الأدب الكبير متى يكتب؟
الأدب الجميل والجاد هو الذي يولد في زمن الأزمات. ما علاقة الكتابة، في جمالياتها وقوتها وصدقها، بالأزمات السياسية والاقتصادية؟ هل الكتابة الإبداعية قادرة بمنطقها التاريخي والذاتي والجمالي على تجاوز الأزمات المادية الاقتصادية، وبالتالي أن تكون خارج الشكوى وخارج التباكي السياسوي؟
هل الإبداع، والكتابة الأدبية على وجه الخصوص قادرة أن تتعافى خلال الأزمة التي تمر بها أمة ما؟
بين لنا تاريخ الثقافة والإبداع بأن للكتابة منطقها الخاص في التاريخ، منطقها في تشكيل تاريخها.
مع هبوط سعر البترول في السوق العالمية ولأن البلد يعتمد على هذه الثروة الطبيعية في إطعام الشعب اعتمادا كليا يقارب المئة بالمئة، تمرّ الجزائر بأزمة مالية حادة، وأمام هذه الأزمة هناك قطاعات يتم التضحية بها فتقلص ميزانياتها وعلى رأسها قطاع الثقافة، الضحية الأولى دائما في العالم العربي، وهو بالفعل ما جعل ميزانية وزارة الثقافة في الجزائر تتقلص إلى أكثر من النصف بعد أن كانت قد قاربت الواحد بالمئة، وأمام هذا الوضع المالي الجديد، وعلى خلاف غالبية البكّائين، أرى بأن الثقافة والأدب الجادين هذا هو زمنهما المناسب، فحين يجفّ الضرع، ضرع الدولة، الذي لطالما رضع منه الرديء والانتهازي والمتسلل، تبدأ الساحة الأدبية في الصفاء والوضوح، ولن يبقى في نهاية المطاف، في الساحة، من الكتّاب ومن الناشرين أيضا إلا من يستطيع أن يضمن خبزه من القراء الذين يحبونه ويتابعونه بالنقد والإعجاب وبالانتظار أيضا.
أتابع بدقة مشهد النشر والكتابة في الجزائر منذ أن طلعت شمس السنوات العجاف! وأسجل بارتياح انسحاب كثير مما كان يسمّى بدور “نشر” والتي كانت وزارة الثقافة، وأموال وزارة الثقافة ووزارة المجاهدين، هي من تتولّى تغطية مخطوطاتها التي جلّها لا يقرأ.
لقد قيل في الإعلام، وبكثير من التبجح والانتفاخ الديماغوجي، أننا نشرنا مليون كتاب، وآلاف العناوين خلال السنوات العشر الأخيرة، وأنا أتساءل اليوم بعد مرور سنوات على تظاهرات ثقافية شكّلت عصب النشر الانتهازي في الجزائر، ومثلت موائد ولائم لكثير من الكتاب، وهي: سنة الجزائر في فرنسا (2003) وسنة الجزائر عاصمة الثقافة العربية ( 2007) وسنة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية 2015 وسنة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011 وسنة مهرجان (الباناف) المهرجان الثقافي الأفريقي 2009، وسنة تظاهرة تخليد الاحتفال بالذكرى الخمسين للاستقلال (1962-2012)، وكلها تظاهرات ثقافية صرفت عليها وفيها مئات الملايين من الدولارات، وهنا أتحدث في باب الكتاب والنشر فقط، أتساءل بكثير من العفوية والمرارة: ما الذي بقي من منشورات هذه المناسبات من كتب خالدة تقرأ في البلد أو تصدر إلى القارئ في العالم العربي أو في العالم الأوروبي الفرنكفوني؟
دون شك الثقافة فعل حضاري وهي في الوقت نفسه إبداع ذاتي، والثقافة إلى ذلك اقتصاد وتجارة، اقتصاد وتجارة بميزات خاصة، استثمار في الرأسمال الرمزي وربح أيضا في الرصيد البنكي.
وأعتبر الجزائر، على سبيل المثال، من الدول العربية والأفريقية التي تملك من الطاقات في الأدب والسينما والموسيقى ما يمكنها أن تحوّل هذه الأسماء إلى ثروة اقتصادية حقيقية. لماذا يحقق كتابنا وفنانونا وسينمائيونا وموسيقيونا نجاحا تجاريا لصالح أكبر الشركات الأجنبية في أوروبا ولا يعتمد عليهم في الاستثمار الثقافي الوطني؟ أذكّر هنا، على سبيل التمثيل، بموسيقى الرّاي من الشاب خالد إلى مامي والموسيقيين من إيقربوشن والصافي بوتلة إلى الأدباء من أمثال ياسمينة خضرا وبوعلام صنصال وآسيا جبار وكمال داود… ومن الفنانين التشكيليين من أمثال رشيد قريشي وامحمد أسياخم.
أعتقد أن سوء التدبير مع وفرة المال المراق على الثقافة (و هنا أتحدث عن الثقافة ولكن قطاعات أخرى ابتلعت أموالا مضاعفة خلال الفترة نفسها دون أيّ مردود يذكر كالفلاحة مثلا وغيرها) جعل الجزائر تعيش حالة من الفوضى الثقافية، وتم خلط الأوراق، فقد اختلط الحابل بالنابل، الجيد بالرديء، وأصبحنا بقدرة قادر نرى عشرات الكتاب ينشرون أعمالهم الكاملة في مجلدات عدة أنيقة على حساب وزارة الثقافة حيث لا أحد يقرأ مثل هذه الكتب، ولكن وراء هذه العملية يجني الناشر مالا وفيرا على حساب الوزارة الوصية، كما يجد الكاتب فيها فرصة للانقضاض على طرف الخبزة.
وفي مثل هذه الحال من سوء التدبير وكثرة المال العمومي غير المراقب، تغتال الأسماء الجادة الجديدة وذلك بأن يتم تغريقها في وهم الوصول السريع أو بوضعها في كيس واحد مع أسماء كثيرة أخرى رديئة أو غير موهوبة، وبالتالي تنتحر إما غرورا أو من خلال تعويمها داخل أسماء كثيرة وهو ما يسمى بالترذيل (la banalisation).
الآن وبعد أن ألغي الدعم أو قلّص إلى درجات كبيرة، أشعر بالهواء النقي بدأ يهب على الساحة الثقافية، وهو شعور الكثير من المثقفين والكتاب، لقد اختفت كثير من دور النشر المشبوهة من الساحة، والتي ظلت ترتزق على الأموال العمومية وتنشر كتبا لا يقرأها أحد، شأنها شأن كثير من عناوين الجرائد التي تُمْنَحُ المليارات من الدنانير من خزينة الدولة في شكل إعلانات ولا أحد يقرأها ولا تشكل أيّ وزن في الرأي العام.
إنني من المؤمنين بأن الأدب يرتفع سهمه، قراءة وجمالا، حينما ينمو داخل الحرية والصدق والموهبة، وهي قيم يجب أن يدفع الكاتب الأصيل ثمنها، أما رعاية الأدب بالمال العمومي غير المحاسب عليه فهي رعاية ملغومة تقوم في غالب الأحيان بهدف تقليم أظافر الكتابة النمرة، وتحويلها إلى أرنب، وفي عملية كهذه يحوّل الكاتب إلى موظف بسيط أو سمسار يقف عند باب معيله، وبالتالي يقبل بأن يمد لسانه للقص ولغته للتلوث وعرضه للهتك وتصلى عليه الجنازة.