عادل السيوي.. شهريار اللا معنى
جلست أحتسي القهوة شاغلا بالي بأمرين؛ أولا سعادتي بأن أرى، على حد علمي، أول معرض “أونطولوجي” لثيمة واحدة عن الحيوان لفنان مصري وعربي بهذا الوعي المتكامل بمفردة الأنطولوجي، أي التعقب الذهني والحسي لتطور الثيمة داخليا وخارجيا. معرض امتد العمل فيه لأعوام ستة في إخلاص تام للثيمة، وفي مراوحة تلقائية حينا وعمدية دراسية حينا آخر منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي.
الأمر الثاني؛ لماذا كان عادل السيوي تحديدا هو من امتلك الجرأة على فعل ذلك؟
دعونا نتعقب سِمات الفنان من مسارات عدة لنحصد إجابة واضحة لامتلاك الجرأة على هذا الفعل الفني “المُنتشي”، والكامنة إجابته في إيجاز في عنوان المقال، ولكنها في حاجة لإيضاح وبراهين.
عادل المُخاطِر الأصيل
لعل حوارنا عن تقديرنا الإنساني المتبادل لتشارلي تشابلن وشخصية المتشرد العظيم الذي يحيا في خطر دائم ومتعاقب قد يكون مفتاحا جيدا للنظر بما مر به الفنان من خطورة؛ فمنذ الشباب ونحن إزاء شخصية تبحث برغم العوائق الإجتماعية والذاتية في وجودها؛ فقد ترك الطب واتجه نحو الفن التشكيلي غير عابئ بفقد المكانة الاجتماعية والمادية، ثم اجتذبته السينما في إيطاليا ثم عاد ثانية للفن التشكيلي، وحتى هذه اللحظة أظن أن حلم المخرج يداعبه سرا.
وقد يخاطر في لحظة ما مستقبلا في هذا الحلم، ولا يمنعه عنه سوى استقرار المصطلح اللاتيني “طريقة الحياة” Modus Vivendi في عقيدته العملية، والمتجسد في انضباط وانفلات روزنامته المُخلِصة لوسيطه التشكيلي، والذى شكل معرضه الأخير هذا ممرا نحو خطورة أكثر من معارضه السابقة.
فنحن إزاء كائنات متعددة متفردة تهاجمك شخصيا بفردية وجودها، أو تهاجم موضوع اللوحة ذاته لتتبادل معه إما تغيير السرد وإما اثراءه، وإما الذهاب به بعيدا نحو وجود ثالث يتخطى المتعارف عليه، أو حتى نفي وجود السرد ذاته الذي اشتهرت به معارضه السابقة.
عادل الحكاء المثير
يُحكى أن من ضمن فضائل شهرزاد، تلك الراوية الأشهر لحكايات الألف ليلة وليلة، والمُرفِهة بحكاياتها عن الملك شهريار تفاديا، بالإرجاء اللاهث، لـ”خطورة” النهاية، أنها كانت مُطارِدة دؤوب للكتب والسجلات وأساطير الملوك السابقين، وتُبدي معرفة مرهفة بأعمال الشعراء، دارسة لكل من الفلسفة والفنون والعلوم والإنجازات في تلك المجالات.
وكما كانت سمات شهرزاد كذلك أتت سمات معكوسها شهريار الذي أنصت منذ بداياته لمُعلِمه الأصيل، والذي من فرط تقديره لأهميته ترجم كتابه الشهير “نظرية التصوير”، وهو المصور الاستثنائي ليوناردو دافنشي، حين نصحه “ليس لمرء الحق في حُب أو بُغض أي أمر ما لم يكتسب معرفة عميقة بطبيعته”.
وذلك ما أبداه في معارضه السابقة والمتوالية، سواء عن المكان أو الوجوه، في سرديات مصور زيتي لحكايات المكان أو الأنثى، ولا فرق لديه في ذلك بين مكان شهير أو سري، أو أنثى شهيرة أو مجهولة لنا، فكل منهم له حكايته التي يحكيها لنا بصريا عبر معرفة حسية / ذهنية عميقة بطبيعة ذلك المكان أو تلك الأنثى من زاوية نظره.
وجزء كبير من المعرفة مبني على الحكاية، ومن يعرف عادل يدرك أنه حكاء سلس، وأن اهتمامه بالحكاية، المبتذل منها والراقي، جزء من طبيعته وشغفه في الحياة. فإذا ما حكيت له حكاية زادك منها كرما بحكايات في ذات المسار أغلبها ضاحك واقلها ذو أسى.
عادل الفضولي والمتلصص الصريح
كما قال فرويد عن معلمه دافنشي إنه الوحيد الذي أبدل عاطفته بالفضول، نجد صراحة داخل أعماله ذلك الاهتمام الفضولي والمتلصص على ما يلفت انتباهه وحواسه من الشخصيات والمشاعر والأماكن وحتى الأشياء.
ساندته في إعلانه لهذه الصراحة اللونية والتصميمية أولا جرأته في الكشف عما عثر عليه دون تردد، كمحقق خاص يعمل لحساب كشف أمر ما على سطح لوحته، وثانيا تمكنه ومرونة باليتة ألوانه مع أسلوبه الخاص واتساقه مع تلك الصراحة، وتتبعه المعرفي الدؤوب لعمق أزمة سطح اللوحة، مسترشدا في صراحة كُتَله اللونية كمصور بدافنشي الجالس على كرسي مميز في تسلطه الفني ومهديا له “فيل الصراحة أسفل قدميه في ذات اللون”.
ولكن مبتعدا عن ألوان معلمه الحمراء والزرقاء والخضراء الصريحة RGB متجها نحو تبني الـCMYK المُخلقة منهما أو عبر الخلط بينهما في نسب مناسبة للتصميم والهدف منه، وذلك ضمن مجموعة تحياته لمعلميه من روافد الفن مثل بيكاسو وبول كلي وجراندفيل وبوش وبيسانيلو ومارينو ماريني وفناني المغول.
عادل وغريزة البقاء الأصيلة
لوحة: عادل السيوي
وكما قلت كثيرا “من وضع صيغة نهائية للفن وللحياة كمن نحر ذاته وأخذ يرقب نزيفها”؛ فحين ينكفئ الفنان على فهم متكلس للعالم، ولا يتابع مستجداته في كافة المجالات بوعي مُستثَار دائما، ينضب معينه مكررا نفسه لينزوي خارج الزمن والمكان والمنافسة، مثله مثل أي أرتيزان يستعرض آفاته على أنها فن، أو كفنان تحول، لسبب أو لآخر، لذات الاستعراض التافه إنسانيا وفنيا، منتجا شيئا لا يصلح سوى لمكبات القمامة، أو لمزركشات ومجسمات تتسق مع تزويق مناضد طعام أو حوائط البرجوازية ونوافذ خيباتها وجروح كبريائها، أو لتصبح في أحيان كثيرة مراهقات جمالية لإعادة إنتاج تجارب تاريخية إنسانية وفنية أكثر عمقا وتأثيرا.
مراهقات لا تنطلي في أي حال على عين فنية خبيرة في تاريخ الفن وعملية إنتاجه على جدران الكهوف والتوابيت سواء الحالي منه أو القديم. وذلك عكس ما يمثله السيوي تماما؛ فغريزة بقائه قوية، ما دفعته نحو تثوير دائم لذهنه ومعارفه وخبراته، وبالتالي سطحه، بأفكار ما بعد الحداثة الفلسفية والعلمية والاجتماعية وجعلته يجاهر بانتمائه لـ25 يناير، بالقول والفعل، دون وجل أو تراجع، بعقل ناقد ثاقب يزداد وعيا ونقدا للذات وللجماعة يوما بعد يوم.
وهو ما يفتقده الأرتيزان المنكفئ على ترهاته اللونية المرتعدة والمتصلبة في نرجسيتها المتهافتة. ويظهر ذلك عبر إدلائه برأيه في أعماله “النظام العالمي الجديد” ومحاولته المتهكمة والمجاورة للأساليب في “آخر معارك بطوط (1) و(2)”.
عادل العدواني
أخيرا؛ ومن أجل توجيه المسار التحليلي نحو مسار عقلاني مُثمِر أكثر، للتأكيد على فرضيتي في أن كل فعل إنساني يصدر منا له صدى أخير، وأصيل، في غريزة أساسية من غرائزنا الخمس، والمتمثلة في التملك والخوف والبقاء والجنس والعدوانية، متوجها، في الأساس منه، نحو تلبية حاجة يكمن أيضا صداها الأخير والأصيل في غريزة أخرى منها.
وإذا ما اتفقنا على السابق، وعلى أن حديثنا هنا ينصب على الوجه الإيجابي لا السلبي لتلك الغرائز، سنجد أنه وعند أقصى تجل لتلك الغرائز الخمس تتوج جميعها بـ”الخروج من الذات” Ex-tacy. وفي هذا السياق سنجد مفارقة جديرة بالاهتمام قد تكون مفتاحية لفهم وإحساس تجربة عادل السيوي الأخيرة “في حضرة الحيوان”، وفهم وتقدير طبيعة ودهشة ونجاحات “فعله الفني”.
وعلى الجانب الآخر أيضا فهم وتقدير لطبيعة ودهشة ونجاحات “فعل الفرجة” لدينا أمام لوحاته. إن هذه المفارقة تقبع في كون الصدى الأصيل والأخير “للفعل الفني” يصل لغريزة العدوانية متوجها، في الأساس منه، لتلبية صدى أصيل وأخير في حاجة لغريزة التملك، بينما ينتسب “فعل الفرجة”، على العكس منه، في صدى أصيل وأخير لغريزة التملك تلبية لصدى أصيل وأخير لحاجة في غريزة العدوانية.
نعم عزيزي الفنان أنت عدواني لتمتلك وعزيزي المتلقي أنت تريد الامتلاك لتهدئة المتعدي داخلك، فقط من قراركما للذهاب نحو الآخر “بمعناه الواسع″ وكلاكما يشرع فعله في وجه الآخر، وهو ما قد يُنتِج في الأخير لديكما ما تعارف عليه لدينا بمنحي صوفي بـ”الانتشاء”. والجدير بالملاحظة والابتسام هنا، هي تلك اللحظة من الرغبة الأصيلة لدى المتلقي في امتلاك عمل ورفض الفنان لبيعه، حيث تصبح لحظة الصدام الوجودي في أوجها!
دعنا ننتقل الآن تحديدا لسؤال لماذا وضع الفنان مفردة “الحيوان” الملتبسة في جمعها بين ثنائية المعجم المقدس والمدني بجانب كلمتي “في حضرة” في عنوان المعرض الطموح للغاية؟
لوحة: عادل السيوي
ومن أجل هذا لننتقل تباعا أولا؛ من مجاز السجين والزنزانة حيث مُحاصَرة المرء لفترة طويلة في حيز ضيق ومغلق لتأتيه “لحظة غضب كافكاوية مكتملة” يتمنى فيها التحول لكائن آخر يستطيع الطيران عبر نافذتها، أو المرور أسفل عقب بابها، أو امتلاك قدرة كائن أقوى ليحطم حصاره!
وثانيا؛ نحو إعادة تمثيل لخطاب طفل داخلي Inner Speech أمام العالم ودهشته الحسية بالعين أولا ثم باقي الحواس أمام الموجودات الأخرى غاية التنوع في خطابها وعيونها المتبدلة، بين الشرس واللطيف والفاتر بدرجاتهم، وغاية الانغلاق على ذلك الطفل في معناها .. “يعني إيه نملة؟ يعني إيه فيل؟” نعم هي أسئلة بسيطة ومعتادة؛ لكنها قد تزلزل التصميمات الوجودية حين نتوقف عندها في بحث أصيل!
وثالثا؛ نحو لحظة رجاء واجتهاد الصوفي حلاجي النزعة، والذي يصبو فيه للخروج من جسده نحو المطلق. واجد هنا تشابه باسم وعليل في آن واحد بين جملتي “يا جسدي يا سقمي” لدى متلق حساس و”يا سطحي يا سِقمي” لدى فنان يعادله في غياب اليقين والبحث عنه!
لقد قام عادل بتفجير معنى العنوان ذاته ليعيد له حريته في إعادة التركيب.
هكذا كانت لحظة الرجاء والاجتهاد الصوفي واستعادة الخطاب الداخلي الطفولي، ثم أخيرا التحرر من زنزانة المعنى بالنسبة لعادل السيوي الإنسان والمحترف والفنان، ذلك العائق الذي يسعى للخروج منه نحو أرض جديدة للإدراك الحسي والإدراك الذهني والتوجه بذاكرته نحو القدرة على استعادة الدهشة أولا ثم امتلاكها أخيرا.
لذا كان عليه ومن أجل التخلي عن المعنى بالمنطق الحداثي وهو ابن أصيل لها، حيث الحكايات الكبرى والسرديات الفوقية والسطح متكلس الإرادة بفعل الثنائية ساكنة الفهم للزمان والمكان، أن يتوجه نحو براح اللا معنى عبر أوضح خيط في بكرات ذاكرته، ذلك الخيط العنيد على التفسير وحصر المعنى، والذي حار فيه الطفل والفيلسوف على حد السواء، وهو خيط الحيوان، أولا عبر خيط الحيوان الأليف، ثم المروض فالبري فالطيور فالحشرات فالأسماك وهكذا، لتعدو كرة الكون الحيواني في الثلاث قاعات في بهجة ودهشة وحيرة.
مستنهضا مراوحته الدائمة منذ ثمانينات القرن الماضي للخروج من الذات، وتكثيف الصدى الأصيل والأخير لغريزة العدوانية الإيجابية بطريقة مكتملة في “فعله الفني” حتى “الانتشاء”، وذلك من أجل تلبية الصدى الأصيل والأخير لحاجة في غريزة التملك.
حيث تَمَلُك “الحرية الفنية” مزيحا في طريقه، ومخلخلا في إنجاز فني، ثنائيات الفريسة والصياد والضحية والجلاد والسيد/الفنان والعبد/التلميذ، محتفيا بهما ومعاديا لهما في آن.
ومن هنا يمكن فهم وتقدير طبيعة ودهشة ونجاحات “أعماله” لدى المتلقي العادي والمتمرس والفنان الموهوب والأرتيزان البغيض. فالأغلب منها ناجح في خلخلة الزمان والمكان داخل إطار اللوحة، وبالتالي خلخلة تقليدية موروث الفرجة لديهم جميعا. والنادر منها وقع أسير مرافعات دفاعية صارمة عن المفهوم وعن طريقة العمل الـ Modus Operandi.
وهذا الأمر، من وجهة نظري، مشروع في ظِل مُخاطرة من هذا النوع، وفي ظل النجاحات العصية على الحصر بين الـ270 لوحة المعروضة.
وفي الأخير؛ أرجو أن أكون قد أجبت على سؤالي “لماذا كان عادل السيوي الوحيد بين أقرانه القادر على التجرؤ للتحرر من المعنى”، بحيث يكون مُنصفا لنا، وله، أن نحتفي بصاحب الـ Modus Vivendi “طريقة الحياة” والـ Modus Operandi “طريقة العمل”.
أن نحتفي بـشهريار اللا معنى في حضرة الحرية!