عطالة العقل الجدلي في النقد العربي المعاصر
هذه الممارسات الحضارية ألقت بظلالها على تحولات النقد، حيث وصف ويليم ويليك القرن العشرين بأنه قرن النقد بامتياز، وهذا نتج بعد انفتاح النقد على علوم وفلسفات متعددة، فبرز التحليل النفسي والاجتماعي والشكلاني والماركسية وغيرها. والمتأمل في النقد سيجد أنه متعالق بالمنتج الحضاري، وبما أن الثقافة العربية لم تقدم إسهامات حقيقيةً حضاريةً على صعيد البنى الفكرية والفلسفية لجملة من العوامل، فإن النقد العربي بدا تابعاً، لا يمتلك منظوره القائم المتصل بخصوصية الواقع العربي بكل ما يحمله من قضايا وهموم، على الرغم من أن هذه الوقائع تتطلب وعياً نقدياً، غير أن غياب المنتج الحضاري، اضطر النقد العربي للتأثر بالفكر الغربي، ولكن من منظور التقنية والظاهر الاصطلاحي.
لقد تبنى النقد العربي آليات ووجهات النظر الغربية بمعزل عن سياقاتها الفلسفية، غير أن هذا، وإن بدا حتمياً في غياب البديل، مع الإشارة إلى أنه قد حقق بعض التقدم، يبقى غير أصيل، بل منبتّ الصلة بالدور الحقيقي للنقد بوصفه ممارسة تستهدف تطوير العقل نحو صيغة إنسانية تتسم بتبني قيم معينة. إن مفهوم القيمة، أو فلسفة القيم الأكسيولوجيا في الفكر العربي مرتبك، فضلاً عن كونه يستند إلى تراث لاهوتي أو أخلاقي أو ببنية ثابتة تخشى من التحول، ولهذا فإننا نمارس النقد تبعاً لمتغيرات حضارات أخرى، كون حضارتنا أسيرة الثبات، وبناء عليه فإن نقدنا لا يحمل أيّ صيغة راديكالية معرفية، كون قيمنا الحضارية منجزةً، فكان البديل الاشتغال على بدائل نقدية منقولة، لا يتلفّت منها إلا إلى نسقها الوظيفي الخارجي أو بوصفها قيمةً مجردةً من الفكر، فهي ليست إلا أداةً ظاهريةً. لقد بتنا نستعين بمنظومة إشكالية أنتجها الغرب، ولكن كي يتعامل مع وقائعه الخاصة، ونحن لم نتمكن من تطوير هذه الوجهات التي اتخذناها مقدسات نسعى لأن نتمثلها، مع أن هذا يبدو شديد التشاؤم، غير أن ثمة في المشهد ما يدفع إلى شيء من الارتياح كون النقد الغربي أو العالمي قد انشغل في السنوات الأخيرة بأفكار الناقد الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد، وتحديداً خطاب ما بعد الكولونيالية، والذي قد اكتنه واقعاً حضارياً تاريخياً، إذ حاول تلمس القيمة الفكرية للممارسة النقدية القائمة على المتخيَّل الخطابي، من منطلق رؤية تستند إلى مواقع التمثيلات المتبادلة بين المهيمن والمهيمن عليه، وبهذا فإن ثمة إسهاماً نقدياً، ولكنه للأسف كان نتاج مناخات الغرب العلمية.
ومن المعضلات التي تبرز عند البحث في إشكالية النقد العربي تلك المعضلة التي تبحث في مفهوم الناقد المثقف والاتصال بما هو عام وخاص تبعا لوجهة نظر كانط، فالنقد العربي بوصفه فعلاً مؤسساتياً، قد شهد مشكلات حقيقيةً تتصل بالمؤسسة الراعية للنقد، وأعني المؤسسات التعليمية والأكاديمية التي، وإن بدأت في مطلع القرن أكثر وعياً بدروها الحضاري والنقدي، سرعان ما انحرفت لتتحول إلى صيغة من صيغ السلطة التي صاغتها تبعاً لتصوراتها، وبذلك فإنها بدت كيانات تمارس الثقافة، ولا تنطوي على قيمة حقيقية. فبعض النقاد الأكاديميين أصبحوا متصلين بالمؤسسة عضوياً، وهي بدورها كرّستهم موظفين أكاديميين، تبعاً لأهوائها التي صنعت محاصصةً سياسيةً أو قبليةً أو طائفيةً أو سياسيةً، الأمر الذي تسبب في نبذ العقول النقدية، وتحولها عن الفعل النقدي، فالكتابة النقدية العربية شديدة التلوث، إنها تنتهج سياسة ما يمكن أن نطلق عليه النأي بالنفس الحضاري؛ ولهذا فهي تمارس نقداً أداتياً. ومع إدراك لعبة التبادلات والعلاقات الاجتماعية سنجد أن من يتبوّأ الصدارة في المشهد النقدي العربي لا يمثل العقل النقدي الجدلي، ولهذا فالظاهرة النقدية تبدو بلا نواتج أو أفعال، كما أنها لا تهدف إلى التغيير.
لا ريب في أن المؤسسة والتحولات التي طالت منصات النشر والتعبير، قد أحدثت ضرراً بالغاً على النقد والأدب. ومع أن ثمة ازدحاماً في الكتابة الأدبية غير أن النقد بدا عبارة عن مجاملات نقدية نشأت في الحواضن الرقمية وعلى صفحات الصحف والمجلات الأكاديمية ومواقع التواصل الاجتماعي، تحكمها الصداقات القائمة على تبادل المنافع والتوجيه الإعلامي المتبادل.
كان بيير بورديو قد تحدث عن الإقصاء الذي تمارسه المؤسسة بحق البعض، عبر حرمانهم من حق الوصول للمعرفة التي تقصر على فئة مجتمعية محددة، وبذلك فقد احتكرت القيمة الفاعلة في المجتمع لتغدو نسقاً مهيمناً، وهذا ما ينطبق على النقد العربي المؤسساتي الذي اختُطف وارتُهن من قبل مجموعة استطاعت، في غفلة من الزمن، أن تنشئ واقعاً نقدياً مستهلكاً وشديد التخلف والبدائية، وهذا انعكس على قيمة الأدب العربي الذي لم يتمكن من ولوج العالمية بوصفه أدباً، فقد اتسم أغلبه بالافتقار إلى المنظور الفكري والحضاري، ولا يزال في طور التمثيل والتجسيد للمشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية. وبناءً عليه فإنه أدب غير معني بالأفكار أو الصفات الحضارية علاوةً على تفعيل العقل النقدي الموضوعي المنغمس بإشكاليات الإنسان العربي، كما أنه يفتقر إلى المنظور النضالي المتعالي على الحدود الضيقة والمناطقية، ويُعدّ هذا، بشكل أو بآخر، نتاج مؤسسات ذات تبعية للسلطة.
من المعضلات التي تبرز عند البحث في إشكالية النقد العربي تلك المعضلة التي تبحث في مفهوم الناقد المثقف والاتصال بما هو عام وخاص تبعا لوجهة نظر كانط، فالنقد العربي بوصفه فعلاً مؤسساتياً، قد شهد مشكلات حقيقيةً تتصل بالمؤسسة الراعية للنقد، وأعني المؤسسات التعليمية والأكاديمية التي، وإن بدأت في مطلع القرن أكثر وعياً بدروها الحضاري والنقدي، سرعان ما انحرفت
إن كافة التيارات النقدية التي شاعت في العالم الحر كانت نتاج عمل مؤسساتي لكن بمعزل عن الحواضن السلطوية، فعلى سبيل المثال مدرسة فرانفكورت التي أخذت على عاتقها نقد الرأسمالية ومظاهرها الإعلامية، في حين أن النقد الجديد نشأ في حاضنة جامعية، ونعني جامعة كمبريدج التي ثمّنت النقد الداخلي بوصفه ممارسةً أقرب إلى تحقيق معيارية متقدمة من اكتناه النص، وهذا ما يجعل من النقد ضمن علاقة جدلية مع الفكر والفلسفة والمنظور، وذلك تبعاً لعلاقاته الدينامية مع الحياة، سواء أكان من حيث نبذ القيم القائمة على بنى داخلية ذات طبيعة علموية، أو على العكس من ذلك يسعى إلى تحقيق الارتهان لقيمة خارجية كما نقرأ في النقد الماركسي والبنيوية التكوينية، أو عبر الممارسة الثقافية التي فعّلها رايموند وليامز.
لقد كان النقد وسيطاً بين العالم والرؤية التي تحكمه، وهذا ما يجعل من النقد العربي جباناً كونه يسعى إلى الإبقاء على تموضعه في المؤسسة التي تبقي على وجوده في إطار مفاهيمها. ولهذا فإن انتشار النقد اللغوي، أو الألسني كان وسيلةً، في بعض الأزمان، لعدم التورط بأيّ مواجهة مع القيم العقلية. إنه خروج يتستّر خلف القيمة الأداتية أو نقد تقني بلا تأثير. ورغم أن الأدب، في معظم الأحيان، يجب أن يسعى إلى مواجهة القبح في عالمنا العربي فإن النقد قد تحول إلى ركام من الأنساق المجردة اللغوية التي ترفع حرج المواجهة الفكرية وتسعى لإرضاء جميع الأطراف ضمن صيغة توفيقية، فبات نقداً بلا مخالب أو تقنياً خالصاً.
لا شك في أن النقد في معضلة حقيقية لأن النقاد المعاصرين، وأعني الأجيال الجديدة التي بدت عازفةً عن ممارسة النقد الحقيقي إلى ممارسة التوصيف النقدي الذي لا ينطوي على رؤية أو مشروع، وهذا يعلل بأن معظم النقاد المعاصرين لا يحملون وجهة نظر فكريةً تجاه عوالمهم، فهم غير مثقفين، كونهم لا يؤمنون بالأفكار هم فقط متعلمون اطلعوا على المناهج النقدية، ومارسوها بلا وعي متشكك تجاه عالمهم، فهذا النقد لا يقود إلى نتائج أو خلاصات.
وفي الختام، لا بدّ من القول إن ثمة مشاريع نقديةً أسهم بها نقاد ينتمون إلى أجيال أكملت ما بدأه طه حسين ومحمد مندور وإحسان عباس وغيرهم، كما نجد في مشاريع لكل من كمال أبوديب وعبدالله إبراهيم وصلاح فضل وجابر عصفور وفيصل دراج وعبدالفتاح كيليطو وعبدالله الغذامي، وغيرهم الكثير، لكنّ ثمة توجساً من قدرة الأجيال المعاصرة على تكوين توجه نقدي حقيقي يتصل بالإشكاليات التي يعاني منها المجتمع، فالنقد العربي ما زال عالقاً في الأطر التقنية شديدة السهولة والأمان، ولهذا نجد أن تيار النقد البنيوي ما زال الأكثر تأثيرا على المشهد النقدي، في حين أن معظم التيارات النقدية التي اتخذت تموضعها في النقد المعاصر لم تشكل حضورا لافتاً، كون الأخيرة تتصل بقيم أيديولوجية معينة تجاه العالم والمجتمع، فنقد خطاب ما بعد الكولونيالية والنقد النسوي والنقد البيئي ونقد الأعراق والنقد القائم على الميول الجنسية والنقد الثقافي والتاريخانية الجديدة، كما النقد الماركسي، ما زالت مجتمعةً في مواضع شديدة التواضع والانحسار. ومع ذلك فإنني ما زلت أحمل قدراً من التفاؤل بأن المرحلة التي نعاينها الآن ما هي إلا فراغ يحتاج إلى الاكتمال كي يأتي شيء من بعيد يملؤه، ولا سيما أننا نشهد تحولات جذريةً في الواقع العربي القلق، وهو ما يعني بأن ثمة ديناميةً حيويةً جدليةً يمكن أن تلد طاقات جديدةً.