الهوية الضائعة
يقول يوسف إدريس في مقدمة الطبعة الثامنة لمسرحية “الفرافير” 1988: وأنت تقرأ هذه المقدمة التي كتبتها لن تحس بالاستغراب لكثير ممّا جاء فيها وكأنها أراء سبق أن قرأتها أو سمعت بها، لكنها لم تكن كذلك عام 1964، كانت شيئا جديدا تماما على المسرح العربي كله وكان مجرد المناداة بها عملا جريئا يستحق من الكاتب قطع رقبته، والآن يبدو كل شيء عاديا وليس بالمستغرب، ذلك أن هذا الرأي كان جريئا وسرعان ما أخذ ينتشر.
منذ انطلاقته الأولى على يد الرائد المسرحي اللبناني مارون النقاش، وخلال أكثر من قرن ونصف القرن من وجوده، انشغل المسرح العربي نظريا وعمليا بالبحث عن هويته الخاصة، المتميّزة عن غيره من مسارح الأمم. بدأت عملية البحث هذه من خلال تظهير بعض العناصر الفرجوية والاحتفالية من تاريخ الشعوب العربية الأدبي أو القصصي أو الديني أو غيره، فاستخرجت أو استلهمت العناصر التي تحتمل التوليف وإعادة التركيب والمسرحة على وجه الخصوص، أو تلك التي يمكن إلباسها اللباس المسرحي في الشكل بالحد الأدنى.
وكانت قد بدأت عملية البحث هذه منذ المسرحية الثانية للرائد مارون النقاش “أبوالحسن المغفّل أو هارون الرشيد” التي استلهم موضوعها وأحداثها من حكاية بعنوان “النائم واليقظان” التي وردت في كتاب ألف ليلة وليلة حيث برّر النقاش سبب اختياره لها بقوله إنها “أحب من مسرحيته الأولى أي ‘البخيل’ عند قومه وعشيرته”.
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين لم تنقطع المحاولات التي اتخذت أشكالا متعدّدة غلب عليها الطابع الأدبي الشكلاني، والتي لم تتمكن من الغوص في جوهر الهوية المسرحية ومكوناتها الدرامية المطلوبة، فبقيت مجرّد إرهاصات غير مكتملة، تم الاعتراف لها بشرف المحاولة ولم تحصد نصر الإنجاز.
في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت حركة البحث هذه زحمة مبادرات أفرزت تحولا نوعيا كبيرا، لجهة ظهور مجموعة من المقترحات المسرحية المشغولة أدائيا وبصريا، والمدعمة بمراجع نظرية حول مسألة الهوية. تميّزت هذه المقترحات عن سابقاتها باعتمادها عناصر درامية محتملة في عملية المسرحة كأساس يبنى عليه الشكل الجديد المقترح. نستعرض سريعا أهم هذه المحاولات التي اقتربت من الصيغة المسرحية بنسب متفاوتة في ما بينها، بغض النظر عن مدى اقترابها أو ابتعادها عن تحقيق الهدف المنشود، أي الهوية المسرحية.
في هذا السياق جاءت صرخة يوسف إدريس تحت عنوان “نحو مسرح مصري” عام 1964، حيث استند إلى أسس استلهمها من مسرح السامر المصري بهدف خلق مسرح عربي أصيل، وقد شكلت هذه الصرخة تعبيرا صادقا عن الروح الطامحة للانعتاق من التبعية للغرب ثقافيا، ثم تبعتها دعوة توفيق الحكيم في “قالبنا المسرحي” عام 1966 إلى مسرح الفرجة. وفي سوريا أطلق سعدالله ونوس مقترحه في “بيانات لمسرح عربي جديد” حيث دعا إلى مسرح التسييس، ولا ننس دعوات عبدالكريم برشيد إلى المسرح الاحتفالي، والفريد فرج إلى مسرح السيرة والحكايات، وروجيه عساف إلى مسرح الحكواتي وعلي الراعي إلى المسرح الارتجالي وغيرها من الدعوات محدودة الأثر.
وعلى الرغم من الأهمية التجريبية والبحثية والجمالية لهذه الطروحات والمقترحات التي استفادت منها الحركة المسرحية العربية دون أدنى شك، كونها شكّلت محفزا ومحركا للإبداع والخلق الذاتي بعيدا عن الاقتباس والنقل على صعد الإخراج والتمثيل والكتابة والعلاقة مع الجمهور، إلا أنها في المحصلة النهائية انتهت إلى فشل في تحقيق الهدف الكبير الذي وجدت لأجله، ولم تتمكن أي منها من خرق الإطار العام للنشاط المسرحي العربي الذي استمرّ محكوما، ولا يزال، بالقوانين والشروط التي اصطلح على تسميتها بالـ”غربية” للمسرح، وهنا لا بد من محاولة استكشاف موضوعية للأسباب التي أدت إلى هذا الفشل.
يقول الشاعر أدونيس في معرض تحليله للأسباب الكامنة وراء الفشل في الوصول إلى خلق هوية عربية للمسرح “إن مفهوم المسرح ومقوماته في تناقض واضح مع الثقافة الدينية للمجتمع العربي لأن المسرح قائم على الصراع، بينما الثقافة الدينية في المجتمعات العربية تتسم بالبنية الخالية من الصراع، لأنها تقوم على الإيمان المطلق الذي لا يفسح في المجال للتساؤل، وكيف يمكن أن يزدهر المسرح في ثقافة لا يكون الإنسان في مركزها؟ فالإنسان في المسرح هو مركز الكون لكن الله هو مركز الكون في الثقافة الدينية للإنسان العربي. واللغة العربية هي لغة بيان وفصاحة أو لغة وحي وإنشاء وتمجيد، بينما اللغة المسرحية هي لغة التوتر والتناقض والقلق والصراع، وهي “لغة الحركة” بحسب أدونيس.
يلتقي هذا التحليل مع آراء مجموعة كبيرة من الباحثين والمنظرين في فن المسرح وفي المسألة الثقافية بشكل عام، ومن الطبيعي أن يكون لهذه الأسباب حجم تأثير لا يستهان به، تضاف إليها أسباب جوهرية تتعلّق بمكونات الهوية العربية السياسية والتاريخية والثقافية والاقتصادية التي تعاني من حالة تشرذم وضبابية ولم يتم التوافق على توصيفها حتى يومنا هذا، لذلك نجد أن البحث عن هوية للمسرح العربي في غير محله وفي غير زمانه كونه ينطلق من أساس وهمي غير موجود في الواقع- أي الهوية العربية- إلا في أحلام الشعوب التي يملك كل منها هويته الخاصة بكل ما تعنيه كلمة هوية من أبعاد قومية وثقافية وعرقية واجتماعية. وأستعير هنا رأي الناقد المسرحي المغربي عبدالرحمن بن زيدان حيث يقول “إن المسرح العربي مسارح، والكتابة فيه وحوله كتابات، وأسلوب الإخراج أساليب، ولغة المسرح لغات وعلامات ودلالات، لأن مشارب الثقافة المسرحية العربية متنوعة المصادر، متباينة المنطلقات”.
التباين في المنطلقات والتنوّع في المصادر يدلان بوضوح على عدم وجود أساس موضوعي لهوية عربية جامعة ومتينة يمكن أن يقوم عليها البنيان المسرحي العربي، فاللغة الفصحى الجامعة التي لا يتكلمها أي مواطن عربي بعفوية، تقابلها لهجات عربية متنوعة يصعب فهمها من غير أهلها في الغالب، والرغبة أو الحلم بالوحدة عند معظم الشعوب العربية يقابلهما على أرض الواقع السياسي تباعد وتنافر وخصومة تصل إلى حدود العداء أحيانا، والتناقض الاقتصادي الهائل بين دول فاحشة الثراء وأخرى غارقة في فقر مدقع، ودول قطعت أشواطا في التحرر الاجتماعي وأخرى لا تزال تتخبط في وحول الجهل والتخلف. كل ذلك يدعونا إلى التفكّر والنظر في مرآة الحقيقة والتساؤل: عن أي هوية قومية نتكلم؟ وتاليا عن أي هوية مسرحية عربية نبحث؟
وهنا لا بد من الاعتراف وبجرأة، أننا وبالرغم من كل محاولات التأصيل التي شهدناها في البلدان العربية، ومع الاعتراف المتكرر بأهميتها التجريبية، كنّا ندور في فلك منجزات المسرح الغربي الذي حاولنا التمّيز عنه. فالنصوص والمدارس والنظريات والتجارب المسرحية التي تعلم منها المسرحيون العرب في معظمها غربية – أوروبية، والمعاهد والجامعات التي أعدت وأسهمت في تكوين غالبية الكادر المسرحي العربي هي غربية – أوروبية، حتى ريبرتوار العروض المسرحية على خشبات المسارح العربية كان يستند في معظمه إلى نصوص غربية – أوروبية. وفي هذا السياق يقول المسرحي السوري فرحان بلبل إن “المسرح العربي ومنذ ولادته كان يركض لاهثا وراء المسرح الغربي، وكتُب النقد الأدبي العربي مليئة بكيفية تعلّم العرب لفن المسرح ونقلهم لا لقواعده فحسب بل ولمختلف مدارسه واتجاهاته وكثيرا ما كانت المدرسة المسرحية الغربية تعيش عند العرب بعد أن تنتهي موجتها وتأثيرها في الغرب”. بمعنى آخر لقد استخدم المسرح العربي الأدوات والمراجع والمعارف والخبرات الغربية – الأوروبية في بحثه عن هويته الخاصة لكي يثبت تميّزه عن هذا الغرب، وفي هذه المعادلة التباس وعشوائية كبيران.
إن إقرارنا بصعوبة الوصول إلى الهوية المسرحية العربية الواحدة التي تجمع ضمن إطارها الحركات المسرحية العربية، يفتح باب النقاش للإجابة على سؤال: أي مسرح نريد اليوم في زمن العولمة؟ لندخل من خلاله إلى دور المسرح وجدواه بالنسبة للإنسان العربي المعاصر، آخذين بعين الاعتبار تطور هذا الفن عالميا، وانتقاله عبر مراحل تاريخية من الكلاسيكية والرومانسية إلى الواقعية وتردداتها غير الواقعية وصولا إلى الحداثة وما بعد الحداثة، أين نحن من حركة التطور هذه؟ وهل مسرحنا الراهن يعكس تطلعاتنا الاجتماعية والفكرية والجمالية والفنية والتعبيرية؟ واستطرادا، هل ينعكس فقدان الهوية المسرحية الخاصة بنا على مستوى مواكبتنا لمراحل تطور المسرح العالمي؟
للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من تحديد موقع المسرح العربي اليوم على سلم حركة تطور المسرح العالمي، فهل نحن مواكبون لهذه الحركة أم متخلفون عنها؟ هل دخلنا في مرحلتي الحداثة وما بعدها فعلا أم لا نزال غارقين في الكلاسيكية والرومانسية والواقعية التي أصبحت من الماضي؟ والجواب المستند إلى الواقع هو جواب مركب، أي نعم ولا في نفس الوقت.
يلاحظ المتابع للمهرجانات والعروض المسرحية العربية اختلافا كبيرا في نوعية العروض وانتماءاتها الفنية والجمالية ومدى مواكبتها لمستجدات التطور المسرحي عالميا، ما يؤشر على حالة من التخبط وانعدام الوضوح في الرؤية عند المسرحيين العرب، ففيما يجهد بعضهم في البحث عن آفاق جديدة في التعبير مستخدما الأساليب الحديثة خارج القيود الكلاسيكية السائدة، نجد البعض الآخر غارقا في التقليد محافظا على صيغ مسرحية تخطاها الزمن. والمثير للدهشة أن هذين النموذجين يتعايشان جنبا إلى جنب في نفس المجتمع والمدينة والمسرح أحيانا. وهنا قد يقول قائل إن هذا التنوع يشكل حالة من الغنى الثقافي، وإن حرية التعبير تكفل لأي مسرحي تقديم رؤيته الخاصة للجمهور حتى ولو كانت تقليدية وفي هذا جزء من الحقيقة، لكننا من زاوية نظر مخالفة لهذا الرأي نقول إن وظيفة المسرح ودوره الاجتماعي والفني والثقافي والجمالي في حياة المجتمعات، ووظيفة الفن عموما، تفرض على المسرحيين التطلع إلى الأمام وفتح آفاق معرفية وفكرية وتعبيرية جديدة غالبا ما تقوم على تكسير الأنماط والثوابت السائدة التي تعيق تطور هذه المجتمعات. ومن هنا كان دور المسرح طليعيا في كل الأزمنة والأمكنة، خصوصا في زمننا الحاضر المحكوم بالعولمة التي فتحت حدود التواصل والتفاعل بين الشعوب والأمم على مصراعيها، ولم يعد بمقدور أي طرف الانغلاق على نفسه ودفن رأسه في الرمال والتخلف عن مواكبة العصر في شتى الميادين.
إن صيرورة التاريخ والتطور لا ترحم المتخلفين عن اللحاق بها، والمسرح العربي ومنذ تأسيسه كان في مقدمة الفنون التي انقلبت على التقليد ودخلت في محاولات التحديث، وفي هذا السياق يقول الناقد اللبناني بول شاؤول “المسرح عندنا هو أول الحداثة، والمفارقة اللافتة في الظاهرة المسرحية المبكرة (والمقصود هنا ظاهرة مارون النقاش) تكمن في أن المسرح كان من الإشارات التجديدية الأولى قبل الشعر والرواية والفن التشكيلي، علما بأن المسرح كنوع مستقل بلا تراث عندنا والأنواع الأخرى تكاد تكون راسخة في التراث العربي”. إنها حقيقة تاريخية لا يجوز إهمالها بل يجب البناء عليها لتأكيد الدور الطليعي للمسرح في حياتنا، وذلك من خلال مواكبة تطورات الحداثة في المسرح وتعميم ثقافتها ونشر معارفها وتقنياتها، والدخول في تجارب ما بعد الحداثة من دون تردد، وتحفيز الأجيال المسرحية الجديدة في الجامعات وفي الفرق المسرحية المحترفة والهاوية على الخوض في تجارب مسرحية حديثة والخروج من التقليد ومن المعالجات الدرامية الكلاسيكية التي يمكن أن تبقى كخيار جمالي يستخدمه المسرحي عند الضرورة وكجزء من العملية الإبداعية. فالكلاسيكية كمادة نصية أو كعنصر جمالي قد تكون مطلوبة لا بل ضرورية أحيانا، لكن المهم كيف نقدمها لجمهور اليوم، والمؤكد أننا لا يمكننا تقديمها بأسلوب أو معالجة كلاسيكيين، وأستذكر في هذا السياق مسرحية “هاملت” التي قدمها المخرج الكبير انغمار برغمان في موسكو في نهاية الثمانينات والتي أحدثت صدمة “حداثية” إن صح التعبير في نفوس وعقول الجمهور الروسي الذي لم يكن قد تخطى الحصرية الستانسلافسكية الواقعية بعد، وذلك عندما تشقّق جدار كبير في خلفية المسرح ودخل منه هاملت ورفاقه في بداية المسرحية بلباس مغنّي “الروك أند رول” يحمل كل منهم راديو كاسيت على كتفه وموسيقى الروك العصرية تصدح منه.
في الخلاصة لكل جيل مسرحي همومه وتطلعاته ورؤياه التي تعبر عن زمنه والتي تختلف عما سبقه من أجيال، وعندما تعيد الأجيال الجديدة إنتاج الأفكار الإنسانية ذاتها بالأساليب والمعالجات نفسها تتوقف حركة التطور والارتقاء، إنها دعوة إلى الخروج من الثوابت الكلاسيكية ومن الواقعية ومن المدارس الجامدة في المسرح العربي والانطلاق نحو الفضاء الواسع في التعبير ومواكبة المنجزات المسرحية المتجددة والمتغيرة باستمرار من دون أي تردد أو خوف، إنها دعوة إلى ممارسة الدور الحقيقي الطليعي للمسرح في حياتنا، وإلى تغيير السائد من أجل تطويره، لكي يكون مسرحنا انعكاسا لصورتنا الحقيقية كما نريدها نحن وليس كما يريدها لنا الآخر كائنا من كان.