عالم الحزام الأسود والجريمة والفساد
تلعب عتبات الرواية دورا مهما على مستوى خلق أفق التوقّع عند المتلقي، والتحفيز الواقعي الذي يحاول من خلاله الكاتب أن يوحي بالمطابقة بين شخصيات الرواية وأحداثها والواقع، من خلال نفي هذه العلاقة في التنويه الذي يصدّر به الكاتب روايته. كذلك يلعب التصدير الشعري دورا آخر في الكشف عن المرجعية الخارجية التي يحيل عليه عنوان الرواية، وتتكشّف دلالاته من خلالها.
وبقدر ما يحمل العنوان في بنيته النحوية الدلالية من معنى مجازي مكثّف، يحيل على عالم الرواية وشخصية بطلها، فإنه يشي بطبيعة العالم الذي تعيش فيه هذه الشخصيات، وتتحرك محكومة بأقدارها في مواجهة هذا الظلام الذي تحيا فيه.
وتبرز واقعية السرد من خلال العتبة المكانية التي يفتتح بها الرواية، وتتولى وصف المكان الذي تعيش فيه بطلة الرواية خدوج وأسرتها، وما تمثّله من وعي اجتماعي محكوم بظروف حياتها القاسية، نجد تعبيره في علاقة التمييز التي تقيمها بين أولادها الذكور والإناث.
وإذا كان وصف المكان يحدد هوية ساكنيه على المستوى الاجتماعي، فإنّ هذا الوصف يبلغ مداه دلاليا سواء من حيث كونه فضاء مغلقا (فضاء البيت)، أو من حيث صفاته كما يبدو من الداخل “كانت الحصير المهترئة المفروشة على الأرض المتربة الرطبة، في غرفة واطئة، خالية من المنافذ، قد حفرت آثارا مؤلمة في جسد ناحل، لا يبرز منه غير بطن ولولد”.
بعد هذا الوصف للمكان وتقديم شخصية الزوجة، يقوم الكاتب بتقديم شخصيات الأسرة الأخرى. أما على مستوى زمن أحداث الرواية، فإنّ الأحداث المعروفة، التي تتحدث عنها الرواية تحيل على هذا الزمن، وهو النصف الثاني من ستينات القرن الماضي، كما يظهر ذلك من خلال انشغال هذه الشخصيات بأحداث فلسطين وجمال عبدالناصر وحرب فيتنام.
عالم الجريمة المنظمة
ترسم الرواية صورة شديدة القتامة لعالم القاع الاجتماعي، الذي تعيش فيه هذه الشخصيات وسط الروائح الكريهة والفقر الشديد وبيوت الصفيح، لكنها على الرغم من هذه الشروط البائسة لحياتها تجد نفسها فجأة تحت رحمة رموز الفساد لسلطة الاستبداد، بعد أن تقوم ببناء منزل طيني، تعمل البلدية على هدمه لأن صاحبه ليس عضوا في حزب السلطة.
لذلك تجد نفسها تعود من جديد إلى بيوت الصفيح وسط روائح مصبّات مجارير الحي المكشوفة. وكردّ فعل على هذا الظلم يأخذ الابن الأكبر بالبحث عن شخصية موظف البلدية المتسلط على حياة السكان للانتقام منه، متخذا من عتمة الليل ستارا له، لكنه يصطدم في طريقه بالعصابة التي تعمل لصالحه، فيخوض معها معركة شرسة ينتصر فيها، لكنه يخرج منها مصابا بجرح بالغ، ينقل على أثرها إلى المستشفى.
تتوفى والدة الكامل شخصية بطل الرواية الرئيس، فتحمل أخته الصغرى مسؤولية رعاية الأسرة، أما هو فبعد أن يعود من المستشفى يذهب إلى بيت حميدو لكي يتعرف إلى الشخص الذي أصابه بجروح بليغة، وهناك يتعرف إلى عالم الجريمة والفساد والجنس والخمرة واستغلال حاجات النساء جنسيا. إنه عالم الجريمة والجنس والبؤس والمخدرات المحكوم بسلطة الأشرار وقوة السلطة كما يروي حميدو للكامل عنه “واقعنا يا صديقي مزر. قال حميدو.
إذا غابت الشمس واختفى ضوء النهار حل السواد المخيف في كل زنقة، كل بيت، كل نفس، فنضطر إلى الانسحاب من هذا الواقع، على عالم خبيء مليء بكل ما نشتهي، وفي الأقل بما يمكن أن نشتهيه فنناله، عالم الخمر والنساء”. لكنه على الرغم من ذلك تعيش فيه شخصيات نقية، تمتلك مشاعر الحب الصادق والعاطفة الجيّاشة التي تمثّلها أخته وصديقها المعلم.
عالم الرواية
تتسم الرواية ببنيتها السردية الخطية، المتعاقبة والمتصاعدة نحو الذروة، حيث تتولى شخصية الراوي سرد أحداثها وتقديم شخصياتها مستخدمة لأجل ذلك ضمير الغائب. ويظهر التعدد اللساني في لغة الرواية من خلال استخدام الكاتب مستويات متعددة منها، تظهر من خلال الجمع بين اللغة الفصحى واللغة المحكية، لا سيما عند تضمين مقاطع من الشعر الشعبي والأمثال في سياق السرد، بُغية الإيحاء بواقعية الرواية، وواقعية أحداثها وشخوصها.
يستخدم الكاتب إلى جانب لغة الوصف والإسهاب في سرد التفاصيل، لغة المونولوج المعبّرة عن عاطفة جيّاشة في المواقف الدرامية المؤثرة، كما في حال الابنة عندما تأخذ في مناجاة والدتها بعد وفاتها، حيث يطيل الكاتب في هذا المونولوج محاولا أن يُظهر عمق العاطفة التي تفيض بها، وتأثير غياب الأم على حياتها بعد أن تركتها وحيدة، تحمل عبء القيام بشؤون الأسرة على الرغم من حداثة عمرها.
وعلى الرغم من هيمنة شخصية الكامل على عالم الرواية وأحداثها، إلا أنها تعدّ رواية شخصيات بامتياز، حيث يرافق نموّ أحداثها ظهور شخصيات جديدة، تعيش على الجريمة والانتقام وتجارة المخدرات والجنس، الأمر الذي يستدعي حضور شخصيات نسائية كثيرة أيضا تتقاطع أقدارها مع أحداث الرواية، وما ينشأ عنها من وقائع جديدة (وريدة- المعلمة مليكة- نادية- زمردة- حبارة..).
شخصيات الرواية
مع حالة الفقر الشديد التي تعيشها شخصيات هذا القاع الاجتماعي للمدينة، تكون الجريمة وتجارة المخدرات والجنس هي الوسائل المتاحة أمام سكان هذا القاع لتحقيق وجودهم واستمرارهم، لا سيما مع تواطؤ السلطة وغياب الاهتمام بتحسين شروط الحياة لسكان هذا الحزام الأسود كما تسمّيه الرواية، لذلك تغدو القوة هي الوسيلة الناجعة لتحقيق الوجود، والدفاع عن الحياة في عالم محكوم بالعنف والقوة والصراع.
وتعدّ شخصية بطل الرواية كامل وما يتمتع به من قوة وبأس مثالا حيّا، على هذا الواقع، الذي يدخله بحثا عن الانتقام، ليجد نفسه وقد أصبح جزءا منه، بعد أن وجد نفسه يغرق في ملذات الجنس والشراب، ولكن دون أن يفقد حس المروءة والشجاعة، التي تجعل منه رقما صعبا في مواجهة خصومه الكثيرين من سكان هذا القاع.
وكما تظهر شخصية كامل فجأة وتفرض إيقاعها على حركة السرد وأحداثه، نجدها تغيب فجأة في نهاية الرواية، لتكثر التقوّلات حول مصيرها وأماكن ظهورها، الأمر الذي يجعل العلاقة بين عتبة السرد وخواتمها تبدو مترابطة، وتؤكد على وحدة بنية السرد في هذه الرواية.