الإصلاح الفلسفي بين مأزق الانغلاق ومطلب الانفتاح
تمثل الفلسفة المحور الحقيقي لتقدم الأمم والشعوب، وتعتبر الأساس الذي تنهض عليه الحضارات. لذا يقول الفيلسوف الفرنسي ديكارت في كتابه “مبادئ الفلسفة” إن حضارة الأمة وثقافتها تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها. ونشير في هذا السياق إلى أن من أهم قضايا الإصلاح الفلسفي في الوطن العربي، قضية تدريس الفلسفة في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، والتي تمثل إشكالية حقيقية في واقعنا العربي المعاصر.
من الملفت للنظر والمثير للدهشة والعجب أن نرى تراجعا لتدريس الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا في الدول العربية، ومن مظاهر هذا التراجع تلك الحملة الشعواء والهجوم الشرس على الفلسفة وتدريسها، ومحاربتها على مختلف الأصعدة، والسبب الرئيس في ذلك كما نرى هو ذلك الانطباع الذي رسّخ في الأذهان على مر العصور بأن الفلسفة ليست لها أهمية، كما أن دراستها عديمة الجدوى والنفع، كما أنها ضد الدين ومتناقضة معه، وفي هذا المسار يوجد تيار ممنهج لمحاربة الفلسفة، والاهتمام بالعلوم الدينية على حساب الفلسفة، في الوقت ذاته يتم تحريم الفلسفة والحد من حضورها في بعض الجامعات العربية.
من هنا تعتبر قضية تدريس الفلسفة في الوطن العربي من القضايا المحورية والمهمة المطروحة على الساحة، والتي ترتكز على سؤال جوهري هل نحن بحاجة إلى تدريس الفلسفة أو دراستها في مناهجنا التعليمية؟ ومن الأهمية بمكان أن نضع في الاعتبار أن هذه القضية تكتنفها عدة إشكاليات يفرضها الواقع العربي المتأزم، كما أنه توجد عقبات وعوائق تسيطر على تدريس الفلسفة وتقف كسد منيع يعوق انتشارها وحضورها في واقعنا العربي المعاصر.
ولعل من أهم هذه العقبات والعوائق سيطرة العقل السلفي بما يمثله من جمود يعوق التفكير العقلي الحر، والوقوف الحرفي عند النص، ومصادرة الاجتهاد العقلي الذي يعتبر من المحرمات أو التابوهات، وهذه هي الطامة الكبرى التي أدت إلى تأخر الوطن العربي بوجه عام، والفلسفة بوجه خاص. أيضا من العقبات التي تعوق انتشار الفلسفة وانطلاقها إلى آفاق رحبة عملية النقل والتي ترفض كل تفلسف، وكل استخدام للعقل والتفكير، أيضا طغيان العلوم التطبيقية والتقنية على العلوم الإنسانية.
ورغم العقبات والعوائق التي تقف سدا منيعا أمام حضور الفلسفة وانتشارها، إلا أننا يجب أن نلفت الانتباه هنا إلى حقيقة مهمة وهي الوعي بأهمية ودور الفلسفة في المجتمعات الإنسانية بوجه عام والعربية بوجه خاص، إذا رجعنا إلى ابن رشد مثلا الذي يمثل رائدا من رواد التنوير العربي، والذي دعا في كل مؤلفاته إلى نهضة عقلية وتحرر عقلي عن طريق إعطاء الفلسفة مكانة كبيرة، عندما رأى أن الحكمة (الفلسفة) هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة وهما المصطحبتان بالطبع، المتحابتان بالجوهر والغريزة. ويجب أن نوضح ونضع في الحسبان أن معركة تحرير عقول الأجيال العربية، لا تنفصم ولا تنفصل عن واقع إصلاح التعليم الديني في الوطن العربي، بمعنى أن هناك ارتباطا وثيقا وعلاقة لا تنفصم عراها بين واقع إصلاح التعليم في الوطن العربي، ودراسة الفلسفة.
بناء على ذلك نرى أن تدريس الفلسفة والاهتمام بها والعمل على انتشارها، تمثل ضرورة ملحة وحاجة ماسة لا يمكن إغفالها أو غض الطرف عنها، لأن تدريس الفلسفة يؤدي وظيفة محورية وهي تشكيل وتكوين العقل النقدي الذي لا يقف عند حدود الأشياء، بل يبحث عن حلول مبتكرة للقضايا الشائكة. إن مهمة تكوين هذا العقل ترجع بالدرجة الأولى إلى الفلسفة، لما تطرحه من عمق في التفكير، وفتح آفاق رحبة من الإبداع، كما تدعو الفلسفة إلى الحوار المثمر وفتح آفاق واسعة من التعددية والاختلاف الذي يثري الحوار الهادف.
ومن هذا المقام ندعو إلى تدريس الفلسفة حتى في مدارسنا الابتدائية، لمحاولة غرس التفكير النقدي في عقول النشء. ولمَ لا والفيلسوف يمثل ضمير عصره، ومرآته العاكسة لكل ظروفها وأحوالها، وعلى عاتقه تقع مهمة التنوير، وتطوير المجتمعات، لأن الفلسفة يظل عصرها معبرا عنه بالأفكار، كما قال هيغل.
ولعل من أهم عوامل الأمل في تفعيل النشاط الفلسفي في الوطن العربي الديمقراطية، التي تشكل عاملا محوريا وأساسيا في تفعيل الفلسفة على مستوى التعليم. لذا توجد علاقة وثيقة بين الديمقراطية والفلسفة، وليس هناك أوضح على تلك العلاقة من قول المفكر اللبناني نصيف نصار عندما قال إنه يمكن التفكير في العلاقات بين الفلسفة والديمقراطية انطلاقا من قضيتين مركزيتين هما أن الديمقراطية تحتاج إلى الفلسفة، والفلسفة تحتاج إلى الديمقراطية.
انطلاقا من كل ما سبق، سواء أكانت هناك عقبات أم عوامل تدعو إلى الأمل، فإننا بحاجة لإنعاش وتفعيل الفلسفة في جميع مراحلنا التعليمية في الوطن العربي، من أجل خلق جيل واع متحضر يملك أدوات من التفكير المبدع الذي سوف يعود على مجتمعاتنا العربية بالتطور وأن يلحق بالركب الحضاري، وأن يكون قادرا على حل المشكلات التي تواجه، لأننا عن طريق الفلسفة وتدريسها والعمل على انتشارها نستطيع التخلص من التقليد والإتباع، ونكون أكثر قدرة على التفكير الإبداعي الحر ومن هذا المنبر أدعو إلى دراسة الفلسفة والاهتمام بها والعمل على انتشارها، وتفعيل وجودها في مناهجنا التعليمية المختلفة من أجل غد مشرق، ومستقبل أفضل لوطننا العربي.
في النهاية يجب أن نشير إلى أن أزمة الفلسفة في العالم العربي هي أزمة الإنسان العربي، فالمجتمعات العربية يجب أن تتخلص من فكرة ضدية الفلسفة أو الضد العقلي، بمعنى الفلسفة الضدية التكفيرية على حد قول عالم الاجتماع خليل أحمد إن أزمة الفلسفة في العالم العربي تمثل محنة العقل العربي التكراري والتراثي، الذي يخاف من الانفتاح والتفكير. لذا يجب أن تدرّس الفلسفة بجميع أشكالها، ومن حق الأفراد في كل مكان أن يدرسوا بحرية الفلسفة، وأن يتولى تدريسها متخصصون متدربون، كما ينبغي ألا تخضع الفلسفة لاعتبارات اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية، كما ينبغي ربط الفلسفة بالواقع المهني والأكاديمي. ولو تم ذلك سوف يكون هناك جيل واعد قادر على التفكير النقدي الإبداعي، ونتخلص من الإتباع والتقليد.