المهرجانات المسرحية العربية وآلية التواصل مع الشباب المسرحي
على الرغم من هذه التغيرات التقنية والمعرفية، إلا أن بعض هؤلاء المسرحيين الشباب قد أصروا على إقامة جسور بينهم وبين مسرح الجيل السابق ولا سيما لجهة استخدام النصوص التي كتبها هؤلاء، فنرى كتابا مسرحيين أو دراماتورغ أو مخرجين شباب يستخدمون نصوص الكتاب الجيل السابق، على سبيل المثال: نصوص من تونس ولبنان ومصر وسوريا والعراق والإمارات والأردن.
وفي كلتا الحالتين نجد أن منهم من يتواصل مع الجيل السابق ومنهم من ينقطع عنه، فتحدث الفجوة الثقافية ويبدأ البحث عن خصوصية الهوية باعتبار هؤلاء الشباب قد انزاحوا عن هذه الخصوصية وذابوا في الثقافة المسرحية الغربية، الفنية والفكرية.
وينجلي ذلك في الجانبين الفكري والفني في أعمال هؤلاء الشباب وفي مشاركاتهم في المهرجانات، حيث يطرحون أفكارهم ويناقشون آراءهم، خاصة أن بعض هذه المهرجانات تخصص في تجارب الشباب، لا بل تقتصر على مشاركتهم فقط، وتُعرف بمهرجانات “مسرح الشباب” (كمهرجان الكويت لمسرح الشباب العربي، ومهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي، ومهرجان مسرح الشباب العربي في العراق، ومهرجان مسرح الشباب الأردني ‘عمون’، ومهرجان دبي لمسرح الشباب، ومهرجان الصواري المسرحي للشباب في البحرين، ومهرجان مسرح الشباب في الرياض).
وإلى جانب ذلك، هناك من يعمل على دمج الشباب وإشراكهم في المهرجانات التي يشارك فيها الجميع، كمهرجان المسرح العربي في دورته العاشرة الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح في تونس. ولا سيما أن مؤسسيها مسرحيون عارفون بشؤون المسرح وشجونه ومدركون لأهمية دور الشباب في تفعيل المسرح في العالم العربي.
رؤى الشباب
من ضمن عدد كبير من الأوراق التي قدمها باحثون وأساتذة أكاديميون عرب، في الندوة الفكرية التي عقدت على مدى أربعة أيام في هذا المهرجان، شاركت أربع أوراق لشبان وشابات مسرحيين عرب، عالجت موضوعات تعبر عنهم، وتخاطب عصرهم، وتتزامن مع إيقاعه، وتنسجم مع ثقافتهم المستندة إلى الصورة والتقنيات، فتناول المخرج المسرحي المصري الشاب عادل عبدالوهاب أنواع المسرح التي تقدم حديثا على الخشبتين العربية والعالمية، ومنها المسرح التفاعلي، للتعريف بآلية معالجتها لقضايا تخصه وتخص أزمات زمنه وزمن جيله، معرّفا بتوظيف هذا المسرح لأدوات تقنية وبنى فنية تجسد خطابه.
كما قدمت صراح سكينة تلمساني من الجزائر ورقة بعنوان “قضايا ما بعد الاستعمار”، وهي تعالج القضايا السياسية والمجتمعية في الجنوب الأفريقي برؤية متقدمة وبمنهجية علمية دقيقة. أما سماء إبراهيم من مصر، فقد قدمت موضوعا مهما جدا مستخدمة ما يُعرف بـ”البيرفورمانس″ (فن الأداء)، لمتابعة زمنية الحدث وآنيته، وهاجسها الكبير هو معالجتها لقضية التفاعل مع المتلقي ومحاورته، أينما كان، في السوق أو في الشارع، أو في المكان العام والشعبي، مستخدمة عروضا يشاركها الناس والمتلقون في تقديمه، من ذلك مثلا عرض تظهر فيه امرأة مكبل جسدها بالسلاسل، فتطلب أمن حد المارة فك أسرها، لكنه يرفض ذلك موجها لها عبارة ذات دلالة مهمة جدا هي “أنت التي وافقت على أسر جسدك فلتفكي أسرك بنفسك”.
وبحثت صوالح وهيبة من الجزائر في موضوع “الفرجة على المسرح الرقمي التفاعلي”، رصدت فيه كيفية توظيف التقنية الرقمية في المسرح.
تواصل الأجيال
إن تناولنا لأوراق هؤلاء الشباب لا يعني أنهم قد جاؤوا بما لم يأت به أحد، أو لم يعالجه الباحثون الآخرون في المسرح الرقمي، أو المسرح الذي استخدم التقنيات وعلاقته بالمتلقي الحديث، إلا أن مشاركة هذه الأوراق الأربع تدل على خلق حالة تواصلية مع الجيل السابق من باحثين وكتاب ومخرجين وممثلين، من خلال حوار ونقاش يستهدف المنهجية أو الإشكالية، أو الرؤية، أو دراسة البنية الفنية، أو رصد كل هذه العناصر وتتبعها للتواصل بينهم وبين المتلقي. واللافت في هذه الندوات هو مناقشة هؤلاء الشباب لأوراق الباحثين من خلال مساءلاتهم التي تعني هواجسهم، وتلتصق بواقعهم، ما يدل على أهمية إشراك الباحثين الشباب في البحث العلمي، وإسهامهم في مناقشة أفكار الجيل السابق، الأمر الذي سيخلق بالضرورة حالة تثاقف بين الأجيال.
لا يعتقد أحد أننا نعرف فوق معرفة العارفين، لأن لهذا الجيل ثقافته ومعارفه التي نفيد منها أيضا نحن الباحثون من الجيل السابق، ولا سيما تلك التي يحصّلها هؤلاء من مصادر فنية وفلسفية ربما لم نتمكن من بلوغها، أو في أغلب الأحيان بسبب جهل بعضنا لكيفية التعامل مع هذه المصادر. لهذا أرى أن هذا الجيل قد فكّ الشيفرة وبدأ يحصل على معارفه، وهو لن يعود إلى الوراء، على الرغم من أن أغلبه لا يبغي الانقطاع عن الجيل السابق، فهو يهمّه التواصل معه، ولكن من دون التخلي عن خصوصية ثقافته التي تتلاءم مع جيله وأفكاره وقضاياه.
إن مشاركات الشباب المسرحي في المهرجانات والندوات والفعاليات والعروض المسرحية هي مؤشر مهم ودقيق على التطورات التي تحدث في مسرحنا العربي، وتدل على مسارات التغيير في البنية الفنية والفكرية لهذا المسرح، والتي يعبّر عنها الشباب بأنفسهم، فهم يعتبرون أن حضورهم ضروري على المنبر كباحثين يدلون بآرائهم ويعبرون عن خطاباتهم بلغتهم هم.
لهذا نرى أنه إذا كان من المهم أن تخصص للشباب المهرجانات والندوات تحت تسمية مهرجان مسرح الشباب، حيث يعرضون أفكارهم ومسرحهم، فإنه من الأهم أيضا أن تجمع المهرجانات مختلف الأجيال المسرحية، للتحاور والتثاقف، ما سيكشف حتما عن مسارات التغيير في هذا المسرح، وعن خصوصية هوية هؤلاء الشباب المسرحيين، الفنية والفكرية، بمعنى آخر ستظهر لنا أوراقهم وعروضهم مدى تفاعلهم مع الأجيال السابقة، وانفتاحهم على الثقافات المسرحية الغربية، ومدى مواكبتهم للتطور الفكري والفني والتقني.
إن مسارات التطور والتغيير في المسرح العربي لا تنجلي دون تتبع ممارسات الشباب المسرحيين العرب، فهم إن ظلوا أسرى ممارسات الأجيال السابقة، فلن يتطور مسرحنا، وإن انقطعوا عنها وذابوا في الثقافات والتقنيات الفكرية والفنية الغربية، فسيفقدون هويتهم، وإن تمكنوا من الإفادة من كلا المصدرين، فإنهم سيطورون المسرح ويحدثون فيه التغيير.