الرواية على ما عداها. أما النقاد فكانوا يعتبرون رواية “يوسف القويوجاقلي” واحدة من أدبيات النقد الاجتماعي الذي اشتهر به صباح الدين علي، حيث تُسلِّط الرواية الضوء عبر بطلها الطفل يوسف الذي فقد والديه جرّاء حادثة سرقة على التفاوت الطبقي والفساد في تركيا في تلك الحقبة. وأيضًا لقدرتها المدهشة على رسم هذه الثنائيات بعمق من خلال استخدام متقن للغة التركية.
واقعية القاع
بحكم التكوين الفكري الذي شبّ عليه صباح الدين علي وانتمائه إلى اليسار حملت كتاباته ملامح هذه الأفكار وثورتها ضد الظلم والطغيان، لذا كان من الطبيعي أن تميل هذه النتاجات إلى “واقعية القاع″ التي تحتفي بالهامش وترصد البؤس الاجتماعي والحياة البدائية بكل ما تصوّره من شقاء وَمُعاناة لأصحابها، ففي أعماله القصصيّة أو الروائيّة دائمًا نجد نموذجًا لهذا الإنسان التركيّ البسيط المطحون، وهو ما جسّده عبر بطله يوسف والأزمات المتلاحقة التي وقع فيها، وإن كانت صورة يوسف تتوازي مع حالات شظف العيش التي عاشتها أسرة صباح الدين نفسه، خاصة بعد وفاة والده فقد تماهت صورة الراوي مع بطل القصة إلى حدّ المطابقة مع اختلاف بعض التفاصيل، فالعمل مستمدّ من التجارب التي عايشها الكاتب سواء على مستوى عمله الوظيفي كمُعلِّم وهو ما مكَّنه من أن يطوف في أماكن مختلفة في بيئة الأناضول، أو بين جدران السجون وخلف القضبان الحديدية، فنجد تمثيلات للفلاح الأجير والأطفال المكترين وصغار الموظفين والمنتدبين وعاملات التراحيل وعلى رأسهم السّادة.
في هذه السنة تمّ الاحتفاء بمرور 80 عامًا على صدور الرواية الأولى لصباح الدين علي، ومن ثم أعادت دار “يابي كريدي للنشر” طباعتها، وكتبت على غلافها الخلفي كلمة بتوقيع بِرْنَا موران قالت فيها إن “رواية ‘يوسف القويوجاقلي’ هي رواية الروايات التي تناقش أوضاع الشعوب المضطهدة والمظلومين من الفلاحين، وقد أسست الرواية على نظام القيم الرومانسية الطبيعية، ومن ثم تهمين على النص القيم المتضادة؛ كالمدينة والطبيعة والفساد والبراءة والحياة والموت والإنساني والطبيعي كلاهما يتواجهان. وكأن الموضوع فلسفي، ولذا يجب أن تتمّ قراءة الرواية وفهم اعتراض صباح الدين في ظل سياق التفرقة بين الأغنياء الخبثاء والفقراء الطيبين، وليس وفقًا للسياق الماركسي، وهو ما يجعل صباح الدين يقترب من إقامة نظام عادل، وإن كان يتمّ التأكيد على الإطار الرومانسي للتمييز بين الأغنياء والفقراء وأهل الخير والشر”.
الرواية في الأصل هي جزء واحد مكوّن من قسمين؛ الأول ويحتوي على 16 وحدة أو مقطع تتفاوت بين الطول والقصر، لكن أغلبها تميل إلى القصر. أما القسم الثاني فيشغل 14 مقطعًا كان أطولها المقطع الأخير. ويكتفي المؤلف في تقسيماته الداخلية بالأرقام دون الحاجة إلى عناوين فرعية. تتألف الرواية من خمس شخصيات رئيسية هي يوسف وهو طفل بائس من أبناء الفلاحين فقد عائلته وهو صغير في حادث مأسوي، بعد حادثة سرقة تعرضت لها القرية من أشقياء، تميز بالصلابة والشجاعة، إلا أنه لا يثق بأحد، والأهم أنه يحب شخصية مُعزّز ابنة القائمقام، وتأتي شخصية مُعزّز في المرتبة الثانية وهي من الشخصيات ذات الفاعلية في أحداث الرواية، تتميز شخصية مُعزَّز بأنها تهتم بنفسها ولا علاقة لها بأحد، وبأنها شخصية بسيطة وحسنة النية. ثمّ تأتي شخصية القائمقام صلاح الدين، وهو أوّل شخص يتصل بيوسف، حيث يوفده مجلس البلدية للتحقيق في جريمة القتل، وعندما يرى يوسف يشعر بالشفقة نحوه فيصطحبه معه ويعتني به، ويتميز بأنه شخص محبوب، صادق، رؤوف مولع بأسرته. وهناك شاهندة هانم، وهي زوجة القائمقام شخصية مُنفرِّة ومليئة بالحقد، فهي على علاقة بمجلس البلدية وسيئة القلب وبلا أخلاق. وهي تتوازى مع شخصية شاكر الذي يمكن وصفه بأنه فتوّة البلدة، ويتميز بأنه شخصية سيئة وبلا أخلاق. عبر هذه الشخصيات المتناقضة التي تُعبِّر عن الصراع الطبقي الذي يرتئيه صباح الدين تدور الرواية.
تبدأ أحداث الرواية في ليلة ماطرة من خريف 1903، حيث نزلت إلى القرية مجموعة من الأشقياء بقرية قويوجاقلي في مدينة أَيْدِن، وقتلوا عائلة كاملة، ولم يتبقَ في مكان الحادث سوى طفل صغير، هاجموه أيضًا إلا أنهم تركوه حيًّا، يذهب القائمقام السِّيد صلاح الدين، صاحب الخمسة والثلاثين عامًا، ومعه أربعة أشخاص من الجندرمة للتحقيق. يصف الرّاوي رحلة المحقِّق ورجاله إلى البلدة وما اعتراهم مِن متاعب بسبب الهطول الشديد للأمطار، وبعد ليلة عاصفة يصل المُحقِّق إلى القرية ويذهب إلى مكان الجريمة، فيجد يوسف بمفرده إلى جوار الجثث. يعمد الرَّاوي إلى وصف المكان المفتقر إلى كل شيء في إشارة إلى الفقر والبؤس اللذين كان يعيش فيهما يوسف، مقارنة بالمكان الآخر عندما ينتقل إلى أسرة القائمقام. يُقرّر أخذ يوسف ليتربي مع ابنته مُعزّز وهي في ذات سن يوسف، فيتوجه إليه قائلاً “تعالَ معي، وكن لي ابنًا، فليس لي أولاد ذكور قط” في إشارة دالة لتعاطفه مع الطفل. في إشارات كثيرة خاصّة الحوارات الأولى أثناء التحقيق يكشف السارد عن جوانب من شخصية المحقِّق، وكأنّه يُمهِّد لما سيقوم به مِن فعل. يبدأ الطفلان الدراسة معًا في المدرسة، لكن رواسب الآثار النفسية السيئة لهذه الليلة الفاجعة كان له تأثيرها الكبير على يوسف سواء في تعليمه أو اندماجه مع الآخرين؟
صار يوسف يُنادى من قبل الآخرين بيوسف القويوجاقلي، نسبة إلى قريته التي خرج منها. يحكي الراوي في الفصول الأولى عن إقامة يوسف الجديدة في المدينة رفقة أسرة القائمقام، ومشاعر الحنين والذكريات التي انتابته لقريته، والتي حالت دون أن يتأقلم مع المكان الجديد، وبعد فترة استطاع أن يتخذ من كاظم ابن روشوت أفندي صديقًا له، يتابع السَّارد يوسف وعلاقته بشاهندة هانم زوجة القائمقام، والتي لم تكن تحبه، ومن ثم صارت علاقتهما باردة بعض الشيء. وسط هذه الأجواء يكبر يوسف وبالمثل معزّز، وتتحول مشاعر الإخوة التي أرادها الوالد إلى حب بين الطرفين، ففي يوم من الأيام اعترفت معزّز ليوسف بحبها، وهو ما أصابه بالحيرة أولاً لأن أمل مبادلته الحب مات داخله، وثانية بسبب فقره، إلا أن مُعزَّز ساندته وحمته أيضًا لكن ثمّة مشكلة كانت تتمثّل في أن الأم تريد تزويجها من شاكر أفندي، النقيض التام ليوسف على مستوى الأخلاق وأيضًا الثراء. علاقة الصدام بشاكر تبدأ في أحد أيام العيد عندما خرج يوسف وَمُعزَّز وبعض أصدقائهم إلى مهرجان للترفيه والتسليّة، وهناك يأتي شاكر وَيُحقِّرُ مُعزّز فيتصدَّى له يوسف بالضرب، وهنا يُقْسم شاكر بأنه سينتقم من يوسف. ومن هنا يدخل يوسف في صراعيْن غير متكافئيْن؛ الأوَّل مع السيدة شاهندة أمّ مُعزَّز والثاني مع شاكر الفتوَّة وصاحب الأخلاق السيئة.
قلب للإيجار
على الجانب الآخر عندما علمت الأمّ بخبر هذه العلاقة تدفع بشاكر للزواج منها، ويبدأ بالفعل شاكر خطواته للانتقام، فيلعب مع الأب القمار، ومع توالي الهزائم تتزايد الديون على الأب، هنا يظهر شاكر بأنه مُستعدٌّ للتنازل على الدين مقابل زواجه بمعزّز وهو ما تؤيده الأم. لكن يتدخل يوسف ويقترض المال من صديقه علي البقّال، ويستطيع سداد دين القائمقام. ومع الأسف في هذه الحالة تُجْبَر مُعزَّز على الزواج مِن علي بسبب الدّين، في حين معزّز مغرمة بيوسف فترفض الأمر إلا أن القدر يسوقه إليه سوقًا. وبالمثل كان شاكر رافضًا لهذا الزواج، فيتدخل بعنف ويقتل علي في قاعة الزفاف، لكنه يستطيع أن يرشو موظفين في الدولة وتتم تغطية جريمة القتل. وإزاء هذه الأحداث المتصاعدة يُقرِّرُ الحبيبان الهرب إلى قرية مجاورة. ثارت الأم لهذا الهروب بل إنها قرّرت عدم مسامحتها والانتقام منها، في حين الأب فَرِحَ كثيرًا، وقدّم لهما المساعدة، فيتوسط له للعمل، ويحصل على راتب نظير عمله في البلدية، ولكن بعد موت الأب إثر أزمة قلبية يُطرد من عمله بعد تدخل السيدة شاهندة وشاكر أفندي. يُصاب بالحرمان ويعود مرة ثانية لحالة الفاقة والذل. ذروة الانتقام بالأمّ تدفعها لأن تفتح بيتها للدعارة حيث الشَّراب والمتعة، وتستقطب الرجال لهذا، بل وتصرُّ على أن تقود ابنتها لهذا الطريق. تصل الإشاعات إلى يوسف بعد أن تناقلها الجميع في السر والعلن، فيغضب ويعلن أنه لن يقف ساكتًا وخاصة وهو يعمل جاهدًا. ويذهب إلى البيت ويطلق النار بشكل عشوائي في كل أنحاء الغرفة فيقتل الأم والقائمقام الجديد وشاكر، حتى أنه يصيب زوجته بجروح خطيرة. يحاول أن ينقذ زوجته ويأخذها إلى خارج القرية إلا أنها تتوفى في الطريق. يدفن زوجته في حفرة تحت شجرة في الطريق ثم يختفي.
هذه هي الحكاية التي صاغها صباح الدين علي ليُبرز الصّراع الطبقي في تلك الحقبة، وكان أوّل مَن لفت الانتباه بكتاباته لهذا الصراع الذي كان طاغيًا وقاتلاً. كما كشف عن الفساد والرشى التي كانت سائدة وكانت هي الأخرى وسيلة من وسائل الضغط والظلم على الكادحين، فيدفعها الأثرياء فينجون بأفعالهم القذرة. كشفت الرواية عن تحالف الفساد والمال والضمائر الخربة، وأيضًا عن سطوة الأغنياء ضدّ الفقراء. ومن ثمّ كانت الرِّواية أشبه بصرخة احتجاج صامت وبالكلمة ضدّ أوجه الفساد في تلك الحقبة من تاريخ تركيا. يعتمد المؤلف على راوٍ عليم غالبا، يصاحب السرد والشخصيات أينما ذهبوا، كما أنه يرتكز على الوصف سواء وصف الطبيعة أو وصف دواخل الشخصيات وما ينتابهم من تغيرات هي نتاج الصراع الدرامي الذي خلقته الرواية.